مقالة | القدس وغزة بين: مسيرة الأعلام العبرية ومؤتمر القمة العربية
الشيخ كمال خطيب
إنّه التزامن العجيب والمفارقة اللافتة بين موعد انطلاق مسيرة الأعلام العبرية في القدس الشريف يوم أمس الخميس 18/5/2023، وبين انطلاق جلسات مؤتمر القمة العربية في الرياض عاصمة السعودية اليوم الجمعة 19/5/2023. ولا أظن، بل أجزم أن حكام وقادة الدول العربية لم يكونوا على علم بأن قمتهم ستكون في اليوم الذي سيلي يوم انطلاق مسيرة الأعلام العبرية لما في ذلك من عظيم حرج عليهم. ولعلّ قارئًا وقائلًا سيقول إنه لا حرج ولا ما يحزنون، لأن هؤلاء وقد تبلدت مشاعرهم وماتت ضمائرهم فكيف لهم أن يُحرجوا وعليهم وفيهم يصدق قول الشاعر المتنبي:
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام
المسيرة العبرية
إنها المسيرة الاستفزازية التي ابتدعتها الجماعات الاستيطانية اليهودية احتفاء واحتفالًا بما يسمى يوم توحيد القدس، والمقصود اليوم الذي فيه تم احتلال القسم الشرقي من مدينة القدس في نكسة 1967 وضمه إلى القسم الغربي من مدينة القدس الذي احتلّ في نكبة 1948.
لكن ومع الأيام والسنين، فقد تحولت هذه المسيرة من نشاطات لمجموعات استيطانية إلى أن تصبح مناسبة شبه رسمية يشارك فيها أعضاء كنيست ووزراء، حيث تجوب الشوارع حول أسوار القدس الشرقية والبلدة القديمة، لا بل تتعمد السير في قلب البلدة القديمة والحي الإسلامي فيها، حيث يرفع المشاركون العلم الإسرائيلي، وحيث وتحت حماية الشرطة، يتم في كل سنة الاعتداء على المقدسيين وممتلكاتهم وسياراتهم في ظل نشوة القوة والعربدة التي يعيشها هؤلاء.
إن مسيرة الأعلام العبرية الإسرائيلية هذه ليست رسائلها موجهة للفلسطينيين فقط، وإنما هي موجهة لكل العرب والمسلمين لما للقدس من مكانة دينية وحضارية، لكنها القدس التي خذلها وطعنها عرب ومسلمون يوم تركوها تلعق جرحها وتكفكف دمعها وقد سلّموها للاحتلال ينهش لحمها وينتهك عرضها ويدنّس حرمتها في حزيران 1967 يوم احتلها الإسرائيليون مع ما احتلوه من أراضي العرب في الضفة الغربية والجولان وقطاع غزة وسيناء فيما سميت بنكسة 1967.
لكن زخم بل خطورة ودلالة هذه المسيرة، فقد ظهر جليًا في رمضان أيار من العام قبل الماضي 2021، حين أعلنت الجماعات الدينية الاستيطانية وتحديدًا يوم 10 أيار 2021 والذي كان يتوافق مع يوم 28 رمضان، ليس فقط عن تسيير المسيرة في شوارع القدس وأحيائها العربية، وإنما أنها ستقوم باقتحام المسجد الأقصى المبارك، الأمر الذي جعل الأحداث تتطور سريعًا لتصبح حملة عسكرية أسمتها غزة باسم “معركة سيف القدس” واصطلح عليها الاحتلال باسم “حامي الأسوار”، وتردد صدى تلك الأحداث في الداخل الفلسطيني حين هاجمت نفس الجماعات الاستيطانية أهلنا في اللد ويافا وحيفا وعكا، وامتدت ارتدادات الحدث إلى كل الداخل الفلسطيني من أقصى الجليل شمالًا وحتى أقصى النقب جنوبًا، حيث كان استشهاد موسى حسونة من اللد ومحمد كيوان من أم الفحم واعتقال أكثر من ثلاثة آلاف شاب من أبناء الداخل الفلسطيني، وقد اصطلح على تسمية تلك الأحداث باسم هبة الكرامة.
اللافت أن هذه الجماعات الاستيطانية وهي النواة الصلبة لمسيرة الأعلام، ومن هؤلاء حزب “العظمة اليهودية” الذي يقوده بن غفير وحزب الحركة الصهيونية الذي يقوده سموطريتش وأمثالهم في حزب الليكود الذي يقوده نتنياهو، إن كل هؤلاء قد توافقوا على الإصرار على تنفيذ المسيرة الاستفزازية مرورًا بباب العامود المَعلَم الفلسطيني المميز، ومرورًا بالحيّ الإسلامي في البلدة القديمة، ووصولًا إلى المسجد الأقصى لاقتحامه. وكيف لا يخططون مثل هذا التخطيط وهم يعيشون نشوة أن هذه الحكومة حكومتهم وأنها تنفذ سياستهم، وأن رؤساء وقادة هذه الجماعات قد أصبحوا اليوم وزراء “بن غفير وسموطريتش”. لا بل إن الشرطة التي كانت في المسيرات الماضية تضبط مسارهم وفق قرارات وسياسات حكومية، فإنها أصبحت اليوم هي من تنضبط وفق سياسات رئيسها والمسؤول عنها بن غفير بما يتلاءم مع تنفيذ مخططهم في خط سير المسيرة.
إن قادة هذه الجماعات والأحزاب ومن أصبحوا اليوم قادة إسرائيل، يؤكدون أن خط سير مسيرة الأعلام العبرية الاستفزازية لن يتغير وأنه سيظل وفق ما خُطط له حتى وإن كان ذلك ثمنه التصعيد بما يشبه ما كان عليه الحال في العام 2021، وهذا ما بدأت ملامحه تظهر منذ الأسبوع الماضي بالاعتداء الإجرامي على غزة وقتل القادة الثلاثة من حركة الجهاد الإسلامي مع زوجاتهم وأطفالهم وهم نيام. إنه الصلف وإنها العربدة وإنها نشوة القوة تجعل هؤلاء لا يفكرون إلا وفق هذا المنطق بعيدًا عن العقلانية والحكمة لا لشيء إلا لأنهم ينظرون إلى الواقع وإلى ما يجري بعين الصراع الديني الحضاري العقائدي بلا رتوش ولا تنميق مصطلحات.
القمة العربية
فإذا كان يوم أمس الخميس 18/5 فيه انطلقت مسيرة الأعلام العبرية في القدس الشريف، فإن هذا اليوم الجمعة 19/5 يشهد انطلاق مؤتمر القمة العربية الثاني والثلاثين في العاصمة السعودية الرياض.
ولأننا نعلم جميعًا أن هذه المؤتمرات أصبحت شكلية ولا قيمة لها، وأنها نسخة طبق الأصل عن سابقاتها لا بل إنها أصبحت سبة وعارًا على المشاركين فيها لأنه ليس لها أي نتائج تشرف العربي الذي يتوق للكرامة.
بعد الحريق الآثم الذي تعرض له المسجد الأقصى المبارك يوم 21/8/1969 على يد اليهودي الاسترالي دينيس تروهان، قالت جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل يومها إنها لم تنم تلك الليلة وهي تضرب أخماسًا بأسداس مما يمكن أن تكون عليه ردة الفعل العربية والإسلامية على حريق المسجد الأقصى شقيق المسجد الحرام في مكة المكرمة والمسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة. تقول جولدا مائير: فلما أصبح الصباح ولم أسمع إلا بيانات شجب واستنكار سكن خوفي واطمأن قلبي.
ها هو مؤتمر القمة العربية ينعقد بعد جولة تصعيد دموية قامت بها إسرائيل على قطاع غزة وبعد مسيرة الأعلام الاستفزازية والوقحة في القدس الشريف، ولن يكون الموقف إزاء هذين الحدثين إلا بيانات باهتة، وكيف لا ومن الزعماء والرؤساء والملوك العرب المشاركين في هذه القمة، قد أقاموا علاقات دبلوماسية رسمية مع إسرائيل، وتبادلوا معها فتح السفارات ومشاريع التطبيع مثل مصر والأردن والإمارات والبحرين والمغرب والسودان وحيث للسعودية لقاءات متقدمة جدًا مع إسرائيل توشك أن تخرج للعلن على شكل تطبيع رسمي وإقامة علاقات وفتح سفارات.
وإذا كانت قمتهم هذه لن تفيد الأقصى ولن تنفع القدس ولن تضمد جراحات غزة، فإن المستفيد منها سيكون طاغية سوريا بشار الأسد الذي تم الاتفاق على إعادة تأهيله وقبوله عضوًا في الجامعة العربية بعد أن كان طُرد منها بسبب جرائمه التي ارتكبها بحق الشعب السوري منذ العام 2011، حيث قتل قريبًا من مليون سوري وهجّر قريبًا من 12 مليون سوري، وما يزال مئات آلاف السجناء والمفقودين زيادة على هدم المدن والقرى واستخدام الغازات الكيماوية السامة ضد أبناء الشعب السوري.
إن إعادة العلاقة مع طاغية الشام رغم كل جرائمه، فإنما يدل دلالة واضحة أن مواقف الزعماء العرب لم تكن جدية وأنهم طعنوا الشعب السوري في الظهر حينما منعوا عنه الحصول على ما يدافع به عن نفسه ويسقط ذلك النظام الطائفي الدموي، وها هم الآن يُسقطون عن وجوههم الأقنعة بزيارات متبادلة مع الطاغية وفتح سفارات وإعادة عضويته إلى الجامعة العربية.
وكيف لهؤلاء أن ينتصروا للشعب السوري وهم الذين يسيمون شعوبهم بمثل وأكثر مما سام وظلم به بشار الشعب السوري، وهل يخفى على أحد مجازر السيسي بحق الشعب المصري، وما يفعله وما يزال محمد بن سلمان بأبناء وعلماء وشعب بلاد الحرمين وكلهم في السوء سواء.
وعليه فإن عودة السفاح بشار إلى الجامعة العربية لا يعدو كونه إضافة صفر إلى مجموعه أصفار، وكما قال المثل: “والتم المتعوس على خايب الرجا”. فكيف لعاقل أن يتوسم خيرًا بجاهة عربية يرأسها أحمد أبو الغيط، من كانت ولا تزال وزيرة خارجية إسرائيل ضابطة الموساد تسيبي ليفني من أصدقائه المقربين والمميزين.
وإذا كان يوم أمس هو يوم مسيرة الأعلام العبرية في القدس الشريف، واليوم هو يوم انعقاد مؤتمر القمة العربية في الرياض حيث ستكون بيانات القرارات لهذا المؤتمر باهتة وتافهة لا تساوي الحبر الذي كتبت به. أما القدس ونداءاتها وأما غزة واستغاثتها، فإنها وإن كانت لامست أسماعهم إلا أنها لم تلامس نخوة المعتصم:
رب وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتم
لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم
إنها القدس التي ما تزال تعاني سطوة الاحتلال وظلمه وبطشه وهو يتمادى في كل يوم في تدنيسها وانتهاك حرمة مسجدها، بينما لا يرد أصحاب العروش والكراسي إلا بمثل مؤتمر قمة الرياض كما قال الشاعر:
فضُّوا بِكَارَتَها، داسُوا كرامتها وهامَ في مقلتيها البؤسُ والعَدمُ
جَزُّوا ضفائرها، هدُّوا منابرهَا وفي آذانِنَا عنها بها صَمَمُ
نادت “وَامُعتَصماه” أدركْ عقيلَتَكُمْ قال الأشاوِسُ: نامي ماتَ معتصمُ
لكن هناك البديل الفَذَّ في يدنا حتى يسود الحقّ والعدْلُ والسَّلَم
مباحثاتٌ، وتصريحٌ، ومؤتمرٌ كذا عناقٌ يليه الوعْد والقسَمُ
وإنْ تمادَى العِدَى فالحلُّ مؤتَمر لنشْجُبَ ما عاثُوا وما أَثِمُوا
ولأن القدس شريفة فلن يحررها إلا الشرفاء، ولأنها طاهرة فلن ينقذها إلا الأطهار، ولأنها حرة فلا يليق لتحريرها العبيد إنما هم الأحرار، أما هؤلاء فإن تحرير القدس شرف لا يستحقونه، وإن هوية من ينال هذا الشرف معلومة وأوصافه معروفة وقد قال في ذلك الشاعر على لسان القدس:
قد عفَّر الوغد وجهي بالدم القاني ومزّق العلجُ أثوابي وأرداني
فصحت علَّ صلاح الدين يسمعني أو علَّ حيدرة الفرسان يلقاني
أين السيوف التي في كفّ معتصم صالت على البغي من فرس ورومان؟
حتى بدا فارس يزهو بلامته وراية الحق قد حفّت بفرسان
فقلت: مَنْ أنت؟ قال: الله غايتنا والمصطفى قائد والزحف ربّاني
والكل يهتف للقدس التي سلبت القدس يا أخت أهواها وتهواني
إنّا على العهد عاشت في ضمائرنا القدس يا إخوتي روحي وريحاني
قولوا لمن ظن أنّا لن نعود لها قد خاب ظنك وسواسًا لشيطان
ما أغباهم أولئك الذين يريدون أن يغالبوا قدر الله، وما أصغرهم أولئك الذين يريدون مواجهة إرادة شعب، بل إرادة أمة بعدم التفريط بالقدس والأقصى.
وما أحقرهم وما أصغرهم أولئك الذين لا يقرؤون التاريخ المشرّف لأمتهم وإذا بهم يرضون العيش طفيليين وعبيدًا عند من كانوا يومًا يقتاتون من فتات موائدنا ومن خيراتنا.
أما المسيرة العبرية، وأما القمة العربية، فسيأتي اليوم القريب الذي سيكتب التاريخ أن هذه كانت أحد أثافي زمن ضعف وهوان، وأن الأمة قد تجاوزتها وطوت صفحتها وإلى الأبد بإذن الله.
لا عزاء للمحبطين والمتشائمين واليائسين.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا..
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.