في ذكرى المولد النبوي الشريف: أحببناك دون أن نراك وبايعناك حتى نلقاك
يوم الأربعاء القريب 27 أيلول حيث يوافقه يوم 12/ ربيع الأول الذي هو يوم ذكرى مولد الحبيب الشفيع سيدنا محمد ﷺ. إنه اليوم الذي كانت البشرية تنتظره ليخلّصها مما أصابها من أمراض الشرك وفساد المعتقدات، وليخلّصها من أمراض اجتماعية وسلوكية نخرت فيها نخر السوس في الخشب، ولينقذها من دياجير ظلام الجاهلية الذي كان يلفها من كل جانب {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ*يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} آية15+16 سورة المائدة. {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} آية 2 سوره الجمعة.
لقد جاء المولد المبارك بعد الحمل المبارك، ومن لحظة الحمل إلى ساعة الميلاد فقد كانت البشرية على ميعاد مع دعوة إبراهيم يستجاب لها ومع بشارة عيسى تتحقق كما قال النبي ﷺ: “إني عند الله مكتوب خاتم النبيين، وإن آدم لمجندل في طينته وسأخبركم بأول أمر دعوة إبراهيم وبشارة عيسى ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني وقد خرج لها نور أضاءت لها منه قصور الشام”.
ذكرى تتجدد
لسنا ممن يحتفي برسول الله ﷺ عبر طقوس ومراسيم جافة نؤديها، وإنما احتفاؤنا بمولد رسول الله ﷺ هو بتجديد البيعة والعهد مع من أحببناه دون أن نراه، ولتظل بيعتنا له في أعناقنا حتى نلقاه يوم القيامة على حوضه ﷺ، وليقول لنا يومها إن شاء الله مرحبًا بأحبابي الذين آمنوا بي ولم يروني، ولنقول له مرحبًا بمن هدانا من ضلالة وعلمنا من جهالة وبمن رفعنا من سفالة وبمن أخرجنا من الظلمات إلى النور.
ذكراك فجر خالد يتجدد يفنى الأنام وكل يوم تولد
وتظلّ تحضنك القلوب فحسبها أن يستظل بها الحبيب محمد
نعم تتجدد ذكرى المولد الشريف ويتجدد معها ويزداد كل يوم اليقين بأن مولد محمد ﷺ كان فيه خير العرب خاصة والإنسانية عامة. وفي زماننا الذي نعيش فإنه اليقين الذي يزداد كل يوم بأنه لا نجاة ولا سعادة ولا عزة إلا بالإسلام الذي جاءنا به محمد ﷺ مصداقًا لما قاله سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “كنا معشر العرب أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام ومهما ابتغينا العزة بغير الإسلام أذلنا الله”.
وإنه العجب العجاب ممن يفاخرون بعروبتهم بينما يخجلون من الانتساب إلى دين النبي العربي محمد ﷺ كما قال الدكتور مصطفى السباعي: “زعموا أنهم عرب قوميون ثم لم نرهم يقولون كلمة واحدة في ذكرى الرسول ﷺ ولادة أو هجرة أو فتحًا، كذبوا لو كانوا عربًا حقًا لهزّتهم ذكرى باعث العرب ومخلد مجدهم في التاريخ إلى أبد الآبدين”.
ومثل المرحوم السباعي فإنه المرحوم محمد إقبال الذي قال: “أنا بريء من أولئك الذين يحجون إلى أوروبا ويشدّون إليها الرحال مرة بعد مرة ولا يتصلون بك أبدًا في حياتهم ولا يعرفونك” وليتك تعلم يا صاحب القلب المكلوم أنهم لم يعودوا يحجّون إلى أوروبا وأمريكا، بل إنهم اليوم أصبحوا يحجّون إلى قبلتهم الجديدة إسرائيل ليلًا ونهارًا وسرًا وجهرًا.
مش على رمانة، ولكن القلوب مليانة
إنَّ كتب التاريخ تتحدث أنه في العام 570 ميلادي العام الذي ولد فيه رسول الله ﷺ هو العام الذي جاء أبرهة الحبشي بجيوشه لهدم الكعبة المشرفة انتقامًا للإساءة التي سببها ذاك العربي للكنيسة الكبيرة التي بنيت باليمن وأراد من بنوها أن تصبح هي قبلة العرب بدل الكعبة المشرفة، فأراد ذلك العربي أن ينتصر للكعبة وفق فهمه فعبّر عن ذلك الانتصار بأن دخل إلى كنيسة “القليس” وبال فيها فكان أن أقسم أبرهة أن ينتصر للقليس ليس بأقل من أن يأتي لهدم الكعبة المشرفة وينقضها حجرًا حجرًا، فهل يصدق عاقل أن يكون تصرف أعرابي واحد سببًا لحرب سافرة على كل العرب بل على ملة التوحيد ملة إبراهيم عليه السلام؟!
وإن هذا الاستهجان والاستغراب من سلوك أبرهة يشبه إلى حد كبير الاستهجان من أن تكون كذبة وفرية أطلقها بعض الزوار الأوروبيين إلى القدس من أن المسلمين نبشوا قبر المسيح عليه السلام لتكون هذه الفرية الشعار الكبير الذي أطلقه الراهب بطرس الناسك فحرّض ملوك أوروبا وجنّدهم لإطلاق وتسيير حملات صليبية انطلقت من أوروبا لحرب المسلمين في الشرق، فاحتلوا بلاد المسلمين ودنّسوا المسجد الأقصى طوال 90 سنة مع علمهم أن المسلمين لا يؤمنون أصلًا أن هناك قبرًا للمسيح، لأنهم لا يعتقدون أن المسيح قد مات أو صلب {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ} 157 سورة النساء، وما سلوك أبرهة الأشرم ولا سلوك بطرس الناسك بالذي شذّ عنه الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن لما استغل ما حدث في نيويورك يوم 11/9/2001 وتدمير برجي التجارة العالمي ليعلنها حربًا سافرة على الإسلام، بل إنه قال في أول ظهور إعلامي له بعد أن خرج من جحره: “إنها حرب الصليب” وليقود حربًا سافرة احتل فيها أفغانستان ثم العراق وقسمًا كبيرًا من سوريا، وليعزز قواعده في دول الخليج حيث ظاهر الأمر الحرب على الإرهاب، وحقيقته الحرب على الإسلام.
وإن ما يجري هذه الأيام في دول أوروبية كالسويد والدانمارك عبر القيام بإحراق وتدنيس المصحف الشريف بحماية شرطية رسمية، وما قيام فرنسا بإعلان حظر اللباس الإسلامي في المدارس إلا مظاهر جديدة لحرب سافرة على الدين والكتاب والهدي الذي جاء به محمد ﷺ.
وعليه فإذا كان هناك من يبحث عن أسباب موضوعية تبرر تلك الحرب على التوحيد والإسلام منذ عام الفيل، العام الذي ولد فيه النبي ﷺ فإنه لن يجد أسبابًا موضوعية وليكون الجواب الحقيقي كما قال المثل: “مش على رمانة، ولكن القلوب مليانة”، ذلك المثل الذي قيل بعد قيام أحدهم بقتل آخر، فقيل لأنه سرق حبة رمان من بستان، لكن الحقيقة أن قتله كان بسبب حقد وعداء وقلوب مملوءة بالضغينة.
أحفاد أبي رغال
لم يكن لأبرهة وجيشه المعزز بالفيلة ذلك السلاح والقوة الضارية التي دبت الرعب في قلوب قبائل العرب ليصل قريبًا من مكة إلا بعد إذ قامت بعض القبائل بتقديم العون له، وبعد إذ تقدم عربي هو أبو رغال ليكون دليل أبرهة في الصحراء ليوصله عبر أقرب الطرق وأسرعها إلى مكة، وهو يعلم أن هدفه ليس إلا هدم الكعبة والبيت الحرام في مكة.
نعم لقد حمى الله بيته الحرام وكعبته المشرفة من شرّ الأحباش وصدقت مقولة عبد المطلب “إن للبيت ربًا يحميه” وأهلك الله جيش أبرهة بأن سخّر عليهم الطير الأبابيل {أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصۡحَٰبِ ٱلۡفِيلِ*أَلَمۡ يَجۡعَلۡ كَيۡدَهُمۡ فِي تَضۡلِيلٖ*وَأَرۡسَلَ عَلَيۡهِمۡ طَيۡرًا أَبَابِيلَ*تَرۡمِيهِم بِحِجَارَةٖ مِّن سِجِّيلٖ*فَجَعَلَهُمۡ كَعَصۡفٖ مَّأۡكُولِۭ}، لكنه العار والشنار الذي ظلّ يلاحق حامل هذا الاسم، أبو رغال وكل من ينهج نهجه ويسير على طريقه من الذين يختارون الخدمة والوقوف إلى جانب المحتلين والمغتصبين لأوطانهم ومقدساتهم يومها واليوم وكل يوم، ومع الأسف فإنه التاريخ بل إنه الحاضر يعلمنا أن هذه السلالة النجسة وهذه المهمة القذرة يظل يتقنها بل يستمتع بها بعض الناس.
وإن ما نراه في أيامنا هذه من تواطئ عرب ومسلمين مع الحكومات الإسرائيلية عبر مشاريع التطبيع السياسي والعسكري وحتى الاجتماعي والاقتصادي، مع علمهم أنها تخطط وتمكر مكر الليل والنهار لإيقاع الأذى، بل وهدم المسجد الأقصى المبارك وبناء هيكل مزعوم على أنقاضه، وما المسجد الأقصى الذي يهدد ويخطط لهدمه إلا شقيق المسجد الحرام الذي كان يخطط أبرهة الحبشي لهدمه. بل إننا نعيش هذه الأيام تحديدًا موجة اقتحامات وتدنيس المسجد الأقصى المبارك تقوم بها جماعات دينية يهودية وأحزاب منها تتشكل الحكومة الإسرائيلية، وقد سبق والتقى وزراؤها أمثال بن جبير وسموتريتش بسفراء عرب وقد ملؤوا أفواههم ماء وانخرسوا من نصره الأقصى ولو بشطر كلمة.
نعم إنهم فلسطينيون وإنهم مسلمون من مدرسة أبي رغال، وكما أن التاريخ سجل بأحرف العار قصة أبي رغال، فإن التاريخ سيسجل بنفس أحرف العار قصة آباء رغال تآمروا على المسجد الأقصى المبارك قبلة المسلمين الأولى ومسرى نبيهم ﷺ وشقيق المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف.
نحن الطير الأبابيل
برغم تكالب الأعداء وبرغم انخراس كثير من العلماء وبرغم خيانة الزعماء عربًا ومسلمين، إلا أننا على يقين أن قضية المسجد الأقصى المبارك هي قضية منتصرة وأن وعد الله سبحانه حتمًا سيكون {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} آية 7 سورة الإسراء.
وإذا كانت جنود الله قد أرسلها يومها للدفاع عن المسجد الحرام هي الطير الأبابيل، فإن قدر الله بنصرة المسجد الأقصى سيتحقق بالفتيان الأبابيل عشاق المسجد الأقصى المبارك الذين يرابطون فيه ويشدون الرحال إليه من أبناء شعبنا الفلسطيني ومن أضعاف أضعافهم من شباب الأمة ورجالها ونسائها وأطفالها ممن سيتحقق حلمهم وأمنيتهم بصلاة في المسجد الأقصى المبارك وقد فُكت القيود على معصميه وعن بواباته.
وما أجمل ما قال الشاعر أنس الدغيم ابن الشام:
وكم توعّد هذا البيت أبرهة والفيل هاج وهذا الجفن ما رفّا
نحن الطيور الأبابيل التي حملت من طين سجيل حتفًا يحمل الحتفا
سينهض الطفل ابن العشر في فمه مليون (لا) تتحدى عشرة ألفا
على جدار بلا قلب سيكتب لا للطارئين ولا للسجن والمنفى
إن كان حظك أن الدعوة أنطقت وأنت حي فهذا حظك الأوفى
ففي ذكرى مولدك أيها الحبيب فإننا سنمضي نحمل رايتك وننصر دعوتك ونرابط في مسراك، ونحن الذين أحببناك دون أن نراك ونحن الذين بايعناك حتى نلقاك.
نحن الذين بايعوا محمدًا على الإسلام ما حيينا أبدًا
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.