مقالة للشيخ كمال خطيب: أتراح ثم أفراح، لهيب ثم مطر
الشيخ كمال خطيب
منذ نهاية الصيف الماضي ونحن نقرأ عبر مواقع التواصل، عن فلان وقد نشر صورته مع ابنه معلنًا أنه سيحتفل بزفافه بتاريخ كذا وكذا من العام 2024، وأن حفل الزفاف سيحييه الفنان فلان أو المطرب علّان، مبررًا هذا الإعلان المبكر حتى لا يتزامن يوم زفاف ابنه مع زفاف آخر لأحد الأقارب أو أبناء القرية ليضمن بذلك حضور أكبر حشد من المدعوين.
لكن أحدًا لم يكن يعلم أن حدثًا سيقع يوم 10/7 وأن هذا الحدث كان كالزلزال الذي ستعقبه هزات ارتدادية. هذا الحدث الذي كان من هزاته الارتدادية الحرب المدمرة التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة والتي أدت إلى ارتقاء قريب من 40 ألفًا من الشهداء والمفقودين غالبيتهم الساحقة من الأطفال والنساء، وإلى إصابة قريب من سبعين ألفًا من الجرحى والمصابين، وإلى مليونين من المشردين والنازحين، وإلى تدمير 70% من البيوت والبنية التحتية في قطاع غزة والمستشفيات والمدارس والجامعات والمساجد والكنائس والشوارع وآبار المياه والمزارع والمصانع.
وأما نحن أبناء الداخل الفلسطيني، فقد مورس ضدنا وفرض علينا حكم عسكري حتى لو لم يتم تعريفه كذلك، لكن سياسة الترهيب وتكميم الأفواه ومنع التظاهر والتعبير عن الرأي وحملة الاعتقالات والفصل من العمل ومن التعليم والتهديد بالترحيل، كل هذا هو في الحقيقة يمثل سياسة ونهج الحكم العسكري الذي عانى منه أجدادنا وآباؤنا منذ عام النكبة سنة 1948 واستمر حتى العام 1965.
كان لافتًا أنه رغم كل هذا الذي حصل مع أبناء شعبنا في غزة والذي حصل وما يزال يحصل في داخلنا الفلسطيني في النقب والمثلث والجليل والساحل، إلا أن تلك الإعلانات عن مواعيد الأعراس لم تتوقف وكأن شيئًا لم يحدث، أو كأن الأمر سينتهي غدًا، أو كأن المستقبل هو مستقبل زاهر ولنا أن نستمر بإقامة وإحياء الأفراح والليالي الملاح.
إنه ليس رجمًا بالغيب ولا هي قراءة بالكف ولا هو تنجيم، إنه ليس شيئًا من هذا الحديث، أن المنطقة قد دخلت في منعطف جديد، وأن ما بعد 7/10 هو ليس كالذي قبله، وأن متغيرات جذرية ومصيرية ستشهدها المنطقة، وأن العام 2024 وما بعده ستكون أعوامًا فاصلة في تاريخ المنطقة والعالم.
أقول إن هذا ليس رجمًا بالغيب ولا هو من علم التنجيم وإنما هذا ما صرح به رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو الذي قال في بداية الأحداث: “إننا سنجتاح غزة ونطهرها من أعدائنا “حركة حماس” خلال فترة قصيرة”، وإذا بهذه الفترة القصيرة تمتد أربعة أشهر. وها هو قبل أسبوع يعود ليعلن أن هذه الحملة ستمتد إلى ستة أشهر أخرى. وإذا كانت الفترة القصيرة الأولى امتدت لأربعة أشهر، فإن ستة أشهر هذه ستمتد لسنوات.
ومثل رئيس الوزراء نتنياهو فإنه رئيس أركان جيشه” هرتسي هليفي” الذي قال: “إن العام 2024 سيكون عام حرب وقتال حتى العام 2025”. ومثلهما فإنه وزير حرب إسرائيل جالنت الذي قال مخاطبًا جنود جيشه مطالبًا من كان يخطط لقضاء إجازة الصيف خارج البلاد فإنه عليه أن يلغي سفره لأنه لا إجازات وإنما هي الحرب.
وإن الأحداث التي تزداد تعقيدًا وإن الحرب المستعرة وإن اتساع دائرة الأحداث كلها تشير إلى ملامح المرحلة القادمة بصعوبتها بل ودمويتها، وعليه وإذا كان الأمر كذلك فما هو المنطق وما هي الموازين والاعتبارات التي تدفع بعض أبناء شعبنا لاستمرار الإعلان المسبق عن حفلات زفاف أبنائهم وكأن كل شيء على ما يرام، وكأنه لا توجد أحداث تتدحرج مثل كرة الثلج بل مثل حزمة اللهب والنار؟
فإذا كان البعض يراهن أن الأحداث ستتوقف وأن الحرب ستنتهي وأنها هدنة وصفقة تبادل أسرى وسنكمل بعدها مشوار الحياة ونعيش الأفراح والليالي الملاح، فليس فقط أن رهانه خاسر لأن الأحداث والحرب لن تتوقف، ولكن حتى وإن توقفت الحرب فأي أفراح وأي ليالٍ ملاح يمكن أن يهنأ بها ومليونان من أبناء شعبه بين قتيل وجريح وشريد؟! لا بل إنني لا أتردد بالقول أننا نحن أبناء الداخل الفلسطيني وفي ظل حملة عداء سافرة ضدنا، فإننا سنعيش ظروفًا صعبة وأوضاعًا قاسية، وأننا لن نكون في منأى من كرة اللهب التي ستتدحرج وتصل إلى قرانا وبيوتنا.
وحتى لا يذهب البعض بعيدًا فيما أريد وأتمنى على أبناء شعبنا العمل به، فإنني لا أطالب أحدًا بأن يلغي موعد زفاف ابنه ولا أن يؤجل هذا الزفاف، وإنما أدعو وأتمنى أن نلغي سلفًا مظاهر الأعراس ومراسيمها وحفلاتها وأن تقتصر الأعراس على الولائم لإشهار العرس لأننا سنكون في ظروف غير عادية، وعندها فلن يُقبل من أحد أيًا كان أن يتذرع بأي سبب لاستمرار عرسه بكل المظاهر المعتادة. وسلفًا فإنني أبارك لكل العرسان والعرائس قائلًا: “بارك الله لكم وبارك عليكم وجمع بينكم على خير، وأسأله سبحانه أن يجعل منكم ذرية صالحة بنين وبنات على كتاب الله وسنة رسوله والعمل الصالح يكبرون وينشطون”.
أي تناقض وأي احتقار لأنفسنا، وأي صراع داخلي سيعيشه الواحد منا بين أن يكاد قلبه ينفطر ألمًا على دماء وأرواح وأرامل وثكالى ومشردين، وبين اضطراره لمجاملة قريبه أو جاره أو ابن بلده الذي سيصرّ على إقامة الأفراح ودعوة المطربين والفنانين والفرق الموسيقية وغيرها. لا أتردد بالقول أننا سنتحول عندها إلى مجموعة من المنافقين الذين يتظاهرون بالحزن والتأثر على حال أبناء شعبهم بينما هم في الواقع يشاركون في الحفلات ويرقصون ويغنون، أو أن أحدنا سيعيش بشعور اللص الذي يذهب خلسة إلى حفلات الأعراس حتى لا يراه أحد فيلومه أو يعاتبه.
فبالله عليكم أيها الناس لا تجعلوا اللقمة في يوم زفاف أبنائكم مغمسة بالدم، وبالحد الأدنى فإنها مغمسة بالدموع. وبالله عليكم لا يسجلنّ التاريخ عليكم ولا مفكرة تاريخ شعبكم أنه في الوقت الذي كان يُسفك فيه الدم وتُهدم البيوت وتُشرد العوائل كان فلان يرقص ويغني في حفل زفاف ابنه ويجامله ويشاركه في ذلك أهله وجيرانه وأصدقاؤه.
تحكي كتب التاريخ أن أم العالم الجليل محمد رشيد رضا كانت تقرأ في تقاسيم وجهه ما يجري من أحداث، فكان إذا دخل عليها حزينًا مهمومًا تسأله قائلة: “مالك يا بني، هل مات مسلم اليوم بالصين؟” تقصد أن ابنها كان يعيش هموم الأمة ويتألم لآلام إخوانه حيثما كانوا، مع العلم ان محمد رشيد رضا قد توفي في العام 1935 وكان يسمع عن الأحداث والنكبات التي تصيب الأمة بعد وقوعها بأيام وأسابيع. فكيف ونحن الذين نرى الأحداث والآلام والمجازر ترتكب بحق أبناء شعبنا بالبث الحي والمباشر ونعيشها لحظة بلحظة.
كان الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله يردد عبارة: “نريد أمة إذا عطس أحد أبنائها في المغرب قال له من في المشرق يرحمك الله”. يقصد حالة التفاعل بالمشاعر والأحاسيس والروابط بين أبناء الأمة الواحدة لا أن نكون لا سمح الله ممن شعارهم “أنا أو الطوفان”.
إنه الحيوان الذي اسمه البقر، فإن الواحدة من البقر إذا أتت إلى مكان سبق وذبحت فيه بقرة مثلها وشمت رائحة الدم فإنها تبدأ بالخوار وتروح تضرب الأرض بأقدامها عند دم جف على التراب من بقرة ذبحت. فهل يريد البعض أن يوصلنا إلى أن تصبح الأبقار أرحم منا وأشرف منا؟
كانت الأخبار قد وصلت إلى مكة تفيد بأن معركة دارت بين الفرس وبين الروم، وكان الروم أهل كتاب يدينون بالنصرانية بينما كان الفرس وثنيين يعبدون النار، ولقد حزن النبي ﷺ وتأثر لهزيمة الروم فقط لأنهم كانوا أهل كتاب، ولم تكن تربطهم بالمسلمين رابطة دم ولا عرق ولا دين، بينما فرح كفار قريش لانتصار الفرس الوثنيين على الروم أهل الكتاب، لا بل إنهم ومع توارد الأخبار أصبحوا يشمتون بالمسلمين وهم قلة في مكة، يقولون لهم لقد انتصر إخوتنا الفرس على إخوتكم الروم وقتلوهم وإننا سنقتلكم مثلهم، حتى نزل قول الله تعالى يفيد بأن الحال سيتغير وأن الجولة القادمة سينتصر فيها الروم على الفرس: {الۤمۤ*غُلِبَتِ ٱلرُّومُ*فِیۤ أَدۡنَى ٱلۡأَرۡضِ وَهُم مِّنۢ بَعۡدِ غَلَبِهِمۡ سَیَغۡلِبُونَ} آية 1-3 سورة الروم، وهذا ما كان.
فإذا كان رسول الله ﷺ قد حزن وتألم وتأثر مما أصاب الروم فقط لأنهم أهل كتاب، فكيف لا نحزن ولا نتأثر ولا نتألم لما أصاب ويصيب أبناء شعبنا؟ وكيف يطيب للإنسان منا أن يقيم الأعراس والأفراح بينما إخوة الدين والدم واللغة يلعقون جراحهم ويعدّون قتلاهم وقد فقدوا الأهل والأحبة والبيوت وكل شيء؟ أليس رسول الله ﷺ قد قال: “مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”. وقد قال ﷺ: “المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضًا”؟
إنني لا أنطلق من ندائي هذا من منطلق اليأس والتشاؤم من المستقبل، لا والله، وإنما هي قراءة لسير الأحداث والتي تشير إلى أننا نمر بفترة عصيبة مما حصل لأبناء شعبنا في غزة ومن تداعيات ذلك الحتمية علينا أبناء الداخل الفلسطيني وعلى عموم شعبنا بل والمنطقة بل والعالم.
نعم إنه ليس التشاؤم أبدًا، وإنما هي صرخة وصيحة في وجه من يريدون أن يجعلونا نعيش بوجهين متناقضين، بل أن يمسخوا منا إنسانيتنا وإسلاميتنا وعروبتنا وفلسطينيتنا، فلا نحس ولا نتألم مما يجري بإخوة لنا في الدين والقومية والوطنية، لكنني على يقين أن هذا الحال لن يدوم لأن دوام الحال من المحال، وأن القوي لن يبقى قويًا إلى الأبد ولا الضعيف سيبقى ضعيفًا إلى الأبد.
وها نحن نعيش أيام الشتاء التي ينزل فيها المطر على شبابيك بيوتنا لنرى في هذا المطر الأمل والتفاؤل كما قال الشاعر:
مطر على أبواب بيتك هاطل وأكادُ أسمعه يقول: تفاءلوا
قطرات هذا الماء فوق زجاجنا ما كنّ ماء إنهن رسائل
هذا اللهيب سينقضي وتجيء من بعد اللهيب مواسم وجداول
إنني مثل يقيني بأن الله تعالى واحد لا شريك له، فإنه اليقين أن بعد هذا العسر يسرًا، وأن بعد الكرب فرجًا، وأن بعد الليل فجرًا، وأن بعد اللهيب مطرًا، وأن بعد هذه الآهات والأحزان والآلام والأتراح فإنها الأفراح والليالي الملاح للأمة كلها بإذن الله تعالى، تفاءلوا.
إرفع رأسك فأنت مسلم.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.