البروفيسور أبو عصبة: الكيان الإسرائيلي وضع الأسس الفكرية للتعليم الصهيوني لبناء وبلورة “اليهودي الجديد”
قال البروفيسور والباحث خالد أبو عصبة، إنه لا يمكن فهم سياسات التعليم في إسرائيل بدون الأخذ بهذه المؤسسات ودورها، ولكن أيضا من دون العودة لنظام التعليم الإسرائيلي حتى في السنوات التي سبقت النكبة وتأسيس إسرائيل، باعتبارها وضعت الأسس الفكرية للتعليم الصهيوني ومهمته الأساسية في تلك السنوات لبناء وبلورة “اليهودي الجديد”، ليكون مستحقا لإقامة الدولة وبنائها بشكل عصري يترجم الحلم الصهيوني بالخلاص في البدايات الأولى للمشروع، ثم تعزيز هوية يهودية صهيونية جامعة بعد النكبة عبر اعتماد ثلاثة تيارات رئيسية في التعليم، تعتبر امتدادا لمجتمع اليشوف، مع الاعتبار بأن التيارين الأساسيين في هذا السياق هما التيار الصهيوني العلماني، والتيار الديني الصهيوني، إلى جانب التيار الديني الحريدي، الذي ظل منغلقا على نفسه وعلى تعليم التوراة وعلومها حتى يومنا.
وجاءت أقوال البروفيسور والباحث خالد أبو عصبة، المحاضر في العلوم الاجتماعية التربوية- والدراسات العليا في الجامعة العربية في جنين (حصل على الدكتوراة من جامعة بار إيلان) وواضع كتاب “جهاز التعليم في إسرائيل الصادر عن مركز مدار الفلسطيني في رام الله عام 2006، في مقابلة مع “ملحق فلسطين” بصحيفة العربي الجديد، حيث يضيف أن “العصب الأساسي في العقد الأول للدولة الجديدة، كان صقل شخصية يهودية صهيونية إسرائيلية عبر محاولة بناء هوية جامعة في مراحل التعليم الابتدائي، لا سيما وأن قانون التعليم الإلزامي الذي سن بداية عام 1953، لم يتطرق للتعليم ما فوق الابتدائي، لكن سياسات التعليم الإسرائيلي سارت في خطين متوازيين: خط التعليم والتنشئة الصهيونية لزرع القيم الصهيونية في الحق على أرض فلسطين، وبناء هوية إسرائيلية صهيونية، عبر تعزيز تعليم وإحياء اللغة العبرية كلغة تدريس رسمية، لعشرات ومئات آلاف اليهود الذين هاجروا لفلسطين بعد النكبة وجاؤوا من أكثر من سبعين دولة، لم يعرفوا من العبرية إلا النزر القليل، في لغة التوارة، وذلك بموازاة إكساب المعرفة من الحقول المختلفة، مع التركيز على العلوم واللغات في المراحل الأولية، ثم على التوجيه للمهن والحرف في المراحل الإعدادية والثانوية”.
وتقسم سياسات التعليم إلى ثلاث مراحل تقريبا فيما يختص بنوع المواضيع التي جرى التركيز عليها بما يخدم حاجات المشروع بحسب تطوره. وفي هذا السياق فإنه يرى أن السنوات الأولى وحتى بداية الستينيات، كانت تركز فيها الدولة التي حكمها حزب المباي بمنطق الحكم المركزي الاشتراكي، مع سيطرة كبيرة على وسائل الإنتاج، ولكن أيضا تخطيط الوعي الإسرائيلي بأن الحكومة أدرى بمصالح الشعب والدولة، على ضبط سياسات التعليم بما يلائم حاجاتها، فإلى جانب الاهتمام بتعليم المواضيع العلمية في المراحل الثانوية، فقد أنشأت وركزت أيضا في التعليم الإعدادي والثانوي، على إقامة وتعزيز التعليم المهني العملي، للحرف والمهن المطلوبة التي لا تحتاج لسنوات تعليم طويلة، وتخرج أجيالا من المهنيين والحرفيين، سواء في البناء والنجارة والحدادة والأعمال التقنية اللازمة لمرحلة البناء وشق الطرق وتأسيس بدايات الصناعات الخفيفة التقليدية.
وقد تم نشر هذه المدارس بشكل خاص في بلدات التطوير ومستوطنات قطنتها أغلبية اليهود الشرقيين ممن جاؤوا من الدول العربية، حيث لم تنظر إليهم المؤسسة بأنهم قادرون على أن يشكلوا نمطا من اليهودي الجديد أو المتطور، بفعل نظرات عنصرية فوقية ميزت المؤسسة الإشكنازية الغربية فيما كانت المدارس الثانوية العلمية التي تعد خريجيها للجامعات، أو للأسلحة المتطورة في الجيش، ولا سيما سلاح الجو والوحدات النخبوية، مقصورة تقريبا على المدن الكبيرة والغربية السكان، إلى جانب مدارس إقليمية لحركة الكيبوتسات (المستوطنات الزراعية التعاونية- التي شكل أبناؤها أساس الخادمين في سلاح الجو تحت شعار الأفضل للطيران).
وإلى جانب هذه السياسة كان هناك توجه كبير للمدارس الزراعية، التي كانت تخرج من يمكن لهم أن يعملوا في الزراعة، حيث شكل هذا القطاع مصدر فخر في بدايات الصهيونية، لكنه تحول إلى الأداة الأقوى في تثبيت سرقة الأرض العربية من خلال زراعتها وإقامة مزارع واسعة، بالأساس في الأراضي التي تم طرد الفلسطينيين منها، لتثبيت الحفاظ على هذه الأراضي بأيدي المستوطنين الجدد، بما يترجم أيضا الشعارات الصهيونية الزائفة، بتحويل القفار إلى مزارع منتجة ومثمرة توفر الأمن الغذائي للمجتمع الجديد، وتصدر منتجاته إلى الخارج، مع الترويج لخبرات زراعية متطورة.
أما في أوائل السبيعنيات فيرصد البروفيسور خالد أبو عصبة تعزيز سياسات التعليم التي تعطي أولية لصناعات أكثر تطورا، وبدأ ظهور المدارس التكنولوجية، والهندسية في المراحل الإعدادية والثانوية مثل شبكات “أورط وعمال” دون أن يختفي عامل التمييز ضد جهاز التعليم في البلدات والمستوطنات التي يقطنها أبناء الطوائف الشرقية، فلم تحظ هذه البلدات ومدارسها بنفس الميزانيات والخطط التعليمية التي حظيت بها مدارس مختارة في البلدات الكبرى التي امتازت بأغلبية للإشكناز، كما كان الحال في تل أبيب وهرتسليا وحيفا وحتى القرى التعاونية الزراعية (الكيبوتسات).
حملت سنوات السبعينيات تغيرا معينا في هذه السياسات، أيضا بفعل حرب أكتوبر، وبدء تململ الطوائف الشرقية اليهودية، وتجلى ذلك بإعلان وزير التعليم الإسرائيلي، يتسحاق نافون، العراقي الأصل، عن خطة المائة بروفيسور من الأصول الشرقية، بموازاة بدء اتباع سياسة الدمج في المدن الكبرى، لدمج طلاب من أصول شرقية في مدارس طلابها بغالبيتهم غربيون إشكناز، خاصة في المراحل الإعدادية، تمهيدا للخدمة العسكرية، ولتعزيز هوية إسرائيلية جامعة، تكون الخدمة العسكرية المرحلة الأخيرة في صوغها قبل العودة للحياة المدنية.
بدأت المرحلة الثالثة والفارقة في سياسات التعليم الإسرائيلية، بحسب البروفيسور خالد أبو عصبة، بعد الانقلاب السياسي الأول في إسرائيل عام 1977 وصعود اليمين ممثلا بمناخيم بيغن للحكم، مرفوعا على أكف الطوائف الشرقية. فإلى جانب التغيير السياسي في هوية الحزب الحاكم، انتقلت إسرائيل كليا إلى تغيير جوهري وشامل في كافة القطاعات، فقد اتجه اليمين إلى وقف سيطرة الدولة على الاقتصاد والمجتمع، ومع بدء عملية لبرلة الاقتصاد الإسرائيلي وخصخصته، طاول التغيير أيضا باقي مناحي الحياة، في تعزيز سياسة الدمج في التعليم وفي بدء تراجع قبضة الدولة على سياسيات التعليم الجامعي، وظهور جامعات وكليات خاصة ومعاهد للمهن المختلفة، بما يفرضه واقع سوق العمل الذي لم يعد منضبطا وفق سيطرة الدولة، بل وفق ديناميكيات الانتقال في الدولة من الاقتصاد المركزي إلى ديناميكيات المبادرة الحرة، والشركات الخاصة الكبيرة التي بدأت في الظهور، بما في ذلك في مجال الصناعات الكبيرة والضخمة وليس فقط الصناعات التقليدية.
وأصبح شعار التصنيع مرادفا أيضا للتعبئة الصهيونية في بناء اقتصاد صهيوني حر متحرر من قيود الدولة والبلشفية والاشتراكية التي سادت دولة الاحتلال الإسرائيلي، خصوصا وأن إسرائيل بدأت تدخل في طور من ظهور كليات للهندسة الإلكترونية والحاسوب، وانتقال نحو واقع سوق جديد يفرض احتياجاته، مما اضطر المدارس أيضا ووزارة التعليم، تحت ضغط ورغبات أهالي الطلاب أنفسهم لتوفير تخصصات جديدة في المراحل الثانوية، مثل هندسة الكهرباء والإلكترونيات، ثم لاحقا البرمجيات المختلفة.
ويرى البروفيسور أبو عصبة أن هذا كله حمل قفزة جديدة في أوخر التسعينيات مع بدء التراجع في عدد المقبلين على دراسة الطب والمهن العملية الأخرى لصالح مواضيع الحاسوب والتكنولوجيا، والهايتك، بموازة تراجع في عدد المتجهين لدراسة المواضيع الإنسانية والاجتماعية في مختلف الجامعات، وتراجع “التعليم العلمي” مما دفع إلى تشكيل لجنة خاصة عرفت بلجنة شنعار التي وضعت توصيات للعودة لاعتماد سياسة لتشجيع تعليم العلوم الطبيعية الأساسية كالأحياء والكيمياء، وصولا في السنوات الأخيرة، عام 2015 إلى إعلان وزير التعليم السابق، نفتالي بينت، عن إطلاق مشروع لتعزيز تعليم الرياضيات بشكل مكثف، مع حث المدارس على توجيه الطلاب لشهادات بتخصصات كبيرة في علوم الرياضيات والفيزياء، كقاعدة لبقاء إسرائيل دولة هايتك وستارت أب. ويلفت البروفيسور أبو عصبة في هذا السياق إلى أن تطور الصناعات الحربية التي تعتمد على التكنولوجيا المتطورة، وتصل مبيعاتها سنويا إلى 5 مليارات دولار، من جهة وقطاع الستارت أب وشركات السايبر، هي التي حصنت الاقتصاد الإسرائيلي أمام الأزمة العالمية عام 2008، وهي التي تشكل اليوم، في ظل جائحة الكورونا القطاع الرئيسي الذي ظل مفتوحا عمليا في الاقتصاد الإسرائيلي، والذي غذى خزينة الدولة بالأموال التي حالت دون انهيار اقتصادي.
على الطرف الآخر، وكخيط مواز، لهذا التطور في سياسات التعليم، يبرز البروفيسور خالد أبو عصبة أن سياسة التمييز العنصرية البنوية، ضد الشرقيين لم تختلف يوما في سياسات التخطيط التعليمية، وظل هؤلاء بعيدين عن مراكز القوة الاقتصادية والتأثير السياسي الحقيقي، وإن كانوا أسسوا بعد صعود اليمين للحكم عام 1977 نوعا من الطبقة الوسطى التي كان عماد عمل أبنائها في التجارة والمهن المستقلة، لكنهم لم يصلوا يوما إلى حد تكريس نخبة اقتصادية شرقية مؤثرة فعلا في المشهد الثقافي والسياسي والتعليمي، وإن شهدت السنوات الأخيرة بدايات لطرح “رواية شرقية” تمنح اليهود الشرقيين “مكانهم اللائق بهم” في مسار المشروع الصهيوني.