الأذان والغترة والعقال.. يوميات تعيد تشكيل وعي الغرب تجاه العرب في مونديال قطر
من بين الرسائل المتعددة التي يحملها مونديال قطر، بدأت ذهنية العديد من زوار قطر تعيد تشكيل قطعياتها تجاه العرب والمسلمين، ما يمهّد لانهيار الكثير من أجزاء الصورة التي ترسمها بعض دوائر الغرب عبر الفن والإعلام عن المسلمين وثقافتهم.
وبالتأكيد لن تستطيع 28 يومًا من الاتصال بين الشرق والغرب -على أرض عربية هذه المرة- اقتلاع وتغيير تلك الصورة التي تكرّست خلال عقود طويلة، وتعمّقت أكثر بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2011 التي استهدفت الولايات المتحدة، وكانت -غالبًا ما- تظهر الإنسان العربي في شكل بدوي متوحش معاد للحداثة والتطوير، أو ثري يصرف المليارات على متعه، ويغرق في بحور الخمر بمجرد أن تحلق به الطائرة بعيدًا عن الأجواء، أو شاب متطرف أدمن زرع الألغام وحزّ الرؤوس، أو امرأة ليست سوى كائن مكبوت يبحث عن منفذ خلف أستار الخيام البدوية، أو أسوار البيوت المغلقة من أجل أن يلمح نورًا للحرية والحياة من بين أستار الكبت واضطهاد التقاليد.
ولكن المؤكد -أيضًا- أنه توجد صورة أخرى يمكنها أن تصنع فارقًا كبيرًا بحجم مونديال 2022، تقرأ تفاصيلها في الكثير من تصريحات وتعليقات الذين يحضرون الحدث الكروي -حاليًا- خاصة من غير “المؤدلجين” و”المتعصّبين”، الذين يزورون المنطقة للمرة الأولى في حياتهم ويجلسون بين سكانها، ويلبسون لباسهم و”يتحدّثون” -بما يستطيعون ترديده- بألسنتهم، ويمشون في أسواقهم دون ترفّع أو استعلاء.
النجيلة الخضراء.. جسر حضاري بين الشرق والغرب
وإذا كان الربيع العربي قد فتح نافذة ضوء في جسد الصورة المعتمة عن الإنسان العربي، فإن من المتوقع أن يوسّع كأس العالم في قطر 2022 دائرة الضوء تلك، عبر مصابيح مختلفة الاتجاهات والمصادر.
فبعيدًا عن صورة التفجيرات والخطف والإرهاب، ها هم المشجعون من كل القارات (أكثر من 1.2 مليون) يفدِون إلى قطر في أكبر حالة سفر عالمية بعد الحج، دون أدنى مخاوف أو قلق، فيطلّ هؤلاء من مدرجات الملاعب الكروية الثمانية، ومن شوارع قطر ومساجدها وحدائقها ومسارحها على صورة أخرى للإنسان العربي، بثوابته الراسخة وبروحه المبدعة، ووجدانه الإنساني المنفتح.
ولأن استقرار الصورة النمطية عن العرب يمثّل جزءًا من إستراتيجيات دول وكيانات عالمية نافذة؛ فقد كانت الحملة شديدة جدًا من أجل منع استضافة قطر للمونديال، وبعد كثير من العنف السياسي والإعلامي أخفقت الحملة، لتبدأ أخرى لثني الشعوب الغربية عن التوجه إلى هذا القُطر العربي، قبل أن تنهار الحملة الثانية -أيضًا- حيث يُتوقع أن يتجاوز عدد القادمين إلى قطر مليونًا و200 ألف شخص، محطّمين بذلك الصورة النمطية لهجرة الشرق نحو الغرب، وليس العكس.
وبينما ظلّ انبهار الإنسان العربي بكل ما هو غربي حالة مستقرة في العلاقة الثقافية والحضارية بين الطرفين؛ كانت ملامح التحوّل في النظرة إلى العرب بادية في تصريحات وتعليقات الكثير من الوافدين الجُدد ومن أرجاء الغرب إلى قطر؛ ليتبدّل بذلك “الحول الثقافي” تجاه الغرب إلى انبهار غربي شعبيًا ونخبويًا -ولو جزئيًا ومحدودًا في الزمان والمكان- بكنوز الشرق وعطر حضارته، وإنسانية شعوبه، وجاذبية بعض قيمه الحضارية، خاصة أن أغلب القادمين إلى قطر “غربيو الفطرة”، الذين لا يحملون حقدًا، ولا تحرّكهم “توجّهات”، ولا يبحثون عن إقامة مجد شخصي، ولا يعدّون أنفسهم مركزًا للكون، ويتطلعون لاستكشاف الثقافات المختلفة بتواضع وسعادة، حسب تعبير لولوة بنت راشد الخاطر مساعدة وزير الخارجية القطري.
الأذان والسجادة والغترة والعقال
أصبحت قطر مركز الاهتمام العالمي، وأصبحت بجدارة محركًا أساسيًا للتدوين والتغريد -كذلك- وللمونديال نصيب الأسد في الإعلام المجتمعي وفي صناعة المحتويات المؤثرة، لتضيف بذلك صعودًا إعلاميًا، بعد أن ظلّت لعقود حديث يوميات النُخب ومراكز البحث وكيانات صناعة الرأي العام وتوجيه القرار السياسي.
ومن بين جاذبيات المونديال المؤثرة، كانت رسائل الأذان الصدّاح على مسامع الملايين، حيث دفع الكثيرين إلى التوقّف عند هذا النداء الإلهي، الذي يهزّ شباك القلوب بأرسخ وأقوى وأجمل مما تهتز به شباك المنتخبات.
وأمام مظاهر التعريف بالإسلام وتقديمه من نوافذ جديدة ليست التي عرفها الغربيون، فقد سجّل مؤشر الدخول اليومي في الإسلام ارتفاعًا متواصلًا، وسط إقبال من الزوار على بعض المساجد، خاصة مسجد “كتارا” للبحث عن حقيقة الإسلام، مما يعني وصول واحدة من الرسائل الحضارية لاحتضان بلد عربي مسلم لهذا الحدث الكبير.
ووثّق عدد من المشجعين لحظات الأذان، أو دخول المساجد، كما وثّقت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي لحظات الانتقال إلى الإسلام، ومن بينها -على سبيل المثال- إسلام أسرة برازيلية كاملة، فيما جرّبت نساء غربيات -بدعوة من سيدات في قطر- ارتداء الحجاب لأول مرة، وسجّلن بتقدير واحتفاء الشعور الغامر تجاه الحجاب، الذي يرمز -في بعض الدول- للتشدّد، وتسعى أطراف يمينية غربية لجعله دليل إرهاب ورسالة عنف.
وفي مقابل ذلك، وبين الحين والآخر يُظهر بعض القادمين إلى قطر شيئًا من العنصرية، أو محاولة تكريس صورة الاستعلاء والهيمنة الغربية؛ كما حاول مشجعون بريطانيون استدعاء تاريخ الصدام بين الشرق والغرب، عبر ارتدائهم ملابس تُحاكي مقاتلي الحملات الصليبية، كما عبّر أحد الإعلاميين الفرنسيين الزائرين عن الامتعاض من كثرة المساجد في قطر، أما الانتصار للمثلية والدفاع عنها وحمل شعاراتها، فقد كان همًا لبعض الدول الأوروبية، يقوده سياسيون ورياضيون من أوروبا، خاصة من ألمانيا والدانمارك.
الغترة والحناء.. طرائف تحمل التراث القطري إلى العالم
سجّل كثير من مشجعي المونديال -بانبهار وتقدير- مستوى الضيافة والاحتضان الشعبي، زيادة على مستويات الكرم العالية التي قابل بها القطريون ضيوفهم، والتي تضمّنت على المستوى الرسمي: هدايا على كل مقعد في ملعب المباراة الافتتاحية، وفي المباريات الأخرى، وتنوّعت على المستوى الشعبي، حيث تُظهر المقاطع المرئية المتداولة مشاهد يومية لتوزيع القهوة والحلوى والمشروبات على الجماهير الرياضية، أمام الملاعب وفي الأسواق والشوارع.
كما تعرّف بعضهم -للمرة الأولى- على المجالس المفتوحة وثقافتها وكرم أهلها، ووثّق بعضهم تلك التجربة في مرئيات نُشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، تحدّثت باحتفاء كبير عن تلك العادة العربية التي تنتشر بشكل خاص في دول الخليج.
وإضافة إلى ذلك كان انبهار كثير من ضيوف المونديال كبيرًا بأجواء الأمان التي ميّزت مدن البلاد، والتي مكّنت كثيرًا من المشجعين من استعادة أشياء أضاعوها بالخطأ، وقرّبت الإسعاف والخدمات الطبية، وجمعت شعوب العالم في ديوانية الدوحة المفتوحة، لتحتسي الثقافات المختلفة قهوة عربية قطرية، تفور بنفحات التلاحم الإنساني.
ولم تغب الغترة والعقال عن المشهد، فتسابق المشجعون إلى ارتداء الغترة ولبس العقال، فيما تكفّل قطريون ومقيمون بمساعدتهم على الظهور بهذا الشكل الخليجي، الذي طالما تم تسويقه -في بعض وسائل الإعلام الغربية ذات التوجهات اليمينية- على أنه لباس تطرف وإرهاب.
وفي أحيان كثيرة تقع أخطاء طريفة، عندما ترتدي بعض المشجعات الغترة، أو يصبغ مشجعون أيديهم بالحناء، في تبادل طريف للمظاهر ربما لا يدرك أصحابه خصوصية كل حالة، أو يلبس مشجعون أعلام بلدانهم على شكل غترة يعلوها العقال فوق ملابسهم المعتادة من بناطيل وسراويل قصيرة، وسط أجواء من المرح والاحتفاء، ونسج الذكريات العبقة مع المكان والحدث والحضارة الإسلامية والتقاليد العربية القطرية.
وبين رنين الأذان في القلوب، وشوارع وميادين الدوحة وملاعبها الضخمة، وعلى ضفاف الخليج وممشى الكورنيش، وفي منصات متحف الفن الإنساني؛ يتخلّق وعي حضاري جديد وتنكسر مسلَّمات غربية، وتزداد لائحة المسلمين والمنصفين من الغرب، وتكتب قطر صفحة أخرى من رسائلها نحو العالم والعالمية.