مقالة للشيخ كمال خطيب: “عيش العزّ والشرف لا عيش الرزّ والعلف”
الشيخ كمال خطيب
الكبرياء على العباد صفة رب العباد سبحانه الذي خلق فسوّى والذي قدر فهدى، والذي إذا ظهر قهر، وإذا تجلّى طاشت لأنوار جلاله البشر {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ*وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 36-37 سورة الجاثية. فذلّة العباد لربهم هي ذلّة بالحق لا بالباطل، لأن الخلق والأمر والغنى والملك والحياة والموت كل ذلك بيده سبحانه، وأن أزكى وأصفى ساعات العباد حين تنحني جباههم لرب العزة في السجود الخاضع والخاشع الطويل، لأنهم عندئذ يعرفون قدرهم ويلزمون حدّهم ويعطون للخالق العظيم حقه وقدره.
أما ذلّة العبد لعبد ومخلوق مثله فباطل ولا ريب، والمتكبر الذي يتمتع بذلّ العباد بين يديه فهو مبطل ومتطاول يزعم لنفسه ما ليس فيها. والذي يذلّ لعبد مثله فهو جاهل بقدر نفسه وقد حرم الإسلام الذلّ وحرّم الكبر، قال رسول الله ﷺ: “من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر كبّه الله لوجهه في النار”. وقال كذلك ﷺ: “من جلس إلى غني فتضعضع له لدنيا تصيبه ذهب ثلثا دينه ودخل النار”. حيث بيّن ﷺ كيف أن الإسلام قد حرّم على المسلم الهوان أو الذلّ والضعف لأنه بذلك يخدش كرامته ويجرح مكانته، والله لا يريد ولا يرضى للمسلم ذلك، قال ﷺ:” من أعطى الذلة من نفسه طائعًا غير مكره فليس منا”.
لأن الله لا يرضى لك الإذعان والذلّا
وقل إن قالت الدنيا: نعم للظلم قل: كلّا.
رغم الظلم والخذلان ثابتون
إن إسلامنا العظيم يربي أبناءه على الثبات والتمسك والاستقرار والعيش في المكان وفي الأرض التي ينبت فيها العزّ والكرامة، وعلى المسلم أن يوفر العيش العزيز والكريم في بيئته التي يعيش فيها، وإلا فإن استحال عليه ذلك بفعل الطواغيت والجبابرة من جماعة {أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى} 24 سورة النازعات، {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي} آية 38 سورة القصص، {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ۚ قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} آية 88 سورة الأعراف، فعليه عندها أن يترك دار الهوان وينشد الكرامة في أي مكان، وفي هذا يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا } آية 97 سورة النساء. وفي هذا تعبير واضح عن كراهية الإسلام لاحتمال الهوان والرضا به ويستنهض الهمم للتخلص من حياة الذلّ. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن هذا لا ينطبق أبدًا ولا بأي حال من الأحوال على أبناء شعبنا الفلسطيني رغم كل الظلم والجور والقتل والتنكيل والتشريد الذي ينزل بهم بفعل آلة البطش الإسرائيلية. ولعل ما هو أقصى من ظلم وقهر آلة الحرب الإسرائيلية، فإنه خذلان الإخوة العرب والمسلمين وعدم القيام بحق الأخوة اتجاههم، أبناء شعبنا الذين لا يقبل منهم أن يهاجروا ويتركوا أرض الوطن رغم كل ما يقع عليهم، فليس أن أهل فلسطين يجب أن يتمسكوا بأرضهم ولا يهاجروا، وإنما تعتبر فلسطين أرضهم هي الملاذ والملجأ لمن يقع عليه العسف والظلم والقهر بأن يأتي إليها، وقد قال في ذلك رسول الله ﷺ في حديث ذي الأصابع قال: “قلت يا رسول الله إذا ابتلينا بعدك بالبقاء أين تأمرنا؟ قال: عليك ببيت المقدس فلعلّه أن ينشأ لك ذرية يغدون إلى ذلك المسجد ويروحون”.
اصرخوا في وجهه الله أكبر
إن اعتزاز المسلم بنفسه ودينه وربه هو كبرياء الإيمان، وكبرياء الإيمان هو غير كبرياء الطغيان. إن كبرياء الإيمان معناه اعتزاز المسلم ورفضه أن يصغر لسلطان أو أن يكون وضيعًا في مكان، أو أن يكون ذنبًا لإنسان، إنه كبرياء رفض الباطل والتعالي على الظالمين والترفع عن سفاسف الأرض ومزاعم الناس وأباطيل الحياة تلك التي قال الله تعالى عنها: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ۚ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ۚ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ۖ وَمَكْرُ أُولَٰئِكَ هُوَ يَبُورُ} آية 10 سورة فاطر.
إن العزة والكرامة والإباء من أبرز الخلال التي نادى بها الإسلام وغرسها في أبناء المجتمع وتعهد نماءها بما شرع من عقائد وسنن وتعاليم، وفي ذلك يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “أحب من الرجل إذا سيم خطة ضيم أن يقول بملء فيه: لا”. ومن هذا الفهم لعظمة هذا الدين كانت أبيات شعر ابن الشام الأستاذ أنس الدغيم لما قال:
لست مني ولست منك إذا لم ترفض الظلم لست للمجد أهلا
أي خير في الأرض إن لم نقلها في وجوه الطغاة كلا وكلا
إن عزة المسلم وكرامته تأبى عليه أن يبيع كرامته وأن ينسلخ من هويته ابتغاء دنيا فانية، ولا يقبل أن يهادن الظالم والطاغية لمجرد أن يلقي له بعض الفتات يسيل لها لعابه.
فالذي يعيش كالنسر في أعالي القمم ليس كمن يتمرغ مثل الزواحف في مستنقعات الذلّ والهوان كما قال جلال الدين الرومي في حكمته الشهيرة: “أنت لم تخلق لتزحف فلا تهن”، وكما قال الشاعر أنس الدغيم كذلك على لسان من يمنعه عزّه وشرفه أن يهادن الظالم:
ما كان يمنع لو هادنت قاتلهم ما كان يمنع؟ قال العزّ والشرف
من حظّه من معالي العيش أشرفها لا كالذي حظّه من عيشه العلف
ومن هنا نفهم معاني الأذان ينادي به المؤذن في المسلمين كل يوم خمس مرات مناديًا بتكبير الله أكبر في أول الأذان وآخره. ثم لماذا يتكرر التكبير بين الركوع والسجود والقيام في الصلاة، إن هذا كله من أجل أن يوقن المسلم يقينًا لا يتزعزع ولا يهتز أن الكبرياء ليس إلا لله تعالى، وأن كل متكبر بعد الله فهو صغير، وأن كل متعاظم بعد الله فهو حقير. فجاء الأذان يذكر الناس إذا نسوا أن الكبرياء لله وأن العزة لله وأن الخوف ليس إلا من الله. ولتأكيد هذا المعنى فقد اختار الله اسميه “العظيم والأعلى” من أسمائه الحسنى ليكررها المسلم أثناء ركوعه وسجوده، فتتشرب روح المسلم ونفسه بتفرد الله وحده سبحانه بالعلو والعظمة.
فتية الإسلام إن باغٍ تجبر فاصرخوا في وجهه، الله أكبر
وإذا الغادر عن لؤم أشاحا فأطلقوها صرخة، الله اكبر
والله غالب على أمره
ولقد بيّن الإسلام للمسلم ضرورة أن يعلم أن النفع والضرّ ليس بيد البشر وإنما هو بيد الله تعالى حتى لا يستكين ولا يضعف لبشر مثله، وقد قال في ذلك رسول الله ﷺ:” أطلبوا الحوائج بعزة الأنفس فإن الأمور تجري بالمقادير”. وقال كذلك ﷺ في نصيحته لابن عباس وهي تصلح وصية لكل مسلم: “يا غلام إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده اتجاهك، إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله. واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء فلن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف”.
فعلى المسلم أن يكبر بدينه فلا يذل به، وأن لا يعطي لرخيص أو منافق أو عدو أن يشمت به وأن يستعلي عليه حين يراه يذل نفسه، قال الله تعالى {مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۖ وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} آية 2 سورة فاطر.
وإذا كان الله سبحانه يعطي بعض الناس السلطة والنفوذ سواء كان موظفًا في أي شركة أو مكتب حكومي وصولًا إلى أن يكون هو سيادة الرئيس أو جلالة الملك لدولة بأكملها، فإن هذا لا يعني تغيير إرادة القاهر فوق العباد وأنه أعطى وتنازل عن ذلك لعباده، وقد يفكّر البعض أو يظن بذلك حين نحس أحيانًا أننا مغلوبون على أمرنا، فإذا كان هذا ينطبق علينا نحن البشر كما قال الله تعالى على لسان نوح عليه السلام: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ} آية 10 سورة القمر، لكنه ليس كذلك على رب البشر سبحانه الذي قال عن نفسه: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} آية 21 سورة يوسف. فعلى المسلم أن يظلّ منتصب القامة مرفوع الهامة يجأر بالدعاء والسؤال إلى خالقه ومولاه القادر على النفع والضرّ، فلا يذلّ ولا يخضع لمخلوق مثله {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ۖ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ ۚ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۚ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} آية 107 سورة يونس. وقال الشاعر في ذلك:
لا تخضعن لمخلوق على طمع فإن ذلك نقص منك في الدين
واسترزق الله مما في خزائنه فإن رزقك بين الكاف والنون
ارفع رأسك فأنت مسلم
وما يجري في ناموس الرزق فإنه يجري في ناموس النصر فكلاهما بيد الله سبحانه، فهو يرزق من يشاء وينصر من يشاء {أَمَّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَٰنِ ۚ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ*أَمَّنْ هَٰذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ ۚ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} آية 20-21 سورة الملك. فكما أن المسلم مطالب بالسعي لتحقيق الرزق عبر الأخذ بالأسباب، وليس الرزق بيد أحد من البشر حتى يمنعه، وكذلك فإن المسلم هو مطالب أن يسعى لتحقيق العزّة عبر الأخذ بالأسباب لأن العزّة ليست إلا بيد الله سبحانه {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} آية 8 سورة المنافقون.
وخلال هذا السعي وتوفير الأسباب فلا بد أن تكون صلة المسلم قوية بربه، وأن يعيش بشعور الاعتزاز والكبرياء الذي تحدثنا عنه في البداية. إنه كبرياء الإيمان لا كبرياء الطغيان، فلا يصغر لسلطان، ولا يكون وضيعًا في مكان، ولا يكون ذنَبًا لإنسان أيًا كان. إنه أن يسعى لنيل العزة فإنه حتمًا سينالها لأنها موجودة عند من يملك الرزق كذلك {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} آية 10 سورة فاطر.
الحمد لله أن الأمة تعيش مرحلة جديدة من مراحل تاريخها، وقد نشأ في الأمة جيل من أبنائها لم يعد يشغله بطنه ولا جيبه ولا فرجه، وإنما يشغله رضى الله تعالى. جيل لا يرضى غير عيش العزّ والشرف ويرفض عيش الرزّ والعلف. جيل أقدامه ضاربة في الأرض ورأسه مرفوع في السماء، وهو ينادي ويقول: “لا شرقية ولا غربية إسلامية إسلامية”، ويقول:
أنا مسلم ولي الفخار فأكرمي يا هذه الدنيا بدين المسلم
فحقّ لك أيها المسلم أن تفتخر وتعتز بنسبك، فلا تساوم ولا تهادن ولا تطأطئ ولا تزحف بل ارفع رأسك فأنت مسلم.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .