مقالة الشيخ كمال خطيب: “شهامة عرب الجاهلية ونذالة عرب الاستعراضات البهلوانية”
الشيخ كمال خطيب
نحن في زمان لم يسبق للحضارة الغربية أن انكشفت فيها سوءاتها وظهرت عوراتها أكثر من هذا الزمان. ونحن في مرحلة لم يسجل التاريخ لها مثيلًا في مشهد السقوط والتردي الذي وصل إليه العرب مما لم يسجل حتى في أسوأ حالات السقوط وصلها العرب في جاهليتهم وهم يعبدون الأصنام.
لقد فضحت غزة وهتكت ستر حقوق الإنسان أيًا كانوا يوم أن ظهرت كل شعاراتهم ودساتيرهم ومواثيقهم بأنها لا تساوي الحبر الذي كُتبت به. لأكثر من عشرة أشهر وغزة شيوخها ونساؤها وأطفالها وكأنهم حقل تجارب لكل ما صنعته آلة الشرّ والحرب الأمريكية. فما من سلاح صنعته أمريكا وزودت فيه إسرائيل، إلا وجُرّب في غزة باستثناء السلاح الذري والنووي، وأن هناك إجماعًا لدى الباحثين والدارسين أن الدمار الذي وقع على غزة يفوق عدة أضعاف ما حلّ بمدينتي هيروشيما وناكازاكي اليابانيتين بفعل القنابل الذرية ضربتهما به أمريكا.
لكن أشهر سلاح تم استخدامه في الحرب على غزة، ورغم النصوص الواضحة في القوانين الدولية على حرمة استعماله، فإنه سلاح التجويع والحرمان من الطعام ومن الماء، ليكون قد اجتمع على أهل غزة القتل والخوف والجوع والمرض والتهجير والتعطيش. وإذا كان رسول الله ﷺ قد قال في الحديث الشريف: “الناس شركاء في ثلاث: في الماء والكلأ والنار”. حيث أنه ليس لأحد الحق في أن يمنع غيره منها أو يحرمه من الانتفاع بها، فإن الماء والغذاء والوقود والدواء هو مما حرمته إسرائيل ومنعته عن أبناء شعبنا في غزة.
الجمل شكا لي أنك تجوّعه
دخل النبي ﷺ بستانًا لأحد الأنصار وكان فيه جمل، فلما رأى الجمل النبي ﷺ حنّ وذرفت عيناه، فاقترب منه النبي ﷺ ومسح على رأسه حتى هدأ، فقال النبي ﷺ: لمن هذا الجمل؟ فقال فتى من الأنصار: هو لي يا رسول الله، فقال له النبي ﷺ: أفلا تتق الله في هذه البهيمة فإنه قد شكى إليّ أنك تجوّعه وتتعبه.
أنت الذي حنّ الجماد لعطفه وشكا لك الحيوان يوم رآكا
والجذع يُسمع بالحنين أنينه وبكاؤه شوقًا إلى لقياكا
ما أتفههم أدعياء الحضارة الغربية وهم يتبجحون عن حقوق الإنسان، ونحن الذين علّمنا الدنيا منذ ألف وأربعمائة سنة حقوق الحيوان. إنه دين الإسلام جاءنا به محمد ﷺ نبي الإنسانية والرحمة الذي قال: “عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها ولا هي سقتها إذ حبستها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض”.
فإذا كان يحرّم في ديننا أن تجوّع قطة أو أن تحرمها الماء فتعطش فتموت، فهل يجوز، وفي شرع من يُحرم شعب كامل تعداده مليونان وثلاثمائة إنسان من الماء فيموتون عطشًا ومن الطعام فيموتون جوعًا ومن الدواء فيموتون مرضًا. فمن نجوا من الموت قتلًا بالصواريخ والمدافع، فإنهم يموتون جوعًا وعطشًا ومرضًا. وإذا كان الله سبحانه قد منّ على أهل مكة بنعمة الإطعام فمن هذا الذي يتألّه ليعذب الناس بالجوع {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ*الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْف} آية ٣-٤ سورة قريش، فإنه لا يفعل هذا إلا قاسي القلب عديم الإحساس ليس له من الإنسانية إلا اسمها.
إنه لو قيل للحجر كن إنسانًا في هذا الزمان لاعتذر وقال: أنا لست قاسيًا بما يكفي. وإننا في زمان تستحي الوحوش في الأدغال أن تفعل ما تفعله كائنات تدعي وتنسب نفسها إلى فئه البشر. قال رسول الله ﷺ: “قرصت نملة نبيًا من الأنبياء، فأمر بقرية النمل فأحرقت فأوحى الله إليه أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح الله”. فإذا كان الله سبحانه قد عاتب نبيًا من أنبيائه أحرق قرية نمل بسبب نملة واحدة قرصته، فكيف بمن يحرق مدينة كاملة؟ وكيف بمن يحرقون شعبًا كاملًا فيه الشيوخ والنساء والأطفال عقابًا وانتقامًا لفعل آخرين؟
كيف بمن يحرمون طفلًا رضيعًا حليب الأطفال وهم الذين جعلوا يومًا أسموه يوم الطفل العالمي وتشدقوا بالتهريج له، وهم الذين قتلوا قريبًا من 15,000 طفل في غزة؟ وكيف بمن قتلوا 10,000 امرأة وهم الذين ما أكذبهم وهم يتشدقون عن حقوق المرأة وقد جعلوا لها يومًا أسموه يوم المرأة العالمي؟
وكيف بمن يقولون ويصفون إنسانًا خلقه الله وكرّمه {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} آية 70 سورة الإسراء، بأنهم حيوانات بشرية تستحق الإبادة، وأنهم صراصير وأفاعي كما قالوا يومًا عن عموم الفلسطينيين.
حتى لا يجوع الطير في بلاد المسلمين
هي عبارة تُنسب إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله يقول فيها: “انثروا القمح في رؤوس الجبال حتى لا يقال جاع الطير في بلاد المسلمين”. وسواء كان القائل هو عمر بن عبد العزيز رحمه الله أو غيره، فإنها تعبّر عن الرقيّ الحضاري وعن النزعة الإنسانية، وعن الرحمة التي بلغت وطالت حتى الطيور المهاجرة، فكان المسلمون يخرجون إلى الجبال والصحاري حيث تموت الطيور المهاجرة فينثرون الحب فيها لتأكل هذه الطيور في المواسم التي يصعب عليها إيجاد الطعام إما بسبب الثلج يحول بينها وبين الوصول إلى التراب لتلتقط طعامها أو بسبب الجفاف وعدم وجود الحب لتأكله.
فإذا كان هذا هو سلوك المسلمين بإطعام الطيور حتى لا تجوع في بلاد المسلمين، فكيف بمن أصبح تجويع البشر وخاصة من المسلمين هو السلاح الفتّاك الذي يستخدمونه، وما يحصل لأهلنا في غزة عنا ببعيد حيث ضرب الجوع كل ناحية، وحيث انعدم الماء الصالح للشرب، فشرب الناس مياه البحر المالحة، وأكلوا ورق الشجر بل أكلوا علف الحيوانات.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: “بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئرًا فنزل فيها فشرب ثم خرج، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان قد بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفّه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقى فسقى الكلب فشكر له فغفر له. قالوا يا رسول الله: إن لنا في البهائم أجرًا، فقال: في كل كبد رطبة أجر”.
عرب الجاهلية والعروض البهلوانية
لقد اعتمد العرب في جاهليتهم سلاح التجويع لمحاربة دعوة رسول الله ﷺ حين حاصروا رسول الله ﷺ وأصحابه في شعب أبي طالب، وفرضوا عليهم حصارًا اجتماعيًا واقتصاديًا مدة سنتين كاملتين حتى أخذ منهم الجوع كل مأخذ، فأكلوا أوراق الشجر وأكلوا جلود جيف الحيوانات.
لكن نفرًا من هؤلاء العرب قد انتفضوا على هذا الحال ورفضوا استمرار الحصار، وكان شعارهم في ذلك: “يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يبتاعون ولا يبتاع منهم، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة الظالمة”.
فإذا كانت حمية الجاهلية في العرب يومها قد أبت عليهم القبول بأن يجوع ذوو القربى، فما بال عرب في هذا الزمان يرون إخوانهم أهل غزة أطفالهم ونساءهم وشيوخهم يحاصرون منذ العام 2007، فلا يبتاعون ولا يباع لهم وقد أغلقت عليهم المنافذ برًا وبحرًا وجوًا، وها هم منذ عشرة أشهر وقد أعلنت عليهم حرب دموية مجنونة حصدت منهم أربعين ألفًا، وجرحت مئة ألف، وشرّدت مليونين من أهلنا في غزة، فكيف ولماذا وما بال العرب والمسلمين لا تتحرك فيهم رابطة وأخوّة الدين والقومية والدم، فيكسرون هذا الحصار الظالم وينهون حرب التجويع على إخوة لهم.
وليس أن عربًا وتحديدًا الدموي السيسي وهو من يملك تواصلًا جغرافيًا مع غزة وكان باستطاعته كسر حصار التجويع هذا لكنه لم يفعل بل كان شريكًا كاملًا في حصار غزة وتجويع أهلها.
لقد رأينا تلك المشاهد المسرحية والاستعراضات البهلوانية لطائرات تتبع لدول عربية تقوم بإنزال مواد غذائية وطبية على أهل غزة بواسطة المظلات التي كانت تجمع على أهل غزة مع الجوع الذلّ وهم يتسابقون للوصول إليها للحصول على بعض فتات مما فيها ليسدوا به رمقهم ويطفئوا به جوعة أطفالهم.
نعلم ويعلم الجميع أن هذه الطائرات ما كانت لتصل إلى أجواء غزة إلا بعد موافقة حكومة إسرائيل وجيشها التي رأت في تلك الحركات الاستعراضية تسجيل نقاط لصالح أولئك الزعماء العرب في عيون شعوبهم، مع أن تلك المساعدات الملقاة بالمظلات لم تسمن ولم تغن من جوع ولا عطش. فإذا كانت حكومة إسرائيل قد سمحت لهم بالوصول إلى أجواء غزة، فلماذا لا يكون الإصرار منهم على فتح المعابر وكسر الحصار وإنهاء حرب التجويع المعلنة على أهل غزة؟!
إنهم العرب إياهم الذين كسروا الحصار الذي فُرض على إسرائيل من جهة البحر الأحمر، فلم يعد يصل إليهم عبر البحر الأحمر بضائع ولا مواد غذائية بسبب موقف أهل اليمن، وإذا بزعماء عرب يفتحون موانئهم لرسو سفن إسرائيل وتفريغ حمولاتها، ومن هناك وعبر أراضي هؤلاء العرب وتحديدًا الإمارات مرورًا بالسعودية ثم الأردن ووصولًا إلى المعابر البرية الإسرائيلية، فكيف تحركت إنسانيتهم لكسر الحصار عن إسرائيل بينما ماتت نخوتهم وشهامتهم فلم يعملوا لكسر الحصار عن غزة؟!
إننا إذا في زمن إنقلاب الموازين، واعوجاج المفاهيم، والاستخفاف بالمبادئ بل والتنكر لها. إننا في زمن ماتت فيه إنسانية الإنسان، وغابت نخوة العربي، وانطفأت عاطفة المسلم. إننا في زمن الاستكبار العالمي يقوده عاهرون، وفي زمن الهوان العربي يقوده رويبضات وفاسقون وتافهون، وفي زمن التنسيق الأمني الفلسطيني مع الاحتلال يقوده مشبوهون ومأجورون. في زمان كهذا الزمان فما أصدق ما قاله الشاعر:
إذا صارت مبادئنا مماسح أو قرابينا
لطاغية وجزار ومن قتلوا الملايينا
فقل يا رب زلزلها ونحن نقول آمينا
اللهم من جوّع أهل غزة فجوّعه، ومن ظلم أهل غزة فاظلمه، ومن عطّش أهل غزة فعطّشه، ومن خذل أهل غزة فاخذله. اللهم إنهم مغلوبون فانتصر يا رب العالمين.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .