مقال الشيخ كمال خطيب: “من يمسح دموع أطفال غزة؟”

الشيخ كمال خطيب
لا يتناقش عاقلان ولا يتناطح كبشان في أن أمة الإسلام تعيش في هذه الأيام واحدة من أسوأ مراحل تاريخها، ليس بسبب تكالب أعدائها وإنما بسبب خيانة زعمائها وانخراس بل وضلالة علمائها.
فحينما يصبح زعماء الأمة ملوكًا ورؤساء وأمراء مثل الخاتم في أصبع طواغيت الأرض وأشرارها يحرّكونهم عن بُعد كما يحرك الجهاز الكهربائي فتسلب منهم إرادتهم، فما يكون منهم إلا تنفيذ أجندات أولئك الأشرار السياسية والاقتصادية والأمنية، لا بل إنهم يجعلون منهم سهامًا وخناجر تطعن الأمة في ظهرها وتحاربها في عقيدتها.
لقد غاب عن أمة الإسلام إلا من رحم الله، ذلك الحاكم الذي يخاف الله في الرعية والذي يجعل من نفسه وقفًا خالصًا لخدمة الإسلام والمسلمين، والذي يحسب الحساب لليوم الذي فيه سيقف بين يدي الله سبحانه فيسأله عن حقوق المسلمين، حفظ أم ضيّع.
فبين يدي هذا الواقع الصعب من تاريخ الأمة، وحتى لا نقبع في خانة اليأس والإحباط، وأن هذه مرحلة سنتجاوزها وسحابة صيف ستنقشع، فإننا نقلّب صفحات التاريخ لنقف على صفحات مشرقة لعظماء في قادة الأمة كان لا يشغلهم إلا مصلحة الأمة وشعوبها ورفع راية دينها.
لأن الحافظ الله
ذكرت كتب التاريخ أنه في زمن حكم الخليفة العباسي المهدي فقد هاجت ريح شديدة سوداء على بغداد، فما كان من الخليفة المهدي إلا أن خرّ ساجدًا لله تعالى يبكي ويقول: “اللهم لا تشمت بنا أعداءنا من الأمم، واحفظ فينا دعوة نبينا محمد ﷺ. وإذا كنت يا ربي قد أخذت عامة المسلمين بذنبي فهذه ناصيتي بين يديك”.
إن الخليفة المهدي قد اعتبر الريح السوداء عقوبة من الله تعالى، وأنه كان يخشى أن تكون هذه العقوبة بسبب ذنوب وآثام ارتكبها هو، فلكأنه يقول لله تعالى: “يا رب لا تعذّب أمة محمد ﷺ بذنوبي وتقصيري، وإنما عذبني أنا فهذه ناصيتي بيدك فافعل بي ما تشاء.
فأن يصل الحرص بالحاكم على رعيته بأن يتّهم نفسه بأنه هو السبب فيما أصابهم من بلاء أو جائحه تنزل بهم، فإنما هو الدليل على الصفاء الإيماني والرقيّ الأخلاقي واستشعار المسؤولية.
يا رب عفوك لا تأخذ بزلتنا واغفر إلهٰي ذنبًا قد جنيناه
كم نطلب الله في ضرّ يحلّ بنا فإن تولّت بلايانا نسيناه
ندعوه في البحر أن ينجي سفينتنا فإن رجعنا إلى الشاطئ عصيناه
ونركب الجو في أمن وفي سعة فما سقطنا لأن الحافظ الله
فإذا كان الخليفة المهدي قد اتهم نفسه وخشي من ريح شديدة هاجت، فماذا يقول زعماء المسلمين في فرقة وذلّ وهوان تعيشه الأمة؟ وماذا يقولون في تسلّط الظالمين على المسلمين يذبحونهم ذبح النعاج، بينما أصحاب الجلالة والفخامة والسموّ يتفرجون؟
من يرى الدم الأحمر
بينما الخليفة العباسي المنصور يطوف ليلًا حول الكعبة الشريفة وإذا به يسمع داعيًا يدعو الله ويقول: “اللهم إني أشكو إليك ظهور البغيّ والفساد في الأرض”. فجلس المنصور في ناحية من المسجد وقد استدعى الرجل إليه، فقال له المنصور: “لقد سمعتك تذكر من ظهور الفساد والبغيّ في الأرض، فما الذي رأيته حتى قلت الذي قلته؟ فقال الرجل: إن أمّنتني يا أمير المؤمنين أقول لك ما أعرف. فقال له المنصور: فأنت آمن على نفسك. قال الرجل:
يا أمير المؤمنين إن الله استرعاك أمر عباده وأموالهم فأغفلت أمورهم واهتممت بجمع أموالهم وجعلت بينك وبينهم حجابًا من الجص والآجر وأبوابًا من الحديد، وحراسًا معهم السلاح، ثم سجنت نفسك عنهم فيها، وبعثت عمّالك في جباية الأموال وجمعها، وأمرت ألّا يدخل عليك أحد من الرجال إلا فلان وفلان، ولم تأمر بإيصال المظلوم ولا الملهوف ولا الجائع ولا العاري ولا الضعيف إليك، ولا أحد إلا ولهَ في هذا المال حقّ، فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك وآثرهتم على رعيتك، وأمرت ألا يحجبوا دونك، تجبي الأموال وتجمعها ولا تقسمها قالوا هذا المنصور قد خان الله فَلِمَ لا نخونه نحن؟
وقد كنت يا أمير المؤمنين سافرت إلى الصين مرة وقد أصيب ملكهم بفقد السمع، فبكى بكاء شديدًا، فحثه جلساؤه ومستشاروه على الصبر فقال: أما أني لا أبكي للبلية النازلة ولكني أبكي لمظلوم يصرخ بالباب فلا أسمع صوته، ثم قال: أما إذا كان قد ذهب سمعي فإن بصري لم يذهب، نادوا في الناس ألّا يلبس ثوبًا أحمرَ إلا متظلم، ثم كان يركب الفيل كل يوم ينظر بين الناس فإذا رأى من يلبس ثوبًا أحمرَ عرف أن عند الرجل مظلمة فاستدعاه إليه. وأتبع الرجل يقول للمنصور: فهذا يا أمير المؤمنين مشرك بالله بلغت رأفته بالمشركين هذا المبلغ وأنت مؤمن بالله ومن أهل بيت نبيه ولا ترأف بالمسلمين. فبكى المنصور وقال: ليتني لم أخلق، ليت أمي لم تلدني فماذا أفعل؟ فقال له الرجل: يا أمير المؤمنين إن للناس أعلامًا يفزعون إليهم في دينهم ويرضون بهم في دينهم فاجعلهم بطاعتك يرشدوك وشاورهم في أمرك يسددوك، يقصد أن يختار له بطانة من الناصحين الصادقين”.
أليس جلّ زعماء المسلمين قد اتخذوا لهم بطانة من المفسدين وحاشية من الطفيليين وقد أصبحوا هم سمع أصحاب الجلالة والفخامة وبصرهم؟ أليس جلّ هؤلاء قد أصبح الحكم وخيرات البلد في يد عائلة أو طائفة أو حزب، يقوم على خدمتها أجهزة أمنية يقودها بلطجية وشبيحة وزعران، بينما سجون الدولة مزدحمة بالمظلومين والمقهورين، وبينما أكثرية الشعب تعيش في فقر مدقع وفي ظروف اقتصادية هي غاية في المأساوية؟
إذا كان ملك الصين قد أمر المظلومين بلبس ثوب أحمر حتى يراهم، أفلا يرى ملوك المسلمين ورؤساؤهم الدم الأحمر الذي يسيل أنهارًا في غزة من المظلومين رجالًا ونساء وأطفالًا، أفلا يحرّك فيهم مروءة وإنسانية ملك الصين على رعيته؟
نور الدين وصلاح الدين
حينما وقعت القدس تحت قبضة الاحتلال الصليبي وخشي الصليبيون أن يأتي المدد من مصر لتحريرها وقد كان صلاح الدين الأيوبي حاكمًا لمصر تحت ولاية نور الدين زنكي، فقام الصليبيون بحصار من البرّ والبحر لمدينة دمياط خشية أن يكون منها الانطلاق نحو القدس. وخلال ذلك الحصار قُتل من أهل مصر الكثير على يد الصليبيين، ومات كثيرون جوعًا ومرضًا، ولم ينتهِ حصار دمياط إلا بعد إمداد عسكري كبير وقف عليه نور الدين زنكي رحمه الله كان أشهر الجيوش التي وصلت إلى دمياط، وكان قائد تلك الجيوش الأمير نجم الدين أيوب والد صلاح الدين الأيوبي. وخلال حصار دمياط وجوع أهلها وعطشهم يُسأل نور الدين زنكي عن عدم تبسمه، فكان جوابه: “إني أستحي من الله أن يراني مبتسمًا والمسلمون يحاصرهم الإفرنج في ثغر دمياط”.
وإذا كان هذا حال نور الدين الذي كان يشغله همّ الأمة وما هي عليه، ويحزنه إلى حدّ البكاء وعدم الابتسام وجود مسلمين يموتون جوعًا وعطشًا بسبب حصار الإفرنج لهم، فإنه صلاح الدين الأيوبي رحمه الله الذي تولى زمام الأمور بعد نور الدين حيث كانت القدس ما تزال تحت وطأة الاحتلال الصليبي الذي قتل من أهلها سبعين ألفًا في ضحى يوم الجمعة، وحيث منع الأذان في الأقصى ورفع الصليب بدل الهلال على القباب والمآذن، وحيث جعل جانبًا من المسجد الأقصى اصطبلًا لخيول الصليبيين.
وخلال استعداد صلاح الدين لتحرير القدس والأقصى بعد أن استكمل تطهير مصر من الفاطميين العبيديين وانتقل شمالًا ليطهّر بلاد الشام من الفساد وعمالة الأمراء المتحالفين مع الصليبيين، فإنه كان لا يبتسم أبدًا، ولما سئل رحمه الله عن ذلك قال: “إني أستحي من الله أن أبتسم وما يزال المسجد الأقصى يحتلّه الصليبيون”.
فاذا كان هذا حال نور الدين وصلاح الدين لا يبتسمان مع وجود مسلمين محاصرين في دمياط ومع وجود الأقصى محتلًا، فما بال أصحاب الجلالة والفخامة يضحكون ويقيمون الاحتفالات والمهرجانات للغناء والرقص بينما غزة محاصرة يُقتل أهلها بالصواريخ والمدافع، ومن لم يُقتل بالصواريخ فإنه يموت جوعًا وعطشًا ومرضًا، وبينما المسجد الأقصى يهان ويدنّس ويقتحم بمخططات سوداء لهدمه وبناء هيكل مزعوم على أنقاضه، بينما الزعماء ليس فقط يضحكون، بل يتآمرون؟
نعم إذا كان نور الدين زنكي يستحي من الله أن يبتسم وأهل دمياط في مصر محاصرون من الإفرنج، فما بال السيسي يضحك ويقهقه ويبعث صبيانه وحشّاشيه ورقاصاته من رعاع مصر عند محور رفح الذي يغلقه هو، يغنون ويرقصون وأبناء غزة من خلف باب المعبر يموتون قصفًا وجوعًا ومرضًا؟! بل أليس حذاء زنكي أشرف من رأس السيسي، بل أليس حذاء صلاح الدين بل فردة حذاء مهترئة في رجل طفل غزة أشرف من عرش بن سلمان وبن زايد ومن قصورهما؟
وإن عروش من حكموا وساسوا بشسع حذاء طفل من بلادي
فماذا تنفع التيجان أرضًا تنام على المجازر والرماد
صاحب القميص الأبيض
في إحدى معارك السلطان المسلم شهاب الدين الغوري مع الهندوس، فإنه قد خسر تلك المعركة بعد انتصارات مجيدة سبقتها، فما كان من السلطان شهاب الدين إلا أن يقسم ألّا يبتسم وألّا يخلع القميص الأبيض الذي لبسه “إشارة إلى الكفن” حتى ينتصر على الهنود ويعيد للمسلمين مجدهم، وقد تحقق له ذلك بعد خمس سنوات رحمه الله.
ومثل شهاب الدين ونور الدين وصلاح الدين، فإنه السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله الذي كان يعلم أن حفاظه على أرض فلسطين التي كانت تحت ولايته وعدم السماح بتوطين اليهود فيها قد يكلّفه ملكه وعرشه، فاختار الحفاظ على فلسطين ورفض كل الإغراءات والتهديدات التي وقفت خلفها الجماعات اليهودية والدول الأوروبية والجماعات التغريبية المفسدة داخل الدولة العثمانية، وقال جملته الشهيرة: “لأن يعمل المشرط في جسدي فيفصل لحمي عن عظمي أهون عليّ من أن أعطي حقًا في فلسطين لغير المسلمين. هذه أرض جبلت بدماء أصحاب رسول الله ﷺ، وإنني إذا وقّعت على حق التوطين فأكون قد وقّعت على قرار بالموت على إخوة لنا في الدين”.
لقد دفع الثمن رحمه الله بالتآمر عليه ونفيه إلى باريس وحبسه في سالونيك في بيت يملكه يهودي زيادة في إذلاله، ولاحقًا مات مهمومًا رحمه الله في العام 1918 بعد سنة من وعد بلفور، ولاحقًا احتلال الإنجليز القدس في فلسطين وما تبع ذلك من إيقاع النكبة بشعبنا في العام 1948، وكل ذلك برعاية وحماية بريطانيا والغرب.
هكذا هم إذن المخلصون الأوفياء الذين كانوا يعلمون أن الإمارة وتولّي أمور المسلمين هي تكليف وليست تشريفًا، هي إما أن تكون طريقًا إلى الجنة أو طريقًا إلى النار.
لم يكن يشغل أصحاب النفوس الكبيرة إلا عزّ الإسلام وكرامة المسلمين ورفع راية الدين، متمثلين قول سيدهم وقدوتهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قال: “لو أن بغلة في العراق تعثّرت لخفت أن يسألني الله عنها يوم القيامة لما لم تصلح لها الطريق يا عمر؟”.
وها هي الأمة اليوم تُبتلى بحكام هم أشدّ كيدًا للإسلام من أعدائه لا يشغلهم إلا أنفسهم، فرّطوا بالأرض وتنازلوا عن الحقوق من أجل كراسيهم، يجوع ويموت إخوة لهم في غزة بينما هم جزء من الحصار والظلم الواقع على أهل غزة والمجازر التي تُرتكب بحقهم.
وكلّ يدّعي بالقدس وصلًا ويسقط في الطريق الأدعياء
مضت سبعون والأقصى أسير وما نفع النباح ولا العواء
من يمسح دموع أطفال غزة
دخل النبي ﷺ بستانًا لأناس من الأنصار فيه جمل، فلمّا رأى الجمل النبي ﷺ حتى حنّ وذرفت عيناه، فاقترب النبي ﷺ ومسح على رأسه حتى هدأ ثم قال: “لمن هذا الجمل؟ فقال فتى من الأنصار: هو لي يا رسول الله، فقال له النبي ﷺ: أفلا تتق الله في هذه البهيمة فإنه شكى لي أنك تجوّعه وتدئبه أي تتعبه.
إنه جمل “بهيمة” يبكي وتسيل دموعه بسبب تجويع صاحب له فشكى بدموع عينيه إلى حبيب الله ﷺ فمسح على رأسه حتى هدأ وتوقف عن البكاء.
يا ترى فمن يمسح على رؤوس أطفال غزة، ودموعهم وعيونهم ووجوههم وأجسادهم كلها تقول أنهم جوعى وعطشى ومقهورون. اللهم من جوّع أطفال غزة فجوّعه ومن عطّشهم فعطّشه واجعله ممن يقول وهو في النار {وَنَادَىٰ أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ۚ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} آية 50 سورة الأعراف، واجعله ممن يصيبه دعاء النبي ﷺ لما قال: “اللهم من وليّ من أمر أمتي شيئًا فشقّ عليهم فاشقق عليه”.
لا والله، إن هذا حال لن يدوم، وسيتغيّر بإذن الله ذلنا عزًا وضعفنا قوة وكربنا فرحًا، وسيبعث الله في أمة محمد ﷺ من يمسح على رؤوس أطفالها الباكين المقهورين.
إن الذي ردّ موسى بعد غيبته وردّ يوسف بعد السجن والجبّ
لسوف يكشف عنا ما ألمّ بنا من الهموم ويجلو داجي الخطب
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.