مقالة الشيخ كمال خطيب: “سيدخلون عليكم غرف نومكم، وما بشّار منكم ببعيد”

الشيخ كمال خطيب
إن أكثر ما يقلق المؤمنين والصالحين، هو موقفهم يوم القيامة بين يديّ الله سبحانه يوم تتطاير الصحف وتنشر الكتب، فيها أحصى الله لكل إنسان أعماله {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} آية 49 سورة الكهف.
إنهم يخشون ذلك اليوم لأنهم يعلمون أن ما كان ظنّوه سرًا، فإنّ الله سينشره، وما أخفوه عن الناس، فإن الخلائق ستطلع عليه، ولذلك سميّ يوم القيامة يوم الفضيحة، ولذلك كان دعاء الصالحين لربهم قولهم: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَار*رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ۚ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ*رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} آية 192-194 سورة آل عمران.
إنهم يخافون من موقف الخزي الذي معناه الذلّ والعار والهوان والفضيحة.
وقد بيّن رسول الله ﷺ أن الله تعالى يحاسب العبد المؤمن في خلوة فيعدّد له ذنوبه فيقرّ بها، فيقول له الله تعالى: “إني سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم”. بينما يحاسب العبد الكافر على مرآى من الخلائق ومسمع فيعدّد له ذنوبه “وهذا هو الخزي وتلك هي الفضيحة”، فينكرها بل ويقسم قائلًا: وعزتك ربي ما فعلت، فيقول له الله تعالى: إني سترتها عليك في الدنيا وإني أعذبك بها في الآخرة”.
نعم إنه الهمّ الكبير والذي يحسب له الصالحون ألف ألف حساب، فكانوا يلحّون على الله تعالى أن لا يخزيهم ولا يفضحهم يوم القيامة، وكان من دعاء النبي ﷺ: “اللهم إني أمسيت منك في نعمة وعافية وستر فأتمم نعمتك عليّ وعافيتك وسترك في الدنيا والآخرة”. وكان فيلسوف الإسلام محمد إقبال رحمه الله يناجي الله قائلًا: “اللهم وإن كنت محاسبي يوم القيامة فحاسبني بنجوة من حبيبي محمد ﷺ فإني استحي أن أكون من أمته وأنا الذي عصيته”.
لا تخزوني في ضيفي
ولقد صوّر لنا القرآن الكريم أعظم مشهد من مشاهد الخزي وأكثرها إيلامًا تلك التي عاشها نبي الله لوط عليه السلام لما جاءته الملائكة على هيئة بشر حِسان الوجوه، فتنادى رجال قومه وهرعوا إِلى بيته بعدما سمعوا بضيوفه، وكان هؤلاء الرجال لا يتورّعون عن فعل الفاحشة والشذوذ وهو الذي سبق وكان ينهاهم عن تلك الفعلة القبيحة {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ*إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ ۚ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} آية 80 -81 سورة الأعراف. فراح لوط عليه السلام ينهاهم {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ ۚ قَالَ يَا قَوْمِ هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي ۖ أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ} 78 سورة هود. أليس هو الخزي أن يُعتدى على ضيوف أحدنا في بيته؟ فكيف يكون الحال من الخزي إذا كان شكل الاعتداء كالذي كان يمارسه رجال قوم لوط مع ضيوفه؟!
وإن العاقل هو الذي يتجنّب فعل أي شيء سيجد نفسه مضطرًا للاعتذار عن فعله، فكيف إذا كان هذا الفعل مخزيًا، وقد قال أبو تمام في بيت شعره الجميل:
رأيت الحر يجتنب المخازي ويحميه عن الغدر الوفاء
وهكذا كان دعاء الصالحين دائمًا وأبدًا: “اللهم أجرنا من خزي الدنيا والآخرة”.
معاذ الله
إن الذين ضحكت لهم الدنيا وأعطوا فيها من أسباب القوة وأسباب المال حتى قال قائلهم: {وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} آية 15 سورة فصلت {قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} آية 258 سورة البقرة.
إن أمثال هؤلاء من الطواغيت والجبابرة والأكاسرة والفراعنة والقياصرة وأشباههم في الماضي والحاضر، فإنهم لن يرحلوا من الدنيا إلا وقد اقتصّ الله منهم فأخزاهم وينتظرهم يوم القيامة عذاب عظيم، قال ربنا سبحانه: {فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} آية 26 سورة الزمر. وقد قال المفسرون: “إن خزي الدنيا لهؤلاء بأن يسلّط الله عليهم المؤمنين ويشفي صدورهم منهم”.
فهل يظنّ هذا الظالم أنه سيظلم ويقتل ويشرّد ويجوّع بينما المظلوم لا يستطيع فعل شيء معاذ الله!!! وإنما سيذيق الله هذا الظالم الخزي والذلّ والهوان في الدنيا وله في الآخرة عذاب عظيم.
وقد قال ربنا سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَا ۚ أُولَٰئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} آية 114 سورة البقرة.
فهل يظنّ الجبابرة أن يتجاوزوا كل الحدود وكل الخطوط، فيعتدون ليس فقط على بيوت الناس فيهدمونها ويدمّرونها، وإنما يتجرأون على بيوت الله يدنّسونها ويهدمونها ويخربونها، وأن صاحب هذه البيوت وهو الله جل جلاله، لن يقتصّ ولن ينتقم ممن اعتدى على حرمات بيوته؟ إنه الله تعالى الذي قال: {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ}، إنه الذلّ والهوان سينزل بهم جزاء وفاقًا لما صنعت أيديهم، وكل ذلك لن يغني عن عذاب الآخرة {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} آية 114 سورة البقرة.
حتى لا يشفق عليهم أحد
ولقد تحدّث القرآن الكريم في العديد من الآيات مبينًا أن من خزي الدنيا للظالمين والجبابرة أن يذلّهم وأن يهينهم وأن يجعل الدوائر تدور عليهم، فلا يبقى القويّ قويًا إلى الأبد ولا يظلّ الضعيف ضعيفًا إلى الأبد.
فلقد تحدّث القرآن الكريم عن الذين ظنّوا أنهم {وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ۚ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} آية 2 سورة الحشر. فبيّن سبحانه أن هذا المصير وهذه العاقبة هي من خزي الدنيا {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَىٰ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} آية 5 سورة الحشر.
وإن من خزي الدنيا الذي هو مقدمة لعذاب الله يوم القيامة، فإنه انقطاع أسباب القوة التي بها كانوا يستقوون على الناس ليتحول حالهم من قوة إلى ضعف، ومن عزّ إلى ذلّ ومن رفعة إِلى هوان، قال ربنا سبحانه في بيان مشاهد خزي الدنيا: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ} آية 112 سورة آل عمران.
إن تبدل النعمة على العبد وانقلاب أحواله هي من أعظم مظاهر خزي الدنيا، ولذلك كان النبي ﷺ يدعو الله فيقول: “اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك وجميع سخطك”. نعم إن تبدّل النعم وتحوّل وتغير الظروف وضياع الملك هو من خزي الدنيا والعياذ بالله تعالى.
لما فتح المسلمون جزيرة قبرص رأى بعض الصحابة أبا الدرداء يبكي، فقيل له: أتبكي في يوم أعزّ الله فيه الإسلام؟ فأجاب: “ما أهون الخلق على الله إذا هم أضاعوا أمره، بينما أهل قبرص أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك فتركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى. وإنني أبكي خشية أن نضيّع أمر الله فنهون عليه سبحانه فنصير إِلى ما صاروا إليه”.
وإنّ من خزي الدنيا تلك العقوبة التي تنزل بالأفراد أو الأمم الذين يمارسون البلطجة والعربدة ويستقوون على غيرهم، يظنون أن لا أحد يمكنه الوقوف في وجوههم حتى إذا دارت الأيام عليهم ونزلت بهم العقوبة فإنه الخزي وأي خزي، قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} آية 33 سورة المائدة.
إن أمثال هؤلاء وحينما ينزل بهم خزي الدنيا جزاء وفاقًا بما صنعت أيديهم فإنهم لن يجدوا من يشفق عليهم وسيكون أعدل عقاب الذي هو من جنس عملهم.
يوم يدخلون غرف نومكم
وإن من أعظم الخزي في الدنيا هو خزي أولئك الذين ظلموا شعوبهم وقهروها وتعاملوا مع أبناء شعوبهم كأنهم العبيد والخدم يخدمون في المزرعة التي اسمها الدولة أو الإمارة ورثها جلالته أو فخامته أو سموّه عن أبيه كما يرث المتاع أي متاع.
إنه الخزي الذي سيصيب هؤلاء يوم يستيقظون ذات صباح على زحوف شعوبهم تملأ الشوارع والآفاق تطالب ليس فقط بإسقاط النظام، وإنما تطالب بالقصاص منهم، وليس لهم يومها إلا الهروب والرحيل، فيتركون قصورهم وعواصمهم هاربين إلى عواصم أسيادهم، فتدخل الجموع قصورهم بل وحتى غرف نومهم.
إنه يوم خزي هؤلاء يوم يعزّ الله دينه وينصر أولياءه وينتصر للشعوب المقهورة المظلومة. إنه قريب قريب اليوم الذي فيه سنرى ونعيش هذه المشاهد بأم أعيننا بإذن الله تعالى، ولن ينفع أولئك الطواغيت والظلمة والمتخاذين والمطبّعين وسارقي خيرات بلادهم وناهبي ثرواتها، فلن ينفعهم الندم ولا الاعتذار.
وإذا ظنّ أصحاب الجلالة والفخامة والسموّ أن سيناريو الربيع العربي في جولته الأولى لن يتكرر، وأن ما أصاب حسني مبارك والقذافي وزين العابدين في العام 2011، وما أصاب عملاء أمريكا في أفغانستان في العام 2021 فلن يصيبهم، فإننا نذكّرهم بما قاله شعيب عليه السلام لقومه الذين لم يتعلموا الدرس ولم يتّعظوا بما أصاب غيرهم من الأقوام الذين كفروا وعاندوا الرسل: {وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ ۚ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ} آية 89 سورة هود، فيا هؤلاء اتعظوا فما بشار منكم ببعيد.
وإذا كان هذا هو خزي الدنيا فإن خزي الآخرة هو أعظم، وإذا كنتم ستهربون من غضبة شعوبكم خشية أن يدوسوكم بأقدامهم، فإن ما هو أعظم سينتظركم يوم يقف الفقير الذي سلبتم حقه من خيرات بلاده، ويوم يقف السجين الذي غيّبتموه ظلمًا في عتمات زنازينكم، ويوم يقف الشهيد الذي قتله جنودكم، ويوم يقف المهجّر واللاجئ الذي هرب من بطشكم، ويوم تقف الأم التي حرمتموها فلذة كبدها، ويوم تقف الزوجة التي غيّبتم بالسجن أو القتل سندها ومعيلها، ويوم يقف اليتيم الذي انتزعتم منه والده فلم تجفّ دموعه وهو يبكي ويسأل أين أبي، ويوم يقف الغزيّ الذي حاصرتموه وجوّعتموه وخذلتموه بين يدي الله يقول لله وكلّهم يقولون: يا ربنا خذ لنا حقنا من هؤلاء.
فاللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك. اللهم أتمم علينا سترك. اللهم أجرنا من خزي الدنيا والآخرة. اللهم لا تفضحنا بين خلقك. اللهم لا تخزنا يوم القيامة.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.