مقالة الشيخ كمال خطيب: “سيجبر الله خاطرنا، فماذا أنتم فاعلون؟”

الشيخ كمال خطيب
تتشابه في بعض الأحيان صفات في المخلوق مع صفات وأسماء للخالق جلّ جلاله، لكن هذه الصفات تكون في المخلوق صفة نقص بينما هي في الخالق صفة كمال، وتكون للمخلوق صفة ذمّ بينما هي للخالق سبحانه صفة مدح وجلال وجمال.
من هذه الصفات صفة الجبّار، فمن الناس من يحب أن ينسب إلى نفسه أو أن يعرفه الناس بأنه جبّار، واسم الجبّار هو اسم من أسماء الله تعالى لكن أين هذا من ذاك؟
ولقد عاب القرآن الكريم وذمّ الإنسان المتجبّر في آيات في قرآنه المجيد: {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ }[15 سورة إبراهيم]، وقوله سبحانه: {كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ}[ 35 سورة غافر]. وها هو نبي الله عيسى عليه السلام وهو يحمد الله على نعمه وآلائه عليه ومنها أنه لم يجعله جبّارًا {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا}[32 سورة مريم].
ولكن ذاك الذي يدّعي الجبروت ينسى أن الله سبحانه قد قال فيه: {وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا}[28 سورة النساء]، {وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا}[11 سورة الإسراء]، {إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا}[19 سورة المعارج].
وكيف يكون جبّارًا هذا الذي لا يستطيع أن يضمن استمرار حياته ثانية واحدة؟ وكيف يكون جبّارًا هذا الذي ينتهي عمره في لحظة فيسكت دماغه ويتوقف “سكتة دماغية”؟ أو يسكت قلبه فلا يعود لينبض “سكتة قلبية”؟ وكيف يكون جبّارًا هذا الذي يموت لإصابته في فيروس مع العلم أن مليون فيروس إذا وضعتهم بجانب بعضهم البعض فلا يتجاوزون سنتيمترًا واحدًا؟ وكيف يكون جبّارًا هذا الذي تمرضه بل تقتله جرثومة لا تُرى إلا بأدق المجاهر المخبرية؟ وكيف يكون جبّارًا هذا الذي تتجمّد نقطة دم صغيرة في أحد شرايين المخّ فيصاب بالصمم، فإذا تجمّدت في شريان غيره فإنه يصاب بالعمى، فإذا تجمّدت في شريان آخر فإنه يفقد الذاكرة، فإذا تجمّدت في شريان غيره أصيب بالشلل؟ فهل يكون عاقلًا من يسمي نفسه جبّارًا أم أن الحقيقة تقول أنه أحمق؟!!!
أما الجبّار الخالق سبحانه والذي لا تليق الجبروت إلا لجلاله وعظمته، فهو الذي لا يُقهر ولا يُغلب، والذي قال عن نفسه ووصف ذاته الجليلة بهذا الوصف لما قال: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ}[23 سورة الحشر]، وهو الذي قال عنه رسوله ﷺ: “تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفأها الجبّار بيده كما يتكفأ أحدكم خبزته في السفر” أي يقلبها ويميلها.
وقال ﷺ: “يأخذ الجبار سماواته وأرضه بيده وقبض يده فجعل يقبضها ويبسطها ويقول: أنا الجبّار أين الجبّارون أين المتكبّرون”. وهو ﷺ الذي كان يدعو ربه سبحانه القهاّر الجبّار بقوله: “سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة”. وفي الحديث الآخر عنه ﷺ قال: “إنه يؤتى بجهنم يوم القيامة فتنادي الخلائق فتقول: إني وُكّلت بكل جبّار عنيد”.
ولقد تحدّث العلماء عن ثلاثة معانٍ أساسية من بين معانٍ كثيرة لكلمة الجبار.
جبر العلوّ
فالله سبحانه هو الجبّار العالي الذي لا يُنال، الذي قال عن نفسه: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}[18 سورة الأنعام]. فيقال نخلة جبّارة أي عالية جدًا ومرتفعة فلا يستطيع أحد قطف ثمرها. ويقال ناقة جبّارة أي ضخمة ويصعب على كل إنسان أن يركبها. ووصف سبحانه القوم الذين تخوف قوم موسى منهم بقوله: {قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ}[22 سورة المائدة].
فالعلوّ والعظمة هي له سبحانه الجبار. وأما من يتعالى ويتعاظم من البشر فلا ينقاد لأحد ولا يخضع لأحد ولا يتواضع لأحد بزعم أنه جبّار، فكان حقًا على الله أن يقصمه ويذلّه ويهينه، وقد قال ربنا سبحانه في الحديث القدسي الجليل: “الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدًا منهما قذفته في النار”.
ومن معاني جبر العلو الذي هو له سبحانه وليس لأحد من خلقه بل إن كل خلقه هم تحته، هذا العلو للجبّار سبحانه كقوله سبحانه: {وَٱللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ}[41 سورة الرعد]، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ}[21 سورة يوسف]، {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ}[16 سورة البروج]، وقوله ﷺ: “ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن”.
جبر الرحمة
إنه الجبّار سبحانه جابر عثرات الكرام، وقد قيل في العبارة المشهورة: “ما عبد الله في الأرض بأفضل من جبر الخواطر”. وقيل كذلك: “من سعى بين الناس في جبر الخواطر أدركته عناية الله في جوف المخاطر”.
فالجبّار سبحانه يجبر خاطر من انكسرت خواطرهم، فالذي يجبر العظم المنكسر يقال له المجبّر. يقول الشيخ محمد راتب النابلسي: “والله سبحانه الجبّار الذي يلمّ الشمل ويغني الفقير، ويجبر الكبير، ويعطي المحروم، ويرفع الذليل، لذلك فكلما جئت الله عز ّوجلّ خاضعًا منكسرًا جبر كسرك ولمّ شعثك ورأب صدعك وقوّى ضعفك وأغنى فقرك ورفع شأنك”.
كان النبي ﷺ يدعو الله ويقول: “يا جابر كل كسير” لأن الله إذا جبر الفقير أغناه، وإذا جبر المريض شافاه، وإذا جبر الذليل أعزّه، وإذا جبر الضعيف قوّاه، وإذا جبر الخائف أمّنه.
وإذا كان المرء في خصومة مع صاحب عزوة واستعمل عزوته وتجبّر فإن الله الجبّار سينتصر للضعيف على من تجبّر عليه وسينتصر الجبّار للمظلوم من الظالم المتجبر.
يقول الشيخ النابلسي: “هي قصة أبّ غني ترك إرثًا كبيرًا وترك أولادًا، وأحد أولاده كبير قويّ والآخرون صغار ضعفاء. استطاع الكبير بذكاء وحيلة أن يأخذ معظم الثروة له وأن يخصّ إخوته الصغار بشيء قليل لا يسمن ولا يغني من جوع، لكنه الله الجبّار يصلح الأمور ويقصم ظهور الجبابرة، فما زال أحد الإخوة الصغار وقد كبر والله عزّ وجلّ وفّقه وبارك في أعماله وأوسع عليه في رزقه، بينما الكبير الذي تسلّط على أموال أبيه فقد تراجعت أحواله وضرب الفقر عليه أطنابه وسدّت الطرق وأبواب الرزق في وجهه حتى أنه اضطر أن يبيع لأخيه الصغير كل ما أخذه من أبيه غصبًا، ولم يكن له بد إلا أن يعمل في وظيفة عند أخيه الذي انقلب حاله من الفقر إلى الغنى بينما انقلب حاله هو من الغنى إلى الفقر.
فالجبّار يقصم الظالم ويرحم المظلوم، فهو جبّار على الظالمين جبّار للمظلومين، جبّار على الأقوياء جبّار للضعفاء، جبّار على المتكبرين جبّار للمتذللين له سبحانه.
جبر القوة
إنه الله سبحانه الجبّار صاحب الإرادة النافذة والمشيئة التي لا تُرد، فإنه سبحانه إذا أراد أن يجبر كسر مظلوم ومحزون ومقهور، فإن ما أراده سيكون مهما بلغ الظالم من أسباب القوة، فهو سبحانه الذي قال في الحديث القدسي الجليل: “أنت تريد وأنا أريد فإن سلّمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلّم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد ثم لا يكون إلا ما أريد”.
فها هو فرعون الذي أراد لضمان بقاء ملكه، فإنه وبعد الرؤيا التي رآها فإنه أمر بأن يُقتل كل طفل ذكر من بني إسرائيل، وهكذا فعل ومن كان يعثر في بيتها على طفل هي قد خبأته فكان يقتل الطفل ويقتل أمه. هكذا أراد فرعون، ولكن الله الجبّار أراد غير ذلك، فنجّى موسى بل جعله يتربى في قصر فرعون، فغلبت إرادة الله إرادة فرعون وجبر الله خاطر أم موسى، فهو سبحانه {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ}[16 سورة البروج].
وها هم إخوة يوسف وقد أرادوا به كيدًا فجعلوه في غيابة الجبّ، إنهم أرادوا قتله والتخلّص منه لكن إرادة الجبّار الله سبحانه ليس فقط أنه نجّاه من القتل، بل وصل به إلى أن يكون عزيز مصر ويدخل عليه إخوته يتسوّلون إليه ليعطيهم القمح ثم يتوسّلون إليه أن يسامحهم، {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ}[91 سورة يوسف]، هم أرادوا أمرًا والله الجبّار أراد أمرًا، فغلب أمر الجبّار أمرهم {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}[21 سورة يوسف]، وجبر الله خاطر يعقوب وقد ردّ يوسف إليه.
وها هو إبراهيم عليه السلام وقد أراد قومه أن يحرقوه في النار وكان الأمر بيدهم يفعلون ما يريدون، فهم الأقوياء وهو الضعيف، وهم الكثرة وهو الوحيد، وهم العزوة وهو الذي كان أبوه في صف من عادوه. كان بإمكان القويّ الجبّار أن يخفي عنهم من الذي حطّم الأصنام، كان بإمكان وقدرة الله أن يرسل أمطارًا غزيرة فتطفئ نارهم، لكن الله تعالى الجبّار أراد أن يريهم قوته وجبروته بأن جعل النار لا تحرق إبراهيم بل وتكون بردًا وسلامًا عليه، {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ}[69 سورة الأنبياء]، إنه جبر خاطر خليله إبراهيم وجعل أعداءه هم الخاسرون {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ}[70 سورة الأنبياء].
وها هو الحبيب محمد ﷺ وقد تآمر عليه قومه ليقتلوه بعد أن كانوا حاصروه وقاطعوه ثم حاربوه يوم بدر وأُحد والأحزاب وقد أغرتهم قوتهم وعزوتهم، لكن الله الجبّار قد نصر رسوله ﷺ، وليس ذلك وحسب، وإنما عاد إلى مكة ودخل عليهم فاتحًا وأصبحت رقابهم رهن إشارة واحدة منه، لكنه وقف قائلًا لهم: “ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرًا أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء”. ولقد جبر الله بقوته خاطر حبيبه محمد ﷺ وقد جعله هو العزيز وهم الأذلاء وهو القويّ وهم الضعفاء.
يقول الشيخ النابلسي في بيان كيف يجبر الله خاطر عباده، قال: “قالت امرأة لضرّتها التي لا تنجب وهي تتعالى عليها وتعيّرها وكأن أمر الإنجاب بيدها، فقالت بزهوٍ: في بطني ولد وعلى حضني ولد ويجري أمامي ولد، إنهم ثلاثة أولاد، بينما تلك لم تنجب ولدًا ولا بنتًا. فمن يصدّق أن هؤلاء الأولاد الثلاثة قد ماتوا تباعًا بينما التي لم تكن تنجب فقد رزقها الله خمسة أطفال ذكور تباعًا”.
ويروي كذلك الشيخ محمد راتب النابلسي تلك القصة التي اشتهرت كثيرًا على لسان المحدّثين: “أنَّ رجلًا كان يجلس مع زوجته وكانا يأكلان الدجاج، فسمعا طارقًا يطرق الباب فقامت ترى من الطارق وكان رجلًا سائلًا فقيرًا، رغبت الزوجة أن تتصدق عليه بطعام من الدجاج الذي كانت تأكله وزوجها لكن الزوج كان بخيلًا وفظًا فنهرها وقال لها: لا تعطيه واطرديه وأغلقي الباب في وجهه.
دارت الأيام وتطلقت المرأة من زوجها لفظاظته وقسوة قلبه وبخله رغم غناه وكثرة ماله، وكان نصيب المرأة أن تتزوج من رجل ميسور الحال.
وبينما هي وزوجها يتناولان الطعام وكان بقدر الله دجاجًا، وإذا بطارق يطرق الباب، فانطلقت هي لترى من بالباب فتراجعت مضطربة، فلاحظ زوجها وقال لها: من الطارق؟ قالت: سائل، قال لها: ولماذا اضطربت؟ قالت: أتدري من السائل؟ إنه زوجي الأول، فقال لها مبتسمًا: حدّقي في وجهي جيدًا وتذكّري، أنا السائل الأول”.
إنه الله الجبّار الذي جعل الغني فقيرًا والفقير غنيًا. إنه الله الذي جبر خاطر الذي طُرد عن الباب وليس أنه قد أصبح غنيًا بل إن الذي طرده عن بابه يومًا قد أصبح فقيرًا يقف على أبواب الناس .
وتلك الأيام نداولها بين الناس
إن من أعظم الآيات التي بيّن الله سبحانه قدرته وجبروته هي قوله: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[26 سورة آل عمران ].
إنه الله الذي يقول للظالمين وأدعياء القوة، إن القويّ لا يبقى قويًا إلى الأبد ولا الضعيف سيظلّ ضعيفًا للأبد، ولا الغني سيظلّ غنيًا ولا الفقير سيظلّ فقيرًا. فيمكن للجبّار أن يغيّر الحال فيصبح القويّ ضعيفًا والضعيف قويًا، والغني فقيرًا والفقير غنيًا فهكذا حال الأفراد وهكذا حال الأمم كما بيّن الله سبحانه في قانون التداول، {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}[140 سورة آل عمران].
فللذين يتجبّرون اليوم ويطغون ويقتلون ويجوّعون لا يخافون من العباد ولا من ربّ العباد، يا هؤلاء تذكّروا قانون التداول وتذكّروا وأنتم تقتلون الأطفال في غزة بأن طاغية جبارًا يومًا قتل أطفالكم واستحيا نساءكم، تذكّروا وأنتم تجوّعون الأطفال في غزة بأن نازيًا مجرمًا قد فعلها يومًا مع أطفالكم فجوّعهم وأحرقهم أحياء.
أيها المتجبّرون اليوم بقوتهم وقوة أمريكا وخذلان زعماء العرب والمسلمين، لماذا تحرقون كل المراكب ولماذا تقطعون كل الحبال بينكم وبين شعبنا وأمتنا؟ فتذكّروا أن الأيام دول وأنه هو اليقين القاطع بإذن الله القهّار الجبّار بأن المستقبل لنا ولديننا، وأن الله سيجبر خاطرنا، وسيجمع شعثنا بعد فرقة، وييسّر أمرنا بعد عسر، ويطمئننا بعد خوف، وسيأتينا بعد الكرب بالفرج.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.