أَن نُحبَّ حُبَّ الاستطلاع

جُزُر تايلاند رائعة المنظر ما شاء الله، ويصعب وصف جمال خلق الله للطبيعة في تلك البلاد. وفي إحدى هذه الجزر توجد ظاهرة سياحية مشهورة: “القرود السّراقة”. والحديث عن قردة تعيش في جزيرة خلابة وعندما يصل السائحون إلى هذه الجزيرة، تبدأ هذه القردة بالهجوم المفاجئ على الأشخاص محاولة أن تأخذ أي شيء تستطيع أخذه (أو “سرقته”) منهم، مثل الحقائب والكاميرات وحافظات النقود والأكياس والأكل والقلائد وغيرها.. وهناك مثل هذه القردة في بعض المدن ويقومون كذلك بلمس أي شيء ودخول أي باب أمامهم (بيت أو متجر) ويأخذون ويرمون الاغراض ويقومون بأعمال “شغب” وفوضى شديدة. إلا أن ما حيّر العلماء والباحثون هو: “لماذا تقوم هذه القردة بهذا التصرف؟” هل فعلاً لأنها تحب السرقة والفوضى؟ وكان الجواب في العديد من الأبحاث: لا. لا تقوم هذه القردة بذلك للسرقة أو حب الامتلاك.
إنَّ هذا التصرف ينبع لسبب قوي واحد وفق النظريات الناتجة من هذه الأبحاث، وهو: وجود نسبة عالية جداً من “حب الاستطلاع” لدى هذه المخلوقات. فهي تحب أن تكتشف كل شيء وتجرب كل شيء، حتى لو كان مؤذياً ويشكل خطرًا لها. ووفق بعض النظريات فإنّ هذه القردة تعتقد أنه بتصرفها هذا ستحصل على مكافأة ما.
هذا التصرف يجب أن يلفت نظر الإنسان. ومجرّد أن هناك من حاولوا دراسة هذا التصرف فهذا أيضاً بسبب “حب الاستطلاع” أو “الفُضول” عند الإنسان أيضاً. والفُضول عنصر هام لدرجة أنه إذا تواجد – يُساعد ويُحسّن أيضًا في صحة الإنسان! فقد ذُكر ذلك في العديد من الدراسات والأبحاث والتقارير والبرامج الهادفة لرقي تفكير الإنسان وإبداعه. ما علاقة “الفُضول” بصحة الإنسان؟ فلنتمعن بهذا المعطى الذي يتطرق لدراسة أجريت على كبار السن – حيث وجدوا أن إنخفاض الفضول عند كبار السن – يكون إشارة للمرض ولتدهور الحالة الصحية. بينما تقوية وزيادة شعور الفضول عندهم يخفض احتمال اصابتهم بالأمراض القلبية، وهذا صحيح لكل كبار السن دون علاقة لوضعهم الصحي في تلك اللحظة – أي هذا يساعدهم كلهم.
إنّ تشجيع الفُضول عند الجميع، عند الكبار وطبعاً وخاصة عند الصغار هو أمر حيوي ومطلوب وواجب علينا جميعاً، ليكون مجتمعنا مجتمعاً أكثر نشاطاً وأكثر إبداعاً وأكثر إتقاناً. لتنمية أشخاص فُضوليين مكسب للفرد وللمجتمع. لأن الأشخاص الفضوليين ينظرون إلى العالم بنظرة أوسع ويبحثون دومًا عن تحديات ونشاطات جديدة وعلاقات جديدة ويسألون كثيراً لأن الاستفسار والحصول على جوابه هو وقود لهم ولعقلهم المُفكّر. عقلهم أو مُخُّهم يعمل دوماً، دون توقف لاستراحة لا يستفيدون منها بشيء. وكما يُقال: “المُخّ كالعضلة – كل ما يتم تمرينها وتدريبها فهي تصبح أقوى!”. والفضول يسارع في هذا التمرين الصحي والمطلوب في كل جيل. وهذا التدريب يؤدي بالتالي إلى اكتشاف أفكار جديدة وحلول جديدة ونظرات جديدة على مسائل هامة، لم يكن المخ يفكر فيها بنفس الطريقة قبل ذلك. وبما أن الفضول حيوي ومهم أيضاً لصحة الإنسان ونرى الأطفال يولدون فضوليين بأعلى النسب، فنرى الأطفال يسألون عن كل شيء ويستفسرون ويطلبون إجابات عديدة – فلماذا لا نرى “عنصر الفُضول” عند كل من حولنا من الجنس البشري البالغ رغم أنه لصالحه؟؟ ما الذي يحدث مع الإنسان الذي يجعله يصبح أقل فضولاً وأقل تفكيرًا فأقل إبداعًا في عالمنا؟ وللجواب علاقة بعامل “الخوف” – ذلك الخوف من أن نسأل أو نستفسر، كي لا يعتقدون أننا أغبياء إذا سألنا.. بمعنى ظاهرة “أسكت أحسن لك”.
ولنتذكر تلك الحادثة التي أثرت على تاريخ البشرية كلها: عندما سقطت التفاحة على رأس العالم نيوتن. فكثير قبله رأوا التفاحة تسقط – لكن نيوتن وحده الذي سأل “لماذا سقطت التفاحة؟”. الفُضول هو أول عمل يقوم به أي مخلوق ليبدأ باكتشاف كل جديد يخصه ويخص عالمه من حوله، وبعده بإمكانه أن يُبدع ويُنتج ويخدم البشرية.
إن التشجيع على الفضول يجب أن يكون في كل مهام حياتنا وفي كل جيل، لأن تشجيع الأشخاص عليه وزيادة نسبته، بإمكانه أن يولّد طاقات رهيبة عند هؤلاء الأشخاص وكذلك يحفز أشخاصًا آخرين يستطيعون تحويل الأفكار الى مشاريع رائدة وسبّاقة تتطور هي بدورها لمشاريع أكبر بسبب نفس الفُضول الذي سيحركها دوماً. أليس المخ البشري وفُضوله من ميزات من أعطاه الله سبحانه وتعالى أصعب المهام في هذه الأرض؟ مهمة إعمار الأرض التي أُمر بها الإنسان. فلماذا نُصرّ على تغيير كوننا فُضوليين؟ فلنسأل ونفكر بأوسع الطرق دون خوف، وعلينا أيضًا أن نشجع كل الأجيال على أن يسألوا ويطلبوا توضيحات – مهما كان السؤال أو الموضوع. فالإجابة التي تحترم الفُضول ستساعد أيضًا في عدم توفير إجابات سلبية يمكن للفُضوليين أن يحصلوا عليها بطرق سلبية فتكون نتائجها سلبية كذلك.
الفُضول وقود طبيعي يجب علينا أن نتزوّد به دوماً ولا يقل أهمية عن ذلك: أن نسمح لغيرنا بالتزود به وباستعماله دون أي خوف أو خجل أو معارضة تلقائية-أوتوماتيكية، وفي كل جيل. النتائج الإيجابية ستأتي عندها بكميات هائلة بإذن الله. والله الموفق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى