تحفيز الاستقلالية من الصغر
في المقال السابق وأنه من أهم الأمور التي يجب علينا توفيرها كأفراد في مجتمعنا، هي الاستقلالية لكل شرائح المجتمع. بنفس الوقت، علينا تشجيع كل فرد بأن “يأخذ” الاستقلال وأن يدرك أهميته ويستغله لمصلحة نجاحه، شرط أن يربط هذا النجاح بمنفعة للمجتمع.
إدراك مفهوم الاستقلالية يُربط عادة – أو تلقائياً عند العديد – بالحرية التامة. أي بمفهوم أن نكون غير ملزمين بشيء أو لشيئ – مستقلين وأسياد أنفسنا. وقد أوضحت سابقاً أن الفرق بين “الاستقلال” و”الاستقلالية” هو أن الاستقلال يُؤخذ بينما الاستقلالية تُعطى، وأن الاستقلال لا يعني بالضرورة الحرية. الا أن هذا التوجه السائد الذي يربط الاستقلالية بالحرية التامة والمطلقة لا يخدم بالضرورة الهدف الأصح من ميزات الاستقلالية. ونستطيع توفير العديد من الأمثلة على هذا الأمر وفي عدة مجالات: فمن يعمل مثلاً بشكل “مستقلّ” (وليس أجير) فعلاً يتحكم بـ”حرية” وقته ومواعيد العمل وغيرها. إلا أنه اذا تمادى بهذا الأمر وتجاهل أهمية ملاءمة ومراعاة عمله ووقته وميزاته لمستقبلي خدماته، فاستقلاليته تكون نقطة ضعفه وقد تؤدي لدمار عمله لا سمح الله، لأن الاستقلالية لا تعني الاستهتار و”عدم المبالاة” بغيرك. صحيح أنك في هذه الحالة “مستقل” – لأنك قررت أن “تأخذ” الاستقلال، لكن إدارة العمل (بكل أبعاده) بالشكل الصحيح تحتم عليك أن يستفيد غيرك من استقلاليتك أيضاً.
وإذا تربّى طفل على أن يكون مستقلاً، فالمطلوب عدم ربط هذا بالحرية التامة. أن يستقل لا يعني أن يتصرّف كما شاء فقط، بدون استشارة الأهل مثلاً والأشخاص المهمين في حياته. علينا نعم أن نبادر ونشجّع أطفالنا وصغارنا وشبيبتنا القيام بأكبر عدد ممكن من المهام هم بأنفسهم. هذا ليس بالسهل والأطباع تختلف وهذا مفهوم. الا أن هذا ليس مبرّراً لعدم تحفيز الاستقلالية من جيل صغير. مجرّد أن حفّزنا وكنا قدوة للاستقلالية الناجحة والناجعة وطلبنا هذا من الغير – نسبة التطبيق المتوقع تزيد طبعاً. وبعد هذه الخطوة تبدأ مرحلة هامة جداً، وهي “المبادَرة” مِن مَن أعطيناهم الاستقلالية. لماذا يحدث هذا؟
المبادَرة تحدث لأنه وكما في كل مجالات الحياة، توجد نتيجة لكل فعل نقوم به لسبب ما. والنتيجة هي أن الاستقلالية الصحيحة، ومن الصغر، تؤدي بالضرورة الى “تحمّل المسؤولية” – مسؤولية فعلك (الذي “بادرت” أنت به – بسببك) ومسؤولية نتائج هذا الفعل تقع عليك وعلى غيرك. هذا المسار المطلوب هو المهم والأهم: أن تتم ترجمة الاستقلالية الى حرية مع تحمّل المسؤولية!
التحفيز للاستقلال والاستقلالية يجب أن يتغلغل لكل مهام حياتنا – البسيطة منها والمركبة، وكذلك لكل أفراد المجتمع – الصغار والكبار، الذكور والإناث، وبتفاعل دائم. التجديد المشروط هو عدم التنازل عن تحمّل المسؤولية ونحن نعطي هذه الاستقلالية. إعطاؤها من مسؤوليتنا وأخذها كذلك.
أحياناً المهام البسيطة التي نقوم بها تؤدي إلى نتائج رائعة. فمحبّذ جداً مثلاً تسليم مهام واضحة حتى للصغار ليعتادوا على “حرية تطبيقها” (مع مراقبة ومتابعة الكبار طبعاً) وكذلك للشبيبة، ممّا سيجعلهم يشعرون بمفهومهم ما هو معنى الاستقلالية، دون أن يفصلوها عن تحمل المسؤولية شخصياً على المهمة وتطبيقها. فإذا نجحوا في تطبيقها – اكتسبوا التجربة الحقيقية و”فازوا” بعدة مفاهيم تعزز وتقوي من شخصيتهم ولهذا نتائج إيجابية عديدة ورائعة. وإذا لم ينجحوا، سيحاولون مرة أخرى ولن يستسلموا (مع تشجيعهم من صاحبي الخبرة) لأن المسؤولية تحتم عليهم أن يتصرّفوا بهدف ودافع الإنجاز، أي القيام بالمهمة وحتى بإتقان. خاصة بعد أن شعروا بمتعة الاستقلالية والحرية وكيف أن قرار الإنجاز ينبع منهم أيضاً ولم يُفرض عليهم بدون مبرر. واجب علينا عند هذه النقطة نقل الكلمات المشجعة كجزء من التفاعل الاجتماعي الصحيح والسليم.
هناك من يشكّك هل فعلاً سيصل مجتمعنا الى وضعٍ أفضل، ينعم بميزات الاستقلال والاستقلالية والحرية والمسؤولية المتبادلة لحياة اجتماعية كريمة. جميع هذه الميزات تتوفّر عند استقلالنا الحر واستقلاليتنا المسؤولة معاً، والأمل المربوط بالعمل للأفضل موجود.
يجب على قيادات المجتمع الناجحة والناجعة التي نرغبها، أن تدرك المفاهيم الهامة التي ذُكرت من أجل تطبيقها أولاً، ولا يقل أهمية عن ذلك – من أجل تعليمها للأجيال القادمة أيضاً. ولكل جيل مسؤوليته تجاه الأجيال الأخرى. فلنعمل جميعاً لتحقيق الأمل لنحوّل مجتمعنا الى ذلك المجتمع المستقلّ والحرّ والمسؤول والمُبادِر للإيجابيات في آنٍ واحد، والذي سيحوّل واقعنا بدوره، الى واقعٍ أكثر من رائع بإذن الله. والله الموفق.