لا تحزني يا قدس فلقد تفتحت أبواب السماء
أذكر حين كنا صغارا، كنا نعيش أجواء رمضان المفعمة بالحب والتواصل الاجتماعي وصلة الأرحام المليئة بالروحانيات التي تجعل لرمضان مذاقا ونكهة لا تنسى، رغم أن أحوال الناس وظروفها الاقتصادية كانت على حال لا يمكن مقارنتها بما عليه حال الناس في أيامنا هذه.
فأذكر أنه إذا حلت ليلة السابع والعشرين من رمضان، والتي لعلها تكون ليلة القدر، كنا نتوجه لله بالدعاء وعيوننا إلى السماء علنا نرى تلك الأبواب التي تفتح وتشرع، على اعتبار تلك القناعة الإيمانية والتراثية أن أبواب السماء تفتح ليلة القدر فتنزل الملائكة ويصعد الدعاء.
لم نكن نرى أبواب السماء بعيون رؤوسنا، ولكننا كنا نراها بعيون قلوبنا التي آمنت وصدقت أن أبواب السماء تفتح، وأن ملائكة السماء ومعهم جبريل ينزلون إلى الأرض وإلى مساجدها يدعون ويؤَمِّنون على دعاء أهل الأرض: (تنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر* سلام هي حتى مطلع الفجر)4+5 من سورة القدر.
صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمرنا بتحري ليلة القدر في الليالي الوتر من العشر الأواخر من رمضان، لعل إحداها تكون ليلة القدر، أي ليالي 21-23-25-27 و29 من العشر الأواخر، ولكن الموروث والمتأصل في النفوس- ويدعمه نصوص شرعية- تسير إلى ليلة السابع والعشرين من رمضان.
فإذا كنا سنحيي ليلتنا القريبة بإذن الله تعالى على أمل أنها ليلة القدر الشريفة، ليس لأننا سنظل نحملق في السماء لعلنا نرى أبواب السماء المفتوحة بعيون رؤوسنا، ولكننا سنراها بعيون قلوبنا وقناعتنا أن الله سبحانه وتعالى قد وعد فيها باستجابة الدعاء لمن أحيا ليلة القدر، وأنه سيغفر لمن قامها إيمانا واحتسابا، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غُفر له ما تقدم من ذنبه). إنه وعد الله سبحانه بأن يكون له في هذه الليلة عتقاء من النار. ولأنه وعد الله الذي لا يُخلف لذلك فإننا يقينا نرى بعيون قلوبنا أبواب السماء المشرعة المفتحة لملائكة السماء تنزل إلى الأرض ولدعاء أهل الأرض يصعد إلى السماء عند رب جليل يجزي ويعطي ويفيض كرمة ورحمته على عباده، أسأل الله أن نكون ممن يصيبهم عطاء الله سبحانه وتنزل عليهم رحمته في هذه الليلة، وأن نكون من عتقائه من النار.
إنه رغم عتمة وسواد وحلكة الليل، فإن عيون القلب كانت ترى أنوار أبواب السماء تتلألأ، وإنه وبنفس وبمقدار ما في أيامنا هذه وظروفنا وأحوالنا نحن المسلمين من ظلم وظلام، ومن عتمة وسواد، ومن كرب وبلاء، ومن فتن وبلابل، ومن عواصف هوجاء تضرب في كل ناحية من أوطان وبلاد العرب والمسلمين، وإنه وبنفس مقدار قناعتنا ورؤية قلوبنا لتلألؤ أبواب السماء ليلة القدر، فإننا كذلك نرى تلألؤ أنوار المستقبل المشرق الوضاء التي ستبدد عتمة ليلنا وتنير ظلمة حالنا وواقعنا.
ومثلما أن غير المؤمنين والكافرين، بل واليائسين من رحمة الله ومغفرته لكثرة ذنوبهم وجهلهم بأن رحمة الله أكبر من ذنوبهم مهما بلغت، فمثلما أن هؤلاء لا يؤمنون ولا يصدقون بل ويسخرون ويشككون من حقيقة وعقيدة تفتح أبواب السماء ونزول الملائكة وعتق الله عز وجل لعباده من النار في تلك الليلة، فمثل هؤلاء تماما اليائسون والمحبطون الذين لا يرون ولا يريدون تصديق من يرى بعيني قلبه أنوار مستقبل الأمة والإشراقات عند القريب بإذن الله تعالى. وإنهم أعداء الإسلام الذين يسخرون كذلك من قناعة أبنائه من أن المستقبل للإسلام. إن للأيام دورتها، وللحضارات والشعوب دورتها، وإن الدورة القادمة القريبة هي دورة وجولة وصولة الإسلام ومشروعه المبارك، حيث أنواره ستعمّ الدنيا بإذن الله، وستبدد ظلام الظلم والبغي: (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متمم نوره ولو كره الكافرين) آية 8 سورة الصف.
فمثل قناعتنا وعقيدتنا بأن ليلة القدر هي ليلة تفتح أبواب السماء ونزول الملائكة، وأنها ليلة استجابة الدعاء؛ نرى هذا بعيون قلوبنا حتى لو لم تره عيون رؤوسنا، فإننا نؤمن ونعتقد بأننا على موعد مع الفرج والتمكين وزوال هذه العتمة وهذا الظلم والظلام، وإننا نرى هذا بعيون قلوبنا الواثقة المصدقة لوعد الله سبحانه ولوعد رسوله صلى الله عليه وسلم: (ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار بعز عزيز أو بذل ذليل؛ عز به يعز الله الإسلام وأهله وذل به يذل الله الشرك وأهله).
سنفرح بالعيد رغم أنوفهم
هي آخر ما تبقى من أيام شهر رمضان المبارك تقودنا إلى يوم عيد الفطر؛ إلى يوم الجائزة، يوم العيد بما فيه من مظاهر الفرح والسرور والابتهاج والتوسعة على العيال والأهل، كما هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم. ولكن ولأننا أمة واحدة، ولأن المسلمين إخوة، ولأن جراحات شعوبنا تنزف والدماء تسيل، ولأن الطواغيت منا، والذين استعانوا بأعدائنا لقتل شعوبهم والبطش بهم وتدمير بيوتهم وقراهم، كما هو حال سوريا وحال العراق، فإنها البسمة التي ستجد صعوبة لشق طريقها إلى الشفاه المحزونة والقلوب المكلومة.
منذ خمس سنوات ومنطقتنا العربية تشهد زلزالا ما يزال يضرب في كل ناحية. إنه زلزال الدمار والقتل والتشريد والتهجير عقابا لشعوب أرادت أن تنتصر لكرامتها وتسعى لحريتها؛ شعوب عانت عشرات السنين من القهر والظلم والاستبداد من أنظمة فاسدة رفعت شعارات الوطنية والثورية والقومية الكاذبة، فما أن تحركت الشعوب مع بداية الربيع العربي وثوراته ضد تلك الأنظمة، وإذا بهؤلاء وحلفائهم من الشرق والغرب يحولون هذا الربيع إلى خريف بل إلى زلزال مدمر.
هكذا فعلوا في مصر، التي أطاح شعبها بالطاغية حسني مبارك واختاروا لهم رئيسا منتخبا هو محمد مرسي، فانقلبوا عليه وأودعوه السجن. وهكذا فعلوا بسوريا وما يزالون لا لشيء إلا لأن الشعب طالب بالحرية والكرامة. وهذا حال العراق التي سلمها الاحتلال الأمريكي للاحتلال الإيراني يتشفى بأهل العراق وينكل بهم في حقد جمع بين القومية الفارسية والمذهبية الشيعية. وأما حال اليمن وليبيا فليس بعيدا عن ذلك، وإن اختلفت الأسماء والمسميات.
وإنه شعبنا الفلسطيني، وإنها غزة المحاصرة المجوّعة لعشر سنوات عجاف، يراد لها أن تذل وتنحني، لكن غزة تأبى الانحناء لغير الله تعالى، لا بل إنها علمت الدنيا معاني الكرامة والإباء في صمود أسطوري لا يقدر عليه إلا شعب حمل عقيدة ودافع عن حق.
فرغم دموع الفلوجة، ورغم زفرات حلب، ورغم أنين تعز، ورغم حسرة القاهرة، ورغم تنهدات غزة، ورغم صرخات القدس، رغم هذا الحال كله والذي يراد لنا من خلاله أن نصيح نردد مع الشاعر لما قال:
عيد بأي حال عدت يا عيد بما مضى ام لأمر فيك تجديد
ومع أنها حالة مستمرة منذ سنوات، ولعلها منذ عقود في حال شعبنا الفلسطيني، إلا أننا لن نيأس ولا نتلفع بعباءة القنوط، وإننا على يقين أن هذا الحال لن يدوم، وأن جديدا كثيرا بإذن الله تعالى ستراه أمتنا وتعيشه قريبا، فرغم هذا كله فإننا سنفرح بالعيد ويبتسم أطفالنا في العيد وللعيد، ولن يرى منا أعداؤنا إلا كل عناد وإصرار وثبات وثقة ويقين بأننا إلى يوم الفرج أقرب.
لا تحزني يا قدس
كم هي معاني اللؤم والخسة والصلف حملها قرار المؤسسة الإسرائيلية باقتحام وتدنيس المسجد الأقصى في يوم هو الأول من العشر الأواخر، وفي شهر هو شهر رمضان، وفي مكان هو المسجد الأقصى المبارك، فلا قدسية الزمان ولا قدسية المكان جعلت حكومة نتنياهو تتنازل عن قرارها بتوجيه الصفعة إلى الأردن بطبيعة دور وصايتها على الأقصى، وإلى تركيا في يوم توقيع اتفاقية المصالحة مع المؤسسة الإسرائيلية، وإلى كل العرب والمسلمين عبر تدنيسها واقتحام جيشها للمسجد الأقصى المبارك وإسالة دماء المصلين والمعتكفين والصائمين.
كم هو كبير مخزون الغضب في ذات كل حر وهو يرى مسجده وقبلته الأولى ومسرى رسوله صلى الله عليه وسلم ينتهك ويدنس وفي أقدس الأيام وأطهر الشهور، ولكن عودة سريعة إلى التفكير العقلاني- وليس ردة الفعل التعاطفية- تجعلنا ندرك أن ما يفعله نتنياهو وحكومته لا يحمل إلا كل معاني الحماقة والتياسة والتهور والطيش.
إن نتنياهو يدرك أن المنطقة، بل العالم، تمر بمرحلة غير عادية. ولعل المنطقة تتهيأ لظرف غير مسبوق. ورغم أن معالم هذه المرحلة ما تزال مجهولة، إلا أن من أهم علاماتها هنا المد الإسلامي الذي يجتاح الأمة الإسلامية، رغم وجود مظاهر تشوه هذا المد عبر سلوك التنظيمات الشيعية الطائفية الحاقدة وعبر وجود تنظيم داعش وممارسته بحق المسلمين قبل أن تكون بحق أعدائهم.
إنه نتنياهو- الذي أجزم أنه يقف خلف قرار الاقتحامات والتدنيس في هذا التوقيت في المسجد الأقصى المبارك- هو وحده من يتحمل تبعات هذه الحماقة. ولكن كل الشعب الإسرائيلي وكل المشروع الصهيوني هو من سيدفع ثمن هذه الحماقات. وإن الأيام كفيلة بأن ترينا كم سيكون هذا الثمن غاليا وفادحا.
فلا تحزني يا قدس، وأنت يتطاول عليك الأقزام اللئام! لا تحزن يا أقصى وأنت الذي ما زلت تحتفظ على جدرانك وأعمدتك بآثار احتلال صليبي كان أشرس وأشد بطشا من الاحتلال الصهيوني، لكنه رحل ومضى وأصبح الحديث عنه في كتب التاريخ، ولن يكون الاحتلال الصهيوني طرازا فريدا ولا احتلالا من نوع آخر. بل إنه- مثل كل احتلال- سيرحل وستبقى أنت يا أقصى مسجدا، لا معبدا ولا هيكلا.
وأما أنت يا قدس فلا تحزني ولا تجزعي. فيومُ العيد قد اقترب. إنه يوم الفرج والفتح والنصر بإذن الله، فاستعدي ليوم العيد ولبس الجديد، وقد خلعت عنك آثار غبار الاحتلال الإسرائيلي. استعدي يا قدس، فأنت العروس، وأنت وحدك ليس غيرك ستكونين بإذن الله تعالى عاصمة دولة الخلافة الإسلامية الراشدة القريبة. وإن غدا لناظره قريب.