إسطنبول – انطباعات سائح
إن الإسم “إسطنبول” هو تحريف للاسم ” إسلام بولاي” أو “إسلام بول” أي مدينة الإسلام. وأطلق عليها هذا الاسم السلطان العثماني محمد الفاتح (محمد الثاني_ سابع سلاطين الدولة العثمانية) بعد أن فتحها سنة 1453 م حيث كانت تسمى “القسطنطينية” نسبة للإمبراطور الروماني قسطنطين والذي أدخل الإمبراطورية الرومانية في الديانة المسيحية، وبهذا قضى محمد الفاتح على الامبراطورية البيزنطية نهائيًا. وسميت اسطنبول سنوات طويلة بـ “الاستانة” وتعني “الشافية” في التركية، هذا وكانت عاصمة الخلافة الإسلامية العثمانية بين السنوات 1517-1924. واختيرت معالم إسطنبول التاريخية لتنضم سنة 1985 إلى مواقع التراث العالمي التابعة لليونسكو. كانت اسطنبول توصف قبل نحو 20 سنة بــ “مدينة الألف مئذنة” فما بالك اليوم وقد أصبح عدد سكانها 20 مليون نسمة وبنيت فيها عشرات المساجد الجديدة، وكلها على طراز المساجد القديمة- أي أنها مبنية على شكل قباب تعلوها قبة ضخمة والبناء كله مبني من الرخام التركي من الخارج ومن الداخل وعلى أطرافه مآذن شاهقة الارتفاع! ومن ناحية الموقع، تقع اسطنبول في شمال غرب إقليم مرمرة في تركيا، وهي تقسم إلى قسمين يفصل بينهما مضيق البوسفور الأمر الذي يجعل المدينة على قارتين في آن واحد (آسيا وأوروبا) حيث يقع القسم الغربي منها في أوروبا بينما القسم الشرقي في آسيا. وموقع إسطنبول انعكس على مناخها اللطيف المعتدل إذ يعتبر هذا المناخ “مناخًا انتقائيًا” فهي في منطقة وسطى بين الأقاليم ذات المناخ المحيطي الخاص بالبحر الأسود والمناخ القاري الرطب الخاص بشبه جزيرة البلقان والمناخ المتوسطي. وقد انعكس هذا التنوع في الأنماط المناخية على التنوع النباتي، إذ أن أنواعًا مختلفًة من الأشجار والنباتات المميِزة لكل منطقة على حدة يمكن العثور عليها مجتمعةً في هذه المنطقة. إن مناخ إسطنبول الربيعي مناسب جدًا لعدد كبير من الزهور والورود (خصوصًا وأن الشعب متحضر ويوليها اهتمامًا) لذلك نجدها اليوم في ظل حكم أردوغان (حكم حزب العدالة والتنمية) تزدان بهذه الورود بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخيها، إذ أنك كسائح تجد النباتات المزهرة مسطرة ومطرزة داخل المسطحات العشبية، وتجدها أيضًا على شكل حدائق معلقة وأحواض تحيط وتطوّق أعمدة الكهرباء وأخرى تغطي كل الأسيجة على أطراف الجسور. يا له من نسيم لطيف يداعب وجناتك ويدخل في قلبك البهجة والسرور. إن المشي في شوارع إسطنبول يختلف عن أي مشي آخر فكل قطعة من مباني المدينة تفوح منها رائحة التاريخ وكل نظرة منك على مضيق البوسفور هي درب من الخيال، وكل ركن من أركانها له قصة ما بين الدولة العثمانية العتيقة والجمهورية الحديثة. وتبقى إسطنبول في النهاية تحفة معمارية يصعب تكرارها في بلد آخر. إن تجوالك في شوارع إسطنبول يبهرك بالنهضة الحضارية والصناعية لتركيا كلها في عهد أردوغان، إذ أنك ترى جميع أنواع الملابس والأحذية والعطور ومحلات الذهب والأثاث والمطاعم وكلها تلمع وتشع. وما عليك أيها السائح بتجوالك في إسطنبول إلا أن تصوّر مشاهد لن تتكرر وأن تجعل الورقة والقلم رفيقين لك لتسجيل ملاحظاتك فهي كثيرة ولا نهاية لها. ولا بدّ أن تجد العلم التركي يرفرف في كل مكان – في الميادين والشوارع والمؤسسات وحتى في المحلات التجارية الخاصة. وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على الانتماء والاعتزاز. إنه إحساس يبهجك ولكنه في نفس الوقت يطاردك في كل مكان خصوصًا وأنك كعربي لا تشعر بأي انتماء وشعارك قول الشاعر:
إذا كان الغراب دليل قومٍ فلا فلحوا ولا فلح الغراب
إن اللغة في هذا البلد أكثر صعوبة عند السائح فلا تجد أحدًا يعرف اللغة الانجليزية أو العربية إلا بعض الحروف وليست الكلمات كاملة. وبالنسبة لنا كعرب فهذه المشكلة قد حُلت جزئيًا في السنوات الأخيرة حيث قامت غالبية المحلات التجارية والمطاعم بتشغيل لاجئين سوريين شبانًا وشابات يتحدثون معك باللغة العربية، لذلك ترجع بذاكرتك إلى القول: “مصائب قوم عند قوم فوائد”. كما شجّع أردوغان في السنوات الأخيرة تعليم اللغة العربية وتحفيظ القرآن الكريم حيث أصبحت تركيا تحتل المكان الثالث، في هذا المجال، في العالم الإسلامي. ولكني أنصحك بألا تخشى من أحد، فالناس هناك مؤدبون ولا يتشاجرون ولا يصرخون ولا يعاكسون الفتيات وكل واحد منهم يعيش حياته الخاصة بحرية تامة وبأدب وبأخلاق عالية. ولا تستغرب إن رأيت جميع مركبات وفسيفساء المجتمع التركي متعايشة مع بعضها بسلام وبدون أن تشتم هناك أي رائحة للعنصرية. وإذا كنت أخي السائح فلسطينيًا فاسرح وامرح في إسطنبول فالجميع يحبون رئيس الجمهورية أردوغان ويحبون فلسطين، ولا يعلمون أن الفلسطينيين لا يحبون بعضهم ولا يحبون أنفسهم. إنك إذا دخلت محلاً تجاريًا وعرفت نفسك بقولك: ” أنا فلسطيني” فإن صاحب المحل يضع إصبعه على عينه اليمنى ليشير إليك باللغة التركية أن “فلسطين هي عيني هذه”، وعندها تكون مضطرًا لتقول له أن “أردوغان هو عيني هذه”، بل هو أب لنا، نحن “اليتامى”، وهذا يثير إعجابهم واحترامهم فيخفّضوا لك من ثمن البضاعة التي تريد شراءها، قدر الإمكان. انه لشعور بالنشوة والعزة أن تسمع الأذان باللغة العربية من مآذن إسطنبول. وإذا دخلت المساجد هناك ترى بأم عينك إقبال الشباب الأتراك على الدين. لقد صليت هناك في مساجد مختلفة، ولكن صادف اليوم الأخير لتواجدي هناك، يوم محاولة الانقلاب العسكرية الفاشلة في 15.7.2016الذي صليت فيه صلاة الجمعة في جامع في حارة أكسراي ورأيت بأم عيني تدفق المئات من الشباب إلى المسجد. لقد اكتظ المسجد وساحاته بالمصلين. وإذا أردت الانبهار أكثر وأكثر فزر أخي السائح جامع السلطان أحمد لترى الفخامة والعظمة، ومن هناك انطلق إلى قصر توب كابي لترى العجب العجاب، فمن جملة ما ترى علبة فيها شعر من لحية الرسول، صلى الله عليه وسلم، وكذلك ترى من وراء الزجاج ختم الرسول الذي كان يختم به رسائله، وترى سيوف الخلفاء الراشدين لكلٍ من أبي بكر وعمر وعلي. كما ترى عصا موسى التي كانت سببًا في إهلاك فرعون مصر. إنك حقًا تغوص في التاريخ الإسلامي وتغوص في تراث آخِر خلافة إسلامية! عندها لا بد لك أن تقارن ما تراه بواقع الأمة العربية والإسلامية التي لم تُبقي من تاريخ المسلمين وتراثهم شيئًا بينما يكثُر فيها الوعاظ، فهذا يفتي: “هذا حرام” وآخر يفتي “هذه بدعة”. فتاريخنا، وللأسف، يتقلب بين “الحرام” و”البدع”. إن الأخبار عن حدوث محاولة انقلاب عسكرية في تركيا بعد إقلاعنا من مطار أتاتورك بساعة واحدة أطار النوم من عيوننا ولكني كنت متأكدًا أن هذه المحاولة ستفشل حتمًا وذلك لوعي الشعب التركي ولحبه لرئيسه ولوطنه وللديمقراطية. وأخيرًا أقول عاش من رئيس وعاش من شعب.