تركيا بين انقلاب 1916 وانقلاب 2016
أجزم أن حقيقة وحجم وخيوط وأطراف وأسماء وخطط الانقلاب الفاشل، الذي وقع في تركيا مساء الجمعة 15-7-2016، لم تكشف بعدُ، ولم تتضح صورتها النهائية؛ حيث سيكون لذلك تداعيات محلية وإقليمية، بل وعالمية، نظرا لحجم المشاركين في هذه المحاولة والمؤامرة الفاشلة وامتدادات وارتباط عناصرها مع جهات داخلية وخارجية.
لكن الذي لا بد من الإشارة إليه أن محاولات الانقلاب في تركيا قد سبقت انقلاب مصطفى كمال أتاتورك عام 1923 وإلغائه الخلافة الإسلامية العثمانية، ثم إعلانه الجمهورية التركية عام 1924.
ففي يوم الثلاثاء 27-4-1909 كان الانقلاب وقرار خلع السلطان عبد الحميد الثاني، والذي شارك فيه رؤساء أركان الجيوش العثمانية وأعضاء من مجلس الأعيان المنتمين للمحافل الماسونية. والغريب أن بين من دخلوا على السلطان عبد الحميد الثاني، بل إن الشخص الذي قرأ قرار عزل السلطان هو اليهودي “عمانوئيل قرة صو”؛ النائب عن مدينة سيلانيك، وكان من أشد الحاقدين على الإسلام.
لقد كان هذا الحقد على السلطان عبد الحميد له علاقة بموقف السلطان من “ثيودور هرتسل”؛ رئيس المؤتمر الصهيوني وطرده من قصره عندما وسط إمبراطور ألمانيا “ويلهلم الثاني” للسماح لليهود بالهجرة والاستيطان في فلسطين. وقال السلطان يومها جملته المشهورة: (إن أرض وطننا لا تباع بالدراهم، وإن بلادنا حصلنا على كل شبر منها ببذل دماء أجدادنا، ولا يمكن أن نفرط في شبر منها. وإن بيت المقدس الشريف قد افتتحه المسلمون أول مرة في خلافة سيدنا عمر رضي الله عنه، ولن أقبل أن يسجل الشارع عليَّ وصمة بيع الأراضي المقدسة لليهود).
ولي أن أتساءل: هل كان كل هذا الحقد على السلطان عبد الحميد له علاقة بمستقبل الشعب اليهودي، فكان لا بد من الانقلاب عليه لتمرير تلك المخططات؟ وهل انقلاب الجمعة الأخيرة (15\7) له علاقة بالأمر أيضا،، وقد تبين أن قائده هو الجنرال “يقين أوزطورك”، الذي أشغل بين الأعوام 1996 -1998 منصب الملحق العسكري التركي في تل أبيب، حيث انتشرت صورهُ مع المسؤولين الإسرائيليين السياسيين والعسكريين خلال فترة خدمته؟
وهذا ما كان فعلا. ففي نيسان 1916 كان توقيع اتفاقية سايكس- بيكو، التي نصت على توزيع تركة الدولة العثمانية بين الدول الغربية: بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وغيرها، وإعطاء وعد للشريف حسين بن علي، إن هو انقلب وثار على الدولة العثمانية فإنه سيُمنح (آسيا العربية) وتضم فيما تضمه أرض الحجاز ونجد والعراق ويكون ملكا عليها. (تاريخيا خدعت بريطانيا الشريف حسين، واكتفت بمنح ابنه عبد الله إمارة شرق الأردن وعينت ابنه فيصل ملكا على العراق)، وهذا ما حصل منه. فكان انقلابه يوم الجمعة 9-6- 1916. وكانت البداية من مكة المكرمة. إنها اتفاقية سايكس- بيكو، التي سميت باسم مارك سايكس ممثلا لبريطانيا، وجورج بيكو ممثلا لفرنسا.
نعم، إن تآمر فرنسا وبريطانيا ودعم الانقلابيين الأتراك والعرب على الدولة العثمانية هو ليس إلا النسخة القديمة لما يفعله اليوم وزيرا خارجية أميركا كيري، وروسيا لافيروف من تآمر على تركيا المعاصرة، حيث كان لهذين الشريرين اجتماعات متواصلة سبقت محاولة انقلاب 15-7 بأيام قليلة، في دلالة واضحة على وجود أيدٍ خارجية تواصلت مع الانقلابيين. وهذا ما يفسره فتور المواقف الأمريكية والروسية وتأخرهما عن تحديد الموقف من الانقلاب. وليس أقل من ذلك الدور الفرنسي، حيث أغلقت فرنسا كل بعثاتها القنصلية وسفارتها في تركيا منذ ثلاثة أيام قبل الانقلاب.
استمرت آثار الانقلابات تتوالى، وانعكاساتها على مستقبل الأمة تتعاقب، حيث كان يوم 2-11-1917 بإصدار وعد بلفور بإعطاء فلسطين وطنا قوميا لليهود، ثم كان يوم 9-12-1917 بدخول الجنرال البريطاني “اللّنبي” إلى القدس، وبعدها دخول الجنرال الفرنسي “غورو” إلى دمشق. وكان الانقلاب الأكبر في العام 1923 عندما أعلن أتاتورك إلغاء الدولة العثمانية الإسلامية، وأتبعه عام 1924 بإعلان قيام الجمهورية التركية الحديثة.
لا مجال للتفصيل في ظروف الانقلاب على “عدنان مندريس” عام 1960 وإعدامه، لأنه سمح بعودة الأذان باللغة العربية، ثم الانقلاب الشهير لـ”كنعان إيفرين” عام 1980 وتسلمه حكم البلاد، بعد بداية مظاهر تحولات سياسية واجتماعية في الحياة التركية، كان من مظاهرها الاجتماع الذي ضم مئة ألف، والذي نظمه نجم الدين أربكان تحت عنوان “تحرير القدس”، حيث طالب بالعودة للإسلام ورفضه العلمانية، ثم الانقلاب عام 1997 على المرحوم نجم الدين أربكان، وليكون الانقلاب الأخير 15-7 على الرئيس أردوغان هو الفصل الأخير من فصول الانقلابات العسكرية في تركيا بإذن الله تعالى.
كم كشفت محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا عن أحقاد أدعياء القومية العرب على تركيا القديمة والحديثة! ولقد تميزت مصر الانقلاب عن غيرها، بل إنها تفردت عن سواها بسرعة تأكيد نجاح الانقلاب والإطاحة بالرئيس أردوغان، حتى أن الصحف المصرية قد طبعت صباح السبت بالمانشيتات العريضة تنعى أردوغان. ولقد سبقتها الفضائية المصرية التي راحت تهلهل وتطبل للانقلابيين.
ولا أدري لماذا تتفرد مصر بهذه المضحكات المبكيات؟! أم لعله كما قال الشاعر:
وكمْ ذا بمصر من المضحكات ولكنه ضحكٌ كالبُكاء
إن مواقف كتاب وشعراء وإعلاميين، بل وحتى شيوخ وعلماء مصريين تكاد تكون نسخة طبق الأصل عمّن أيدوا وباركوا إسقاط الخلافة واستبدالها بالانقلابي مصطفى أتاتورك، وعمّن أيدوا اليوم انقلاب العسكر لإسقاط أردوغان.
في كتابه (الأسرار الخفية وراء إلغاء الخلافة العثمانية) الصادر في العام 2005، يشرح الدكتور مصطفى حلمي، ويبين مواقف من إسقاط الخلافة واستبدالها بأتاتورك، وما فيها من المديح والثناء والإطراء عليه تماما كما هو حال الإعلاميين والكتاب المصريين من التشفي بأردوغان والإطراء والثناء على الانقلابيين.
يقول الكاتب ص 171: (ثم إني يغلب عليّ الضحك عندما رأيت العلماء المصريين يكررون البحث عن استبداد الخلفاء، ويجتهدون في ذلك في إثبات الحق لمصطفى كمال فيما فعله من تغيير الخلافة، حتى أن الدكتور”حسين همت” كتب في صحيفة (المقطم) الصادرة يوم 31-10-1923 يمدح مصطفى كمال أتاتورك الانقلابي بقوله: “هو رجل خدم الدولة والدين وأنقذ الشرع الذي ظن الشيخ مصطفى صبري أنه محصور في شخص السلطان المخلوع وأتباعه).
ويضيف الكاتب الدكتور مصطفى حلمي ص173 في بيان سرور وترويج الصحافيين والكتاب والسياسيين المصريين لانقلاب أتاتورك، بما لا يختلف عما يفعله اليوم كتاب وإعلاميي مصر، بالتمجيد لمحاولة الانقلاب على أردوغان فقال بالحرف الواحد: (ومن المضحكات الأليمة واللئيمة ما كتبته بعض صحفهم يصور الجمهورية التركية بما هو آية وغاية في الغفلة والحماقة، ولا يكاد يصدر مثله من غير المصريين، فيقول: “فاز أنصار التجديد في أنقرة، ونودي بالجمهورية التركية، فأصبح يوم 27 أكتوبر سنة 1923 علما من الأعلام، ويوما من الأيام المشهورة في تاريخ الشرق والترك والإسلام… فما يوم أنقرة يوم صفين, ونقض مصطفى كمال ما أسسه ابن أبي سفيان، فأعاد الأمر شورى بعد أن جعله ذاك عضوضا”. يقول المؤلف مصطفى حلمي: ولا بد للإنسان في رؤية الانقلاب التركي بهذا الشكل أن يُبتلى بالعمى المصري من حيث البصر والبصيرة. ونحن نتأدب ونستحي أن نوازن بين رئيس الجمهورية التركي أتاتورك وبين الخلفاء الراشدين. فذاك معاوية رضي الله عنه الذي أوصى أن يوضع في عينيه من قِلامة أظفار النبي صلى الله عليه وسلم، والتي كان يدخرها، ليدفن معها. وهذا الرئيس أتاتورك الذي لو وقع رسول الله عليه وسلم في يده حيا لهمَّ بأن يقتلع أظافره!!).
لا بل إن أمير الشعراء أحمد شوقي قد وقع فيما وقع غيره من انخداع بأتاتورك وزيفِ شعاراتِه، فراح يمتدح إلغاء الخلافة والانقلاب عليها، حيث نظم قصيدة عنوانها “الأستانة تُعزل وأنقرة تكلل” بعد إذ قرر أتاتورك نقل العاصمة من اسطنبول إلى أنقرة. لا بل وصل الأمر بأحمد شوقي أن يشبه أتاتورك بخالد بن الوليد رضي الله عنه لما قال:
الله أكبر كم في الفتح من عجب! يا خالدَ الترك جدَّدْ خالد العرب
لكن الفارق كبير وكبير جدا بين كتاب وشعراء وإعلاميي وسياسيي مصر اليوم، وبين أحمد شوقي رحمه الله، حيث هؤلاء مستمرون في كذبهم وزيفهم وعدائهم لتركيا وحكومتها المنتخبة، بينما يجدون رجالات الانقلاب أمثال الانقلابيين في بلدهم، أما أحمد شوقي فإنه ولما ظهرت له الحقيقة فقد بكى الخلافة كما فعل المسلمون الصادقون، فقال في قصيدته:
ضَجَّت عليكِ مآذِنٌ ومَنابِرٌ وبكت عليكِ ممالكٌ ونَواحٍ
الهِندُ والِهةٌ ومِصرُ حزينةٌ تَبكي عليكِ بمدمعِ سحاحِ
والشَّامُ تَسأَلُ والعِراقُ وفارسٌ أمَحى من الأَرضِ الخِلافةَ ماحٍ
وقال في قصيدة ثانية:
يا أُختَ أَندَلُسٍ عَلَيكِ سَلامُ هَوَتِ الخِلافَةُ عَنكِ وَالإِسلامُ
خَفَتَ الأَذانُ فَما عَلَيكِ مُوَحِّدٌ يَسعى وَلا الجُمَعُ الحِسانُ تُقامُ
إن من وقفوا وخططوا لانقلاب الجمعة الأخير 15-7 إنما أرادوا الانقلاب على شرعية أردوغان وحكومته التي أعطاهم إياها الشعب التركي. وإن الشعب التركي أعطى أردوغان هذه الشرعية وانتخبه لأجل إنجازاته وجدارته، وكذلك لأجل منهجه وفكره الذي يؤمن به.
ولأنهم يعرفون تماما الخلفية الفكرية للرئيس أردوغان، وحتى لو لم يستطع ولا حتى يعمل لتطبيق الشريعة، إلا أن توجهاته والتغييرات التي يحدثها تصب باتجاه عودة تركيا إلى الإسلام في كل نواحي الحياة. وكيف لا والرئيس أردوغان طالما كان يتحدث عن تركيا في العام 2023، حيث كان يعد بنقل تركيا حتى ذاك العام نقلة نوعية تجعلها ليس من الدول العظمى الست عشرة، كما هي الآن، بل أن تصبح من الدول الثماني العظمى؟ ولماذا تحديدا العام 2023؟ لأنه في ذلك العام سيكون مرور 100 سنة على إلغاء الخلافة. وكأنه يقول إن انقلابكم على الخلافة قد فشل، وسنعمل لإحياء روح الخلافة، حيث تركيا المسلمة العصرية، وليست تركيا التي أرادها أتاتورك الانقلابي. فلأجل ذلك كان انقلاب 15-7-2016 الفاشل، والحمد لله.
وسواء كان انقلاب 1909 أو انقلاب 2016 أو انقلاب 1923 فإنها كانت تهدف كلها- بالتنسيق مع قوى أجنبية- لتحقيق مصالح تلك الدول وتغيير واقع الشرق الإسلامي، حيث كانت سايكس- بيكو وكان وعد بلفور.
ولا أتردد في القول إن سياسات كيري لافيروف، وحتى فرنسا وألمانيا وقطعا تل أبيب، تسعى لإزاحة أردوغان والانقلاب عليه سعيا لتنفيذ مشاريع في المنطقة؛ سواء بالتمكين للنظام السوري الدموي واستمراره، أو للتمكين للمشروع الصهيوني على حساب الحق الفلسطيني. ولعل هذا يلاحَظ في تأخر إدانة هذه القوى للانقلاب، واستمرار حمل العصا من الوسط، فإن نجح الانقلاب باركوه وتخلصوا من أردوغان وقالوا: “ذلك ما كنا نبغ..”، وإن فشل أدانوه ودعموا الشرعية. وهذا ما فعلوه في مشهد نفاقي ينضح بالكيد والحقد.
في العام 1916 حيث سايكس- بيكو، والعام 1917 حيث وعد بلفور وما أعقب ذلك من نتائج في هذه الأعوام كان يُخيّل للمراقب أن شمس الإسلام تتدلى بالمغيب، وأنها غابت في نظرهم فعلا في العام 1923، حيث أعلن إلغاء الخلافة الإسلامية العثمانية فعلا، وأن شمس المشروع الصهيوني بدأت تشرق، عبر إنجازات تحققت لهم بوعد بلفور وما أعقبه من انفتاح باب الهجرة لفلسطين بدعم الاستعمار البريطاني وصولا لقيام إسرائيل ونكبة شعبنا الفلسطيني عام 1948.
وها نحن في العام 2016؛ أي بعد مئة عام على سايكس- بيكو والانقلاب على تركيا وحقوقها ومصالح أمتها فإننا شاهدنا ونشهد- والحمد لله- فشل الانقلاب الدموي على تركيا وحكومتها وقيادتها، وإننا نشهد ملامح كثيرة تبشر بعودة الأمة إلى هويتها. إنها إشارات ودلالات على أن المشروع الإسلامي الذي شيعوه في العام 1923، بعد إذ تدلت شمسه للمغيب في العام 1916 ها هو المشروع الإسلامي يشرق من جديد، بينما المشروع الصهيوني توشك شمسه أن تغيب بإذن الله تعالى، وكذلك المشاريع القومية المشبوهة التي ساهمت في نجاحاته. وإني على أمل وثقة بالله بل وبقين ألا يأتي العام 2023؛ أي بعد مئة سنة على إلغاء الخلافة العثمانية إلا وقد قامت وعادت دولة الخلافة الإسلامية العالمية الراشدة.
لقد نجح انقلاب 1916 وفشل انقلاب 2016، ونجح انقلاب 1923 بإلغاء الخلافة، وإن شاء الله سيكون عام 2023 وما حوله عام عودة الخلافة وعاصمتها القدس، وليس أنقرة ولا اسطنبول، فابشروا..