رمضان وفرقة شيطنطاش
إن الأمور إذا الأحداث دبرها دون الشيوخ ترى في بعضها خللًا
هذا بيت شعر قاله بعض الفضلاء والذي كان يكرره المرحوم والدي أمامي مرات عدّة خلال كل أسبوع، وكان يشرح لي معنى هذا البيت دائمًا. وقد كتب في مذكراته أنه ردده مرة أمام أحد الفقهاء الكبار من غزة سنة 1944 فقال الشيخ لأبي: ” اقرأه مرة ثانية”، فقرأه، فقال له الشيخ: ” ترى في كلها خللاً”.
أكتبُ هذه المقدمة لمقال عن شيطنة الصبيان في شهر رمضان، وأنا على يقين بأنّ كثيرًا من الآباء لا يكبحون جماح أبنائهم في شهر البر والتقوى. إنهم يطلقون العنان لهؤلاء الصبيان بالتصرف كيفما شاؤوا على اعتبار أنهم مدينون لهم بصيام أيام رمضان. وفي نظرهم “شيطنة” أبنائهم الصغار هي جائزة لهم “فليصوموا وليعملوا ما يشاؤون بعدها”. سيهلّ علينا هلال شهر رمضان إن شاء الله، إذا ما حيينا، وسنشهد هذا الفيلم السنوي التقليدي والذي إن دلّ على شيء فإنما يدل على تقصير الآباء في تربية الأبناء تربية صحيحة تجعلهم يتصرفون- في غياب أو انشغال أهلهم عنهم- نفس التصرف الذي يتصرفونه أمام هؤلاء الآباء. فيا أيها الصبيان، يا شبابنا الواعد، يا من أنتم غدنا ومستقبلنا المشرق إننا جميعًا تعترينا مشاعر الغضب والضيق حينما نراكم تنغصّون علينا حياتنا في هذا الشهر الفضيل، الشهر الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ورد في الصحيحين: “إذا جاء رمضان فُتحت أبواب الجنة وغلّقت أبواب النار وصُّفدت الشياطين” (والتصفيد هو التكبيل بالأغلال والسلاسل). وروى الترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم عنه: “إذا كان أول ليلة من رمضان صُفّدت الشياطين ومردة الجن”، أما حسب رأي القرطبي فإنه “إذا صُفّدت الشياطين قام بالمهمة إخوانهم وجنودهم من شياطين الإنس. ومن هؤلاء الشياطين الذين ينشطون من يُطلق عليهم “فرقة شيطنطاش”. فهل ستقبلون أيها الآباء الصائمون أن ينتمي أبناؤكم، وخصوصًا صبيانكم إلى هذه الفرقة؟ إنها فرقة تقوم بدور “الشيطنة” وأنتم لا تشعرون أن هذه شيطنة حقًا، لذلك انتبهوا أيها الأهل لأبنائكم فإنهم ينامون في النهار ويشاغبون في الليل حتى الفجر، وهكذا لا تستفيدون منهم شيئًا خلال النهار في رمضان لأنهم نائمون، وبعد الإفطار قسم منهم يرافقونكم إلى المساجد، والآخرون يهيمون على وجوههم في الشوارع ويخربون كل ما تقع عليه أعينهم. أما الذين يرافقونكم فإنهم يحوّلون المساجد إلى ملاعب- يركضون بين صفوف المصلين ويلعبون بشكل منظم وراءهم ويصرخون ويتبادلون الشتائم ويتشابكون بالأيدي ويضرب بعضهم بعضًا فيشوّشون على المصلين ويمنعون ويحولون دون خشوعهم في الصلاة. كذلك تجدهم يشربون جميع زجاجات المشروبات الباردة التي وضعها متبرّعون في صناديق، في مدخل المسجد للمصلين، وكذلك يأكلون كل ما يقدمه أهل الخير للمصلين من فواكه، تمور وحلويات (بقلاوة، قطايف، كنافة). إن هؤلاء المتبرعين يتبرعون بها عن روح أحد أفراد أسرهم فيلتهم الصبيان جميع هذه المأكولات بلا مراعاة أنها مُعدّة لغيرهم. وبعد صلاة التراويح وفي الحارة يتفرغ الناس لقراءة القرآن، وفي الثلث الأخير من الليل يصلون، يتهجدون ويقومون الليل. أما الصبيان فيركضون من وراء شباكك ويلعبون “الصفقة” أو “الطممية” وصراخهم يخرق الآذان. ومنهم من يطلقون المفرقعات النارية شديدة الانفجار وبعضهم يقذفون بها على السيارات المارّة في الشارع ومنهم من يجرون سباقًا في الدراجات على ضوء المصابيح الكهربائية، ومنهم من يستعمل دراجة نارية بدون كاتم صوت، ومنهم من يتجوّل في الشوارع ومسجل الصوت في سيارته مضبوط على أعلى درجة حتى تهتز منها أبواب وشبابيك البيوت. واذا ما كانت تلك ليلة القدر فإنك ستصل إلى قمة الازعاج من طرف هؤلاء. إنهم لا يدرسون ولا يتيحون الفرصة لأحد أن يدرس، وإن كان طالبًا جامعيًا يستعد لامتحان في اليوم التالي. إنهم لا يقرأون القرآن ولا يدعونك تقرأه وتفهمه، وإذا قرأت “ألا بذكر الله تطمئن القلوب” تجد قلبك يغلي كالبركان غضبًا على عدم تربية هؤلاء الصبية تربية سليمة. إنهم لا ينامون ولا يدعونك تنام أو تهجع بعض الوقت بعد الساعة الواحدة ليلًا. إنهم باختصار لم يتربوا على الهدوء وعلى عدم إزعاج الآخرين- إزعاج الدارسين، إزعاج المرضى، وإزعاج كل من يريد أن يتفكر بصنع الله من خلال النظر إلى النجوم التي تضيء السماء عندما يقرأ سورة النور ويصل إلى الآية التي تصف نور الله: “الله نور السماوات والارض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم”. إن عددًا كبيرًا من آباء هؤلاء الصبية الأشقياء تراهم كثيرًا ما يتباهون ويتفاخرون بكثرة الركعات التي صلوها وأيديهم تداعب لحاهم بينما أولادهم ( شياطين الإنس على الأرض) يتلذذون ويستمتعون بإزعاج الناس. إنهم لا يعرفون معنى “الخصوصية” وحق الإنسان في الهدوء والراحة وحقه في قراءة القرآن وحقه في الخشوع والدعاء وأخيرًا حقه في النوم، على الأقل بعد الساعة الواحدة ليلاً ليقوم ثانية ويتسحّر ويصلي قيام الليل وصلاة الفجر. إن مشوار هؤلاء الصبية في الإزعاج طويل حتى السحور ومنهم من يعتلي صوته ويؤذن ويبلل الناس، ظانين أنه أذان الفجر. وأما أنت أيها الأب “المتعبد” فابنك يُنزل الأذى بالجيران وبأهل الحارة. وهل “لعبة الصفقة ” والشتائم بين الصبية قرابة الساعة الثانية ليلًا هي عمل من أعمال البر؟ وأما الصباح وفي غرف المدرسة فحدِّث ولا حرج- يدخل المعلم الصف فلا يجد غالبية الطلاب فإما هم غائبون (نائمون) أو متأخرون، وإذا ما حضروا فكثير منهم ينصرفون إلى بيوتهم، دون إذن طبعًا، في “التنفس” أي بعد الحصة الثالثة! وإذا ما تواجدوا في الصف، وفي أثناء الدروس، تجد أن النعاس قد غلبهم. وإذا ما سألت عن طالب معيّن يضحكون ويقولون لك: “إنه معتكف في المسجد”. وأما الوظائف البيتية فيُحرج المعلم، أصلًا، إذا سأل عنها.
كل ما يحدث أعلاه نجده نتيجة لإرخاء الآباء أرسان أبنائهم لدرجة إعطائهم الاستقلالية التامة. وهكذا لا يكون للكبار رأي وتترك الشجاعة للأبناء. وكما يقول المتنبي:
الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي المحل الثاني
فإذا اجتمع حسن رأي الكبار مع شجاعة الصغار وجرأتهم يتم الأمر وتحمد العاقبة أما إذا استقل الصغار برأيهم واعتمدوا على شجاعتهم نرى ما لا يُحمد عقباه ولا يمكن تداركه وكما قال الخليل بن أحمد:
اعمل بعملي وإن قصرت في عملي ينفعك علمي ولا يضرك تقصيري
على ضوء ذلك يظهر واجب الآباء. فالأبناء نعمة وشكرها يكون بحسن الرعاية لها وكمال الإشراف عليها من جانب الأب والأم ليتم التعاون بين المدرسة والبيت على التربية القويمة والتوجيه السليم والمتابعة الدقيقة. وأما في ساعات ما بعد المدرسة وفي ساعات الليل فلا تدعونهم يبطلون صيامكم بحيث يتحول إلى مجرد جوع وعطش بدون أجر. فارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.