لا تفضح أباك يا ولدي
أورد فيلسوف الإسلام والشاعر الكبير محمد إقبال- رحمه الله تعالى- قصته مع والده يوم ارتكب محمد خطأ فظيعا، وكيف تعامل أبوه مع الخطأ موجها ومربيا، من خلال أسلوب رقيق لطيف؛ فقال:
“جاء سائل يوما إلى بيتنا، فراح يطرق الباب بعنف، وكنت يافعا، فأغضبني طرق الباب بعنف، فدفعت السائل فسقط أرضا، وتناثر ما كان جمعه من الناس. تألم والدي وسال الدمع من عينيه وقال: يا بني؛ غدا تجتمع أمة خير البشر أمام مولاها، ويُحشر المسلمون؛ علماؤُهم وأولياؤهم وشهداؤهم وعُصاتهم، صغارهم وكبارهم، ويأتي هذا السائل صائحا شاكيا، فماذا أجيب إذا قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا فلان إن الله أودعك شابا مسلما، فلماذا لم تؤدبه بأدبي، بل لماذا لم تستطع أن تجعله إنسانا؟ فانظر يا ولدي عتاب النبي لي يوم الحشر، وانظر إلى مقامي بين الخوف والرجاء! فلماذا تفضح أباك أمام مولاه يا ولدي؟ يا ولدي كن برعما في غصن المصطفى، وكن وردة من نسيم ربيعه، وخذ من خُلقه الطيب واجعل لك منه نصيبا”.
أيها الآباء؛ ليكن غرسُكم كهذا الغرس، ولتكن هكذا التربية والتوجيه، اللطف واللين وتحريك عناصر الخير في الأبناء. أما أنتم أيها الأبناء فاحرصوا على أن تكونوا ذلك البرعم الغض الندي في غصن شجرة الحبيب محمد- صلى الله عليه وسلم- التي أصلها ثابت وفرعها في السماء. إنكم إن فعلتم ذلك فإنكم لن تَفضحوا آباءكم بين يدي حبيبهم ومولاهم، وعند ذلك ستنالون الرضى بإذن الله، والسير تحت راية محمد صلى الله عليه وسلم.
أًعرب يا ولد:
يتحدث الشيخ الجليل والعالم الفاضل والداعية الموهوب المرحوم محمد الغزالي عن قصة حدثت معه في المدرسة الابتدائية فيقول:
(قال لي مدرس النحو، وأنا طالب في المدرسة الابتدائية: أعْرِب يا ولدي: رأيت الله أكبر من كل شيء”، فقلت على عجل وبعفوية وثقة: رأيت: فعل وفاعل، الله منصوب على التعظيم! وحدثت ضجة من الطلبة خلفي، فظننت نفسي أخطأت في الإعراب، فنظرت إلى الأستاذ مذعورا وإذا بي أراه يبكي تذرف الدموع من عينيه.
لقد كان الرجل من أصحاب القلوب الخاشعة الرقيقة، وقد هزه وتأثر كيف أنني التزمت الاحترام مع لفظ الجلالة، كما علمني أهلي ومشايخي، فلم أقل إنه “مفعول به”، فدمعت عيناه تأدبا مع الله، كان ذلك من ستين سنة أو يزيد).
إنه الله سبحانه الذي قال في وصف هؤلاء من أمثال التلميذ وأستاذه: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) آية 2 سورة الأنفال.
إنني أعرف من لا يرى ورقة ولا صحيفة كتبت بالعربية وألقيت على الأرض إلا رفعها، إذ لعل فيها ورد اسم الجلالة أو اسم محمد صلى الله عليه وسلم، بل لأنها كتبت بالعربية لغة القرآن، فكيف تدنس وتهان- كما يقول- فيرفعها عن الأرض ليحرقها أو يودعها بطن الأرض.
وصية من محمد علي كلاي:
إنه الله جل جلاله الذي قذف نور الهداية في قلب ذلك الشاب الأسمر ليتحول إلى الإسلام وينشرح صدره لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وليس أنه قد تألق وتميز وتصدر بطولة رياضة الملاكمة، فأصبح رمزها ونجمها وبطلها الذي لا ينافس، محمد علي كلاي لم يتألق في رياضة الملاكمة وحسب، وإنما هو الذي أبدع في استخدام شهرته وموقعه لتعريف الناس بالإسلام، فكان سببا لهداية كثيرين، رحمه الله.
وإن من بعض ما أُثر عنه قوله: (إذا كان العلماء قد نجحوا في تحويل عفن الخبز إلى بنسلين، فلا شك أن في إمكانك تحويل الشدائد إلى فوائد). نعم هناك من حوّل واستخرج الدواء من الداء، وهناك من استخرج من النفايات الكهرباء، حيث نرى ونسمع عما يسمى تدوير النفايات واستخراج الطاقة من النفايات. ولقد قرأت أن قريبا من نصف الطاقة الكهربائية التي تستخدمها مدينة اسطنبول تُستخرج من المخلفات والنفايات التي تجمع، ثم تصنّع بطريقة علمية تجعلها تتحول إلى طاقة كهربائية هائلة.
إنها نظرة المسلم للحياة، وقاعدتُه في موازنة الأشياء: (فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا). ولكن هذه القاعدة في الفهم لا يدركها إلا من كانت نظرته وفهمه من خلال القرآن الكريم ومنهج الله سبحانه، ومن خلال سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته الشريفة.
أيها الأخ الحبيب؛ كم وردة جميلة نبتت من بين أشواك؟! وكم من سم زعاف كان فيه البلسم والترياق؟! وكم من مصيبة أودع الله فيها فرجا؟! وكم من محنة كانت مقدمة لمنحة؟ ألم يتحول سجن يوسف إلى مدرسة، بل إلى منبر لدعوة التوحيد تنطلق منه إشعاعات الهدى والهداية؟ فخذ بوصية أخيك محمد علي كلاي، وانطلق بكل ثقة وعزيمة، ولا تكن مع القاعدين، وانسج بيديك خيوط الفجر. نعم، لا تسبّ الظلام، بل تقدم وأوقد شمعة، واجعل من البلاء نعماء، ومن النقمة نعمة، ومن المحنة منحة ومن الشدائد فوائد.
أرني قميصك يا فتى:
يروى أن السلطان المسلم شهاب الدين الغوري، وبعد أن هُزم في إحدى معاركه مع الهنود، أقسم ألا يخلع القميص الأبيض الذي كان يلبسه (كان يلبس قميصا أبيض هو كفنه، دلالة على استعداده للموت في سبيل الله) حتى ينتصر بعد تلك الهزيمة، وانتصر بعد خمس سنوات!! وأقسمت إيزابيلا ملكة الأسبان ألا تخلع قميصها حتى تطرد المسلمين من الأندلس فأصبحت تعرف في التاريخ بلقب “صاحبة القميص العتيق”، فكان لها ما أرادت بعد ثلاثين سنة، وفي هذا إشارة إلى أن كل من حمل همًّا بصدقٍ فإنه سيبلغ ما يريد.
فيا فتى الإسلام، لا تجعل لقميصك أزرارا كثيرة، حتى إذا ناداك المنادي فإن وقتا سيمضي حتى تفك أزرار قميصك، وقد يكون قد فات الأوان، وإنما اجعل لقميصك زرا واحدا ما إن تسمع النداء وإذا بك بحركة واحدة تتحرر من قيد زر قميصك وتمضي لأداء الواجب. نعم، إن من الناس من يترددون ويتلكأون في الاستجابة لنصرة الدين والوطن، كأن أزرارهم بالعشرات أو المئات تؤخر انطلاقتهم، وإن منهم من ينطلق كالسهم كأنّ ليس في قميصه إلا زر واحد يفكه سريعا ويمضي.
أليس من العار أن أهل الباطل في سبيل ومن أجل باطلهم يبذلون ولا يترددون، بينما نحن من أجل الحق ونصرة الحق نتردد ونتلكأ ونجد لأنفسنا المبررات والأعذار, بل إننا نرضى أن نكون مع الخوالف وأصحاب الإعاقات والأعذار؟
فإذا كان شهاب الدين أقسم ألا يخلع قميصه حتى ينتصر بعد هزيمته، وإذا كان صلاح الدين أقسم ألا يبتسم حتى يحرر الأقصى من الصليبين، فأنت يا فتى الإسلام؛ ماذا تقول وأقصاك ما زال يدنس، وقدسك تنتهك، ووطنك سليب؟! فارني قميصك يا فتى!!
أفضل أنواع الصابون:
قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: استعينوا على السيئات القديمات بالحسنات الحديثات، وإنكم لن تجدوا شيئا أذهبَ بسيئة قديمة من حسنة حديثة. نعم، صدق الشيخ، فلقد قال سبحانه: “إن الحسنات يذهبن السيئات”.
ليس منا أحد معصوم، وكل ابن أدم خطاء، وإن أفضل ما نُذهب به أخطاءنا ونمحو سيئاتنا إنما هو بالاستغفار وبالعمل الصالح، فإن الاستغفار هو صابون الذنوب، فما أن يقع عليها حتى يزيلها بإذن الله، تماما كما يقع الصابون على أوساخ أجسادنا وعلى البقع التي أفسدت ثيابنا فيطهرها وينظفها ليعود إليها جمالها ورونقها.
وإلى جانب الاستغفار فإن العمل الصالح هو كذلك من أنجع أنواع الصابون لإزالة سيئاتنا وتنظيف ذنوبنا وعيوبنا: “إن الحسنات يذهبن السيئات”، فعليك بالاستغفار، وعليك بالعمل الصالح والحسنات تتقرب بها إلى مولاك، تمحو ذنوبك وتستر بها عيبك، ويرضى عنك ربك.
انتقل الى رحمته تعالى:
لا يكاد يمر يوم إلا وتسمع من وسائل الإعلام أو سماعات المساجد، أو تقرأ في الصحف والمواقع الالكترونية أو على أبواب المساجد من ينادي أو يكتب بالحبر الأسود يقول: انتقل إلى رحمة الله تعالى…. عن عمر يناهز…. وسيشيع الى مثواه الاخير بعد صلاة… من مسجد… إنا لله وإنا إليه راجعون.
لا تغضب أخي إذا ما قلت لك: ماذا لو كنت أنت هذا الذي نُعي وجاء خبر موته؟!! لا تغضب لأن من هو خير منك قد تخيل هذا المشهد واستعد له. إنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لما قال: يقول الناس مات فلان وغدا سيقولون مات عمر…
فماذا لو كنت أنت هذا الذي ينادَى عليه، وسينادَى عليك، وعندها فأنت وأنا سنكون في تلك اللحظة على حالتين اثنتين لا ثالث لهما: إما أننا قد أعددنا لتلك اللحظة عملا صالحا وصلاة وصياما وقربات، وعند ذلك سنكون مطمئنين بإذن الله ومن أصحاب التقوى والنفس المطمئنة: ( يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية) 27+28 سورة الفجر، وإما أننا نكون من الغافلين المقصرين المذنبين اللاهيين العابثين ليأخذنا الموت على حين غرة، ونحن بغير زاد، وعندها سيكون التلويم والعتاب والتقريع من كل منا لنفسه: (لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة) آية 1+2 سورة القيامة.
أيها الأخ الحبيب، إنني لا أتحدث عن خيال ولا وهم، ولا أتحدث عن سيناريو غريب، وإنما أتحدث عن حال نراه ونسمعه كل يوم، ولكنها الغفلة واتّباع الهوى وطول الأمل وقسوة القلب تجعلنا نظن أن كل الناس سينادَى عليهم إلا أنا وأنت. فقصِّر أملك وأكثر زادك، وأحسن عملك، واستغفر ربك، واستعد لتلك اللحظة التي سينادَى عليك بالقول: انتقل إلى رحمة الله تعالى.. أسأل الله أن يرزقنا حسن الخاتمة، وأن يتوفانا على التوحيد والعمل الصالح . اللهم آمين.