لصوص الأرض ولصوص العرض
لصوص الأرض:
يوم أمس الخميس كان يوم الذكرى الحادية والأربعين ليوم الأرض 30 آذار 1976؛ اليوم الذي فيه هب شعبنا في الداخل الفلسطيني وانتفض دفاعا عن أرضه التي أراد وخطط لصوص المؤسسة الإسرائيلية سرقتها ومصادرتها واغتصابها.
صحيح أن الثمن كان غاليا، ودفعه من دمائهم ستة شهداء ارتقوا هم: خير ياسين من عرابة وخديجة شواهنة ورجا أبو ريا وخضر خلايلة من سخنين، ومحسن طه من كفركنا والشهيد رأفت زهيري من مخيم نور شمس، والذي استشهد في مدينة الطيبة، لكن هؤلاء الشهداء؛ زيادة عما نالوه- بإذن الله- من رضوان الله وجنته، فإن أسماءهم قد حفرت في ذاكرة أبناء شعبنا، وارتبطت بالأرض، وأنهم كانوا أول من هب لصد لصوص الأرض ومواجهتهم.
لم يتوقف اللصوص من قادة المؤسسة الإسرائيلية عن ممارساتهم، وإنما الذين طوروا في أساليبهم ومكرهم حتى أصبحت سرقة الأرض بحرَفية مثل حرَفية عصابات السرقة واللصوص المحترفين، بل أكثر حرفية. لقد صدقوا مقولة أن فلسطين “أرض بلا شعب” فراح اللصوص يستولون على هذه الأرض وكأنه لا أصحاب لها، ولا شعب يسكن عليها، ولا أجداد مدفونين بين طيات ترابها.
من أقصى الجليل شمالا إلى أقصى النقب جنوبا، مرورا بالساحل والمثلث، لم تسلم أراضي شعبنا من النهب والسرقة والاغتصاب والمصادرة، حيث اللصوص مزودون بقوانين وتشريعات سُنَّت في برلمانهم، وليس الحديث هنا عن سيطرتهم وسرقتهم للأوقاف والمقدسات التي زعموا أنها كانت مسجلة باسم المجلس الإسلامي الأعلى الذي هجّر أعضاؤه، وجرى التعامل مع الأوقاف والمقدسات بكل تصنيفاتها وكأنها أملاك غائبين، وليس الحديث هنا كذلك عن سرقتهم للبيوت والأراضي الخاصة التي رحِّل وهجِّر أصحابها، واغتصبت وسرقت باعتبارها أملاكا لغائبين، إنما الحديث هنا عن أراض يسكن أصحابها عليها ويزرعونها ويقبلون حجارتها وترابها في كل عام وفي كل موسم وفي كل يوم.
لا بل اللص الرسمي المدعوم بقوانين وتشريعات وشرطة مدججة بالسلاح تحميه، قد وصل به الأمر إلى حد أنه يريد سرقة الأرض، وبكل وقاحة يريد أن يسكن ويبنى عليها مستوطنة، وأنه يريد أن يهدم البيت ويهجر أطفاله من أجل أن يبني بيتا لذاك الغريب القادم من خلف البحار، كما هو الحال في قرية وأراضي أم الحيران وغيرها من قرى النقب؟؟؟
وإنه يريد هدم البيت وإلقاء أهله في العراء بلا مأوى لأنه يملك قانونا ظالما يقول إنها أراض زراعية غير معدة للبناء، مع أن قرار الموافقة على تحويلها إلى أراض للبناء وتوسيع مسطحات القرى في يدي اللص الذي هو موظف في دائرة رسمية، كما هو الحال في بيوت قلنسوة التي هدمت، ومثلها 50 ألف بيت تتهددها أوامر الهدم الظالمة.
إنهم لصوص الأرض وصل بهم الأمر إلى أن أهل الأرض وأبناء الوطن الذين هم 20% من السكان لا يملكون إلا 2% من الأراضي، بينما باقي أرضهم قد سرقت ونهبت بطرق ووسائل شتى. وإنهم لصوص الأرض الذين تحت حماية ورعاية وعباءة الرئيس الأمريكي الجديد ترامب فإنهم يمهدون للإعلان عن ضم كامل الضفة الغربية لإسرائيل، وإنهم لصوص الأرض على لسان أحد كبرائهم، وهو القادم من روسيا البيضاء؛ وزير “الأمن” ليبرمان الذي يقول إنه يجب طرد ولا محل في هذه البلاد للشيخ رائد صلاح، ولا لفلان وفلان ،ويعدد أسماء عدد من قيادات شعبنا، وعليه وعلينا ينطبق قول القائل (الدار دار ابونا واجو الغرب يطحونا).
إنهم لصوص الأرض اغتصبوا مقبرة مأمن الله في القدس، وقد شرعوا في بناء متحف سموْه- ويا للسخرية- متحف التسامح! وأي تسامح وقد حطموا جماجم وعظام موتانا ليبنوا عليها متحفا؟ وماذا يفيد العاهرة لو رددت بعض عبارات التقوى، أو تظاهرت ببعض مظاهر الورع دون أن تُقلع عن فعلتها؟ إنها ستبقى عاهرة، وإنهم سيظلون لصوصا. إنهم الذين يخططون ويمكرون مكر الليل والنهار للاستيلاء على ما تبقى من مقبرة القسام في حيفا، ليبنوا عليها ويشيدوا مباني ومكاتب لشركات تجارية لهم.
ولأنهم لصوص الأرض فمن واجب صاحب الأرض أن يحميها وأن يدافع عنها وأن يرد عنها عيون اللصوص وأيديهم، وحتى لو كان الثمن باهظا، مثل الذي دفعه شهداء يوم الأرض وشهداء هبة القدس والأقصى، الذين قتلوا مظلومين لأنهم فقط صرخوا في اللص: يا لص. نعم، إنها أرضنا التي إما أن نعيش على ظهرها أعزاء أو أن تضمنا في بطنها شهداء.ألم يقل رسولنا صلى الله عليه وسلم: (ومن قتل دون أرضه فهو شهيد)؟
حتى لو مكث اللص في أرض اغتصبها سنين بل عقودا، بل قرونا فإنه سيبقى لصا، ولو تعامل مع أهل الأرض على أنه صاحبها، وإن اللص الوقح الذي دخل البيت الذي غاب عنه أهله، وراح يتجول في أنحاء البيت يأكل من طعامه ويشرب من شرابه، بل ونام على فراشه، ولأن غيبة صاحب البيت قد طالت فإنه يبدأ يشعر ويتعامل على أنه هو صاحب البيت، حتى إذا رجع صاحب البيت ووجد الباب مقفلا استغرب فقرع الباب وإذا باللص الوقح يرد عليه من الداخل قائلا: من بالباب؟!
نعم، إن لصوص الأرض يتغربون أننا نطالب بأرضنا، وأننا نتمسك بها، وأننا لن نفرط بها مهما كان الثمن ومهما طال الزمن ومهما عظمت التضحيات.
لصوص العرض:
مثلما أن هناك لصوصا يسرقون أرضنا فإن هناك لصوصا يسرقون ويغتصبون عِرضنا، لكن الفارق أن لصوص الأرض هم من أعدائنا، بينما لصوص العرض هم من بني جلدتنا.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد جمع في حديث شريف له بين الأرض وبين العرض وأن الدفاع عنهما والموت في سبيلهما يرقى بمن فعل ذلك إلى مراتب الشهداء، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (..ومن قتل دون أرضه فهو شهيد، ومن قتل دون عِرضه فهو شهيد)، ولكن وفي المقابل وبجهل فإن هناك ومن بين أبناء جلدتنا من يريدون ويطالبون بالفصل بين الأرض وبين العرض (الأخلاق والقيم)، وأنه يمكننا أن ندافع عن الأرض دون الحاجة للدفاع عن العرض؛ “الأخلاق والقيم”.
إن من يطالبون بأن نواجه لصوص الأرض والدفاع عنها من غير قيم ولا أخلاق فإنما هم كمن يذهبون إلى الهيجاء بغير سلاح. إن من يدعون إلى الإباحية هم لصوص، وإن من يدعون إلى التبرج هم لصوص، وإن من يدعون إلى تقليد الغرب في لباسهم وسلوكياتهم وأخلاقهم هم لصوص، وإن من يدعون إلى المثلية الجنسية ويدافعون عنها هم لصوص، وإن من يدعون إلى محاربة الدين والانتقاص منه والسخرية من أحكامه وتشريعاته، وأنه من الماضي الأسود فإنهم لصوص، وإن من يريدون استبدال المساجد بدور اللهو، ومن يسمون الخلاعة والمجون فنًّا، ومن يسمون التعري والسفور موضة، ومن يسمون الخمر مشروبات روحية، فإنما هم لصوص وأي لصوص!
قال الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله: (ما الفرق بين لص يتسلل إلى بيتي باسم زائر محبّ فيسرق أغلى ما فيه، وبين أدب وفكر يتسلل إلى عقل ابنتي أو زوجتي باسم أديب مفكر فيسلب منه أثمن ما فيه؟ فلماذا يسجنون لصوص المتاع ويطلقون الحرية للصوص الشرف والسعادة الزوجية والعائلية؟).
نعم، لماذا نتحدى ونواجه إلى حد الاستشهاد، من يريد أن يسرق منا أرضنا، بينما لا نحرك ساكنا، بل نستسلم، لمن يريد أن يسرق منا أبناءنا وبناتنا بسرقة هويتهم الفكرية والثقافية والوطنية والأخلاقية؟ وهل يمكن أن تحفظ الأرض والأوطان من غير قيم وأخلاق وهوية؟ ألم يقل الشاعر:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فان همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
ولماذا نسمي من يتحدى ويواجه لصوص الأرض بطلا، ولعله يكون شهيدا، بينما نسمي من يتحدى ويواجه لصوص العرض “الأخلاق والقيم” أنه ظلامي ورجعي ومتخلف وداعشي؟ لماذا نلوم من يسرق أرضنا من أعدائنا، ولا نلوم من يسرق عرضنا وأخلاقنا من أبناء جلدتنا، بل نصفق له؟ ألم يقل الشاعر:
لا تلوموا الذئب في عدوانه إن يَكُ الراعي عدوَّ الغنم
إنه رئيس وزراء فرنسا “ديغول” وقد رأى ما حل بفرنسا تحت وطأة الإذلال والاحتلال الألماني لمساحات منها، خلال بدايات الحرب العالمية الثانية، فأصدر أوامره بإغلاق كل المواخير والحانات في فرنسا، لأنه رأى في الشباب الفرنسي حالة التمييع والترف جعلتهم يهربون من مواجهة الألمان. ولماذا نجد أن اليابان، وقد نُشرت الأسباب العشرة لنهضتها، أنها جعلت تعليم أطفالها القيم والأخلاق أولا قبل تعليمهم مناهج التدريس والعلو، ألم يقل شاعرنا:
شعب بغير عقيدة وَرَقٌ تذرُّ به الرياح
من خان حيَّ على الصلاة يخون حيَّ على الفلاح
إنه، وكما يوجد سماسرة أرض من بيننا يروّجون ويعملون لبيع أراضي شعبنا وتمرير ملكيتها للصوص الأرض، ونحن نمقتهم، بل إنه لا أقذع من أن يقال عن فلان “إنه سمسار”، فمثل سماسرة الأرض فإن هناك سماسرة العِرض ممن يروجون لنشر الأفكار الهدامة والأخلاق المستوردة والمفاهيم المسمومة إلى جسد مجتمعنا. نعم، إن سماسرة العرض أخطر بكثير من سماسرة الأرض، لأن من يفرّط بعرضه وبأخلاقه وقيمه وهويته فإنه من السهل عندها أن يفرط بأرضه. ولقد قال الشاعر:
وإذا استباح الناس حرمة ربهم ماذا تظن بحرمة الأوطان
إنها لعنة التاريخ والأجيال على من يريدون الفصل بين الأرض وبين العرض، ومن يريدون إلغاء مقولة الآباء والأجداد: (إللّى بفرّط بعرضه بفرط بأرضه)، وإنها سّبّة الدهر ستلاحق من يردون بناء المستقبل عبر ازدراء الماضي والتنكر له، بل وعبر تحقيره، رغم ما فيه من أمجاد وعظمة. وإنه العار يجلل من يريدون إعمار دنيا شعبنا عبر تخريب الدين والعبث بهوية وعقيدة شعبنا الدينية، وإنها المنقصة كل المنقصة فيمن يريد أن ينهض بمجتمعه، بينما هو يحمل معول هدم أساسات وأركان ومقومات وركائز هذا الشعب الفكرية والأخلاقية.
قال الدكتور مصطفى السباعي: (إن شبابنا الطاهرين وفتياتنا الطاهرات لن يدعوا هؤلاء العابثين أن يسجلوا في التاريخ أنهم كانوا من المعبرين عن آمالهم وأهدافهم. وما أشد لعنة التاريخ إذا لم يُعرف عند شبابنا وفتياتنا دور الكفاح والبناء إلا الأمل باللذائذ الجنسية، والحلم بسرقة شرف البنات والزوجات، وخيانة الأبناء والأزواج! أي جيل مثل هذا يستحق شرف الخلود وثناء التاريخ؟!).
إننا نقف في مواجهة لصوص الأرض الذين يسعدهم، بل إن مصلحتهم وجود لصوص العرض. ولا أتردد في القول إن لصوص العرض شاءوا أم أبوْا، عرفوا أم لم يعرفوا، فإنما هم يعملون في خدمة وتحقيق مصالح لصوص الأرض.
وحتى لو تلفّع لصوص العرض بكل العباءات، ولو رفعوا كل الشعارات البراقة، فإنها لن تخفي حقيقة أن استهدافهم لأخلاق وقيم مجتمعنا ودينه وعاداته وموروثه الحضاري فإنه يلتقى مع أهداف لصوص الأرض.
سنواجه لصوص الأرض، وسنعمل على إزالة الأقنعة وكشف أستار لصوص العرض، لأنهم أشد خطر من لصوص الأرض. وقديما قال الأجداد: (اللي ما بغار على عرضه ما بغار على أرضه)، وقالوا: (أرضك مثل عرضك).