أنا اللغة العربية
أنا اللغة التي قال فيها شاعر النيل حافظ إبراهيم:
أنا البحر في أحشائه الدر كامنٌ فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
فعلاً أنا أوسع بحر في العالم، أوسع لغة وأوسع إبداع وإعجاز، وكلماتي هي صدفات غالية نفيسة لا يفوز بها إلا من أنعم الله عليه بشق عباب هذا البحر. أنا اللغة التي اختارها الله لتكون لغة القرآن حيث يقول عزّ وجلّ: {إنا أنزلناه قرآنًا عربيًا لعلكم تعقلون}. وهكذا اقترنت العربية بالعقل فمن تحلى بي حظي بلغة خالية من الشوائب يتحلى بها العقل السليم والذهن الصافي. وهكذا وعن طريق القرآن اصبحت اللغة المقروءة ل 2 مليارد مسلم في العالم. أنا اللغة التي سُطرت كلماتها بماء الذهب على ستار الكعبة المشرّفة وعلى جدران المسجد الحرام في مكة والمسجد النبوي الشريف في المدينة والمسجد الأقصى وقبة الصخرة في القدس الشريف، وأنا التي نُقشت أحرفها على جميع المساجد في العالم، ونُقشت على جميع مداخل أسوار وقلاع المجد العربي. فكفاكم أن تذهبوا إلى الأندلس لتجدوني أمثل عزكم في أشبيليا وقُرطبة وغرناطة، لغة وخط يجذب الأبصار ويبهر العقول. فخطي هو رسم يتعلمونه عند كبار الخطاطين المبدعين في بلاد العرب وفي بلاد الأعاجم. وقلمي يكتب بحبر سائل يؤخذ من محبرة مدادها بحر من العلوم اللانهائية. إذا فأنا مهد العلوم وكتبي ذات أبلغ الأسرار وأروع الجواهر، ما زال يحتفظ بها الغزاة من الأوروبيين.
لقد أنزل الله كتابه على نبي عربي ناطق بالضاد ليكون رسولاً للعالمين. من هنا فقد ميّزني وفضلني على لغات أهل الأرض جميعًا. فكفى أن يبدأ القرآن الكريم بـــ “بسم الله الرحمن الرحيم” و”الحمد لله رب العالمين”. ومن المواعظ أن تُتلى آياته بأعذب أصوات أهل الأرض حتى قيام الساعة. وكفى أن يُرفع الأذان بكلماتي “الله اكبر، الله اكبر”، ويرتفع الاصبع الشاهد في الصلاة مشيرًا إلى الأعلى “أشهد أن لا اله الا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله”.أنا اللغة العربية، ففي أحضاني ترعرع النحو والإبداع وترعرعت البلاغة. كما ترعرعت الفلسفة والطب وعلم الفلك والكيمياء والرياضيات وعلم النبات والحيوان والتاريخ والجغرافيا. وإن لم تصدقوني فارجعوا إلى ابن سينا وابن رشد وابن باجه وابن الهيثم وابن البيطار وجابر ابن حيان والرازي وابن خلدون، والقائمة طويلة. كلهم سطروا التاريخ بكلماتي ومفرداتي. ولا تنسوا معي أصلي.. فأصلي شعر فصيح تطرب له الآذان، شعر مزدان بالحلي والجواهر والأوزان. أنا التي كُتبت بها المعلقات، والتي علقت على ستار الكعبة في الجاهلية ليتباها بها الشعراء. انا التي كتب بحروفها على عرش الرحمن “أشهد أن لا اله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله”. لقد توجني العرب “ملكة اللغات” حين وضعوني على ألسنة أهل الجنة لينطقوا بي لأني الأجدر بذلك.
أنا التي أمّرت الشعراء وعلى رأسهم أحمد شوقي وأنا التي اغتر بها المتنبي واعتز بها الجواهري وأنا التي أصبحت أغنية على كل لسان في كل زمان ومكان، وأصبحت لغة الأرض حين غنى سيد مكاوي “الأرض بتتكلم عربي، الأرض الأرض”. أنا البحر فجهز عتادك، أطلق سُفنك وارفع شراعك، وارتدِ حتى بدلة غوصك، فمن لا يتقن السباحة في محيطي سيفقد القدرة على تذوّق الجمال، وتنفس الحرية واسترداد الهوية. أنا البحر العميق ذو اللؤلؤ والمرجان لا يعرف كُنه بلاغتي وكُنه ثرواتي النفيسة إلا من سعى إلي وشد الرحال. أنا اللغة العربية أيتها الأجيال، أُلقيتُ على عاتقكم فاحملوني وسامًا على صدوركم ولا تجعلوني، وإن ضاقت بكم السُبل، همًا عليكم. لا تكتفوا بالسطح وغوصوا لأنكم باكتشافي تكتشفون أنفسكم، وليس هناك أروع من متعة الاكتشاف. عندها تتنشقون رائحة النعناع والريحان.