الشيخ كمال خطيب: مع أيهما أنت: مع منهج السلامة أم سلامة المنهج؟ (مقالة)
الشيخ كمال خطيب
إنه طريق الدعوات على مدار التاريخ، طريق شائك وصعب كما قال الله تعالى: {ألم*أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} آية 1-2 سورة العنكبوت. وقال سبحانه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} آية 214 سورة البقرة.
دائمًا وأبدًا كانت طريق الجنة مفروشة بالمكاره والصعاب والابتلاءات، بينما كانت طريق النار مفروشة بالشهوات كما قال ﷺ: “حفت النار بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره”.
وإن قادة الدعوات والرسالات وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لم يسلموا من هذه الابتلاءات والمكاره ولاقوا من أقوامهم ما لاقوه، حتى أن منهم من قُتل، ومنهم من أُلقي في النار، ومنهم من هُجّر من وطنه، وليس فقط أنهم رُموا واتهموا بالجنون والسحر.
أمام هذا البلاء وهذا الأذى والظلم الذي وقع عليهم، فإنهم وكل من يحمل همّ الدعوة بين خيارين اثنين لا ثالث لهما، فإما الصبر والثبات وتحمّل الأذى مهما عظم من أجل سلامة المنهج والدعوة والرسالة التي أتوا بها، ويقولون ما قاله سحرة فرعون لما آمنوا بالله عز وجل رغم تهديد فرعون لهم بتقطيع أوصالهم: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا ۖ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ*لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ*قَالُوا إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ*وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا ۚ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} آية 123-126 سورة الأعراف. وإما الخوف والتردد ومجاملة أهل الباطل، والمواربة والمداهنة في المواقف سعيًا للسلامة والنجاة من الأذى والظلم فإنه منهج السلامة.
إنه أمام ضغط الواقع وصلف أهل الباطل وأدوات بطشهم وماكنة إعلامهم المسلطة على أهل الحق وأصحاب الدعوات، وأمام ضعف بعض أهل الحق وتراجعهم حتى أنه ليخيل لمن بقي على الطريق أن الحق أصبح باطلًا وأن الباطل قد أصبح حقًا. وهنا تأتي وصية الإمام علي كرم الله وجهه كأنها البلسم على الجرح وهو يقول: “لا تستوحشوا طريق الحق لقلة السالكين”. وتأتي وصية ابن القيم رحمه الله كأنها رشفة الماء على شفاه وأكباد شقها العطش: “عليك بطريق الحق ولا تستوحش لقلة السالكين، وإياك وطريق الباطل ولا تغتر لكثرة الهالكين”. وما أجمل وأصدق ما قاله المرحوم الشيخ يوسف القرضاوي من أبيات تعبر عما نقول:
تالله ما الدعوات تهزم بالأذى أبدًا وفي التاريخ برّ يميني
ضع في يدي القيد ألهب أضلعي بالسوط ضع عنقي على السكين
لن تستطيع حصار فكري ساعة أو نزع إيماني ونور يقيني
فالنور في قلبي وقلبي في يدي ربي وربي ناصري ومعيني
سأعيش معتصمًا بحبل عقيدتي سأموت مبتسمًا ليحيا ديني
دائمًا وأبدًا وأمام الظلم والطغيان ووسائله الشيطانية في التهديد والوعيد والترهيب، أو عبر الإغراء والترغيب ،فإن من أهل الدعوات من كانوا يضعفون ويختارون منهج السلامة، وأولئك الذين أسماهم بل كتب عنهم المرحوم الأستاذ فتحي يكن في كتابه الرائع “المتساقطون على طريق الدعوة”، بينما اختار غيرهم سلامة المنهج ودفعوا لأجل ذلك من أموالهم وأرواحهم وسمعتهم حيث كل همهم هو الحفاظ على الدعوة التي ورثوها ممن سبقوهم نظيفة نقية سليمة من الانحراف والتشويه والتمييع”.
ولا أتردد بالقول أننا أبناء المشروع الإسلامي في الأرض المباركة، فإننا قد وقعنا يومًا بين هذين الخيارين، إما خيار منهج السلامة فلا مطاردة ولا تضييق بل إنها الأبواب مشرعة من كل جانب، وإما خيار سلامة المنهج وصفاء الدعوة رغم أن الثمن قد يكون هو الملاحقة والسجن والمنع من السفر، ولاحقًا فإنه قرار الحظر الظالم وإخراج الحركة الإسلامية عن القانون الإسرائيلي الظالم حيث الحكومة الإسرائيلية هي من دفعت لذلك، بينما اختار غيرنا منهج السلامة فكان لهم ما أرادوا وأكثر مما أرادوا.
إسلام ظريف وسكر خفيف
إن أعداءنا قد طاروا فرحًا بمن اختاروا منهج السلامة وقد سعوا لإيجاد لافتة إسلامية تطرح إسلامًا على المقاس الذي يريدونه ويلائم حاجاتهم ومخططاتهم ليصبح هو الإسلام المباح والمسموح به، بينما يحاربون الإسلام الحقيقي الذي هو دين الأمة الذي أنزله الله تعالى على رسوله ﷺ. يقول الدكتور يوسف القرضاوي رحمه الله في كتابه الرائع -الثقافة العربية الإسلامية بين الأصالة والمعاصرة-: “هنالك من التدين المباح بل هو مطلوب ومرّغب فيه، تدق له الطبول ويحرق له البخور وهو التدين الذي ترعرع في عهد التراجع والتخلف ثم في عهود الاستعمار من بعده، ثم في عهود الحكم العلماني الذي ورث الاستعمار. إنه التدين الذي يروّج الأساطير ويخدّر الإرادة ويشلّ الفكر ويجمّد الحركة، إنه التدين الذي ترسم الحكومة خطوطه وتنسج خيوطه وتصنع دعاته، فهو تدين مستأنس أليف، سلس ظريف، يسير في ركاب الدولة حيث سارت ويدور معها حيث دارت، إذا ادّعت قال صدقت، وإذا دعت قال: آمين. لا يولّي وجهه شطر العلماء العاملين من أهل الورع والتدين والاعتدال، وأهل الدعوة والتجرد والثبات، بل معتمد هذا التدين المشبوه هم عملاء السلطة وعملاء الشرطة.
إنهم يريدونه إسلامًا أليفًا ظريفًا إذا ضربوه على الخد الأيمن أدار لهم الخد الأيسر، إسلامًا مبحبحًا نغشًا، سكُّره خفيف يلائم جميع الأذواق والمقاسات والسياسات حتى الذوق الأمريكاني والمقاس الإسرائيلي. نعم إنه الإسلام الأمريكاني وفق توصيف سيد قطب رحمه الله تعالى لما قال: “إنهم يريدونه إسلامًا أمريكيًا لا يتحدث إلا عن نواقض الوضوء وأحكام الحيض والنفاس، ولا يتحدث عن الجهاد ومقارعة الظلم”.
إنه الإسلام الإسرائيلي الذي تحبه إسرائيل كإسلام محمد بن زايد الذي يعلن أنه من حق كل من هو من سلالة إبراهيم عليه السلام أن يصلي في جبل الهيكل “المسجد الأقصى”، وكإسلام محمد بن سلمان الذي يحارب الأصولية والتطرف، ويعلن الحرب على الإخوان المسلمين، والذي استبدل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بهيئة الترفيه تأمر بالمنكر وتنهى عن المعروف. إنه الإسلام الإسرائيلي الذي يحبه نتنياهو لمّا قال: “إن هناك إسلاميين يريدون العودة بنا إلى العصور القديمة المظلمة، وقد قمنا بتحييدهم -يقصد الحركة الإسلامية التي حظرها بقرار ظالم منه يوم 17/11/2015. وأضاف: “وإن هناك إسلاميين قرروا العمل والانطلاق ضمن هذا الانجاز والمفخرة التي اسمها إسرائيل”، وقصد بذلك من شاركه في انتخابات الكنيست الإسرائيلي وهم القائمة العربية الموحدة بزعامة منصور عباس وحاضنتها الحركة الجنوبية”.
إنه الإسلام الذي يسمي المسجد الأقصى جبل الهيكل، ويسمي حائط البراق حائط المبكى، إنه الإسلام الذي يحترم ميراث بن غوريون ويصوت لصالح تخصيص ميزانيات لإحيائه، إنه الإسلام الذي لا يمانع باستخدام القنابس “الحشيش” بادعاء أنه لاستخدام طبي، إنه الإسلام الذي يصوت لصالح تخصيص ميزانية بعشرات ملايين الشواقل للشاذين والشاذات جنسيًا.
إنه الإسلام الإسرائيلي الذي اقترح المحلل والكاتب الإسرائيلي -بن كسبيت- أن يتم ترشيح منصور عباس منظّر هذا الإسلام لنيل جائزة نوبل، لأن ما فعله لم يفعله أحد من قبله ولا حتى السادات الذي وقّع أول معاهدة سلام مع إسرائيل.
من رأسه في السماء لا يحنيه تحت السقف
ما أكثرها الشعارات الرنانة التي يطلقها هذه الأيام المشاركون في انتخابات الكنيست الصهيوني من الأحزاب العربية سواء التي خلفيتها الفكرية شيوعية أو قومية أو إسلامية، القائمة المشتركة، قائمة التجمع الوطني، القائمة الموحدة. “سجل أنا عربي”، “عربي وأفتخر”، “ارفع رأسك فأنت عربي” لكن كيف سيرفع العربي رأسه وقد جعلتم الكنيست الصهيوني سقف نضالاته وأسمى أمنياته وذروة طموحاته؟ فرأس العربي بفعل سياساتكم ومشاريعكم أصبح مهينًا تحت سقف الكنيست وأن عليه أن يخجل لا أن يفتخر، أن يطأطئ رأسه لا أن يرفعه أمام كل من يشارك في مشروع الأسرلة وتشويه هوية شعبنا الدينية والقومية والوطنية.
وإذا كانت رؤوسكم سترتطم بسقف الكنيست الصهيوني فإن رأسي سيطاول عنان السماء وأنا أفتخر بإسلامي وأقول:
أنا مسلم ولي الفخار فأكرمي يا هذه الدنيا بدين المسلم
وأنا البريء من المذاهب كلها وبغير دين الله لا أترنم
فلتشهد الأيام ما طال المدى أو ضمّ قبري بعد موتى أعظمي
إني لغير الله لست بعابد ولغير دستور السما لن أنتمي
وإذا كان أحدكم يفتخر أنه عضو في الكنيست الصهيوني، فأنا أفتخر أنني عربي فلسطيني وعضو في المشروع الإسلامي:
فلسطيني فلسطيني فلسطيني فلسطيني
ولكن في طريق الله والايمان والدين
أهيم براية اليرموك أهوى أخت حطين
وأرفع راية الأقصى ورب البيت يحميني
وأعشق أمة التوحيد والقرآن يهديني
وحب الله والأوطان يجري في شراييني
فلسطيني فلسطيني فلسطيني فلسطيني
الدينامو والفرامل، الحق والباطل
قال المرحوم البروفيسور نجم الدين أربكان: “المسلم يجب أن يكون المحرك – دينامو- لدفع الخير والحق ونصرته، والمسلم يجب أن يكون فرامل لكبح جماح الشرّ والباطل ومواجهته”. هكذا يرى المرحوم أربكان دور المسلم في هذا الزمان يتحرك في كل الاتجاهات، ويتقن كثيرًا من المهارات. إنه لا يعزي نفسه بأن يرد كل شيء إلى القضاء والقدر، بل إنه هو قضاء الله النافذ الذي لا يرد وسهم القدر الذي لا يخطئ بإذن الله تعالى.
إنه ينتصر للحق والخير ويدافع عنه، بل إنه يدفعه إلى الأمام بكل طاقاته كأنه المحرك لأنه يعلم أن الحق أحق أن يتبع وأن ينتصر له، ولا حق في هذا الزمان إلا بالإسلام، وفي نفس الوقت فإنه وهو يرى الباطل يعربد ويصول ويجول ،لا بل يريد أن يوقف عجلة الإسلام والحق، فإن المسلم يصنع من نفسه تلك الفرامل التي توقف ذلك الباطل وتكبح جماحه {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} آية 18 سورة الأنبياء.
فمن للإسلام ينتصر له إن لم أكن أنا وأنت، ومن للباطل يواجهه إن لم أكن أنا وأنت؟
أيهما أشرف جاهلية الأمس أم جاهلية اليوم؟
قالها العالم الجليل والداعية الفاضل عبد العزيز الطريفي المسجون والمخطوف في سجون محمد بن سلمان: “جاهلية الأمس أشرف من جاهلية اليوم، فأولئك قلّدوا آباءهم وهؤلاء قلّدوا أعداءهم”.
فليس السؤال هل أن مظاهر جاهلية قد عادت وغزت مجتمعاتنا وحياتنا الشخصية وسلوكياتنا، فالجواب على ذلك نعم وألف نعم ، وهو ما نراه في كثير من نواحي الحياة ولكن السؤال عن الفارق بين تلك الجاهلية التي جاء الإسلام ورسول الله ﷺ لمحاربتها وبين الجاهلية التي نعيشها اليوم ونحن مسلمون. وعن الفارق بين جاهلية كان أفرادها يعبدون الأصنام وبين جاهلية أفرادها يصلّون ويصومون ويحجّون، بين جاهلية كان يقودها أبو جهل وأمية بن خلف وغيرهما ، وبين جاهلية يقودها ابن سلمان وابن زايد وأشباههما.
وعلى هذا السؤال كان الجواب من الشيخ الطريفي فك الله أسره، أن جاهلية الأمس كانت أشرف من جاهلية اليوم ،لأن أولئك كانوا يبررون تمسكهم بها أنها من صنع آبائهم وما ورثوه عنهم، بينما جاهلية اليوم هي من صنع أعدائهم وما خططوه ودبروه لهم. أولئك قالوا :{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} آية 23 سورة الزخرف. وهؤلاء يقولون ويفتخرون أنهم على دين وخطى حكام أمريكا وروسيا، بل إنهم على دين حكام إسرائيل، فبئس العبيد أنتم يا هؤلاء.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا..
رحم الله قارئًا دعا لنفسه ولي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة .
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.