مقال الشيخ كمال خطيب: “إذا كان الذي فوق العرش معك فلا تخف من هم تحته”

الشيخ كمال خطيب
حينما كان يشتد الخطب ويعظم البلاء على رسول الله ﷺ مما كان يمارسه بحقه كفار قريش، وحينما كانت زفرات الصحابة وأنينهم ودموعهم وهم يعذَّبون، وحينما كان رسول الله ﷺ يساوم على عقيدته ودعوته وما أرسل به، وحينما كان ينظر يمنة ويسرة فلا يجد إلا كيدًا وحقدًا وعداء، عندها كانت تتنزل الآيات تطمئن رسول الله ﷺ وتشدّ أزره كقوله سبحانه: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ*وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ} [آيه 36-37 سورة الزمر]، {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [137 سورة البقرة]، {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [95 سورة الحجر].
ففي حالة الاستهزاء والتطاول والتخويف والتثبيط، كان يبرز اسم الله تعالى الكافي ليكون هو البلسم لذلك الظرف فتسكن نفس رسول الله ﷺ. فمن يكون هؤلاء الذين يحاربون رسول الله، ومن يكون هؤلاء الذين يخوفونه بهم، من يكون كل هؤلاء إذا كان الله الكافي والعزيز ذو الانتقام معه؟
سهرت أعين ونامت عيون في أمور تكون أو لا تكون
إن ربًا كفاك بالأمس ما كان سيكفيك في غد ما سيكون
أنت تريد والله يريد
ما أحوجنا في هذا الزمان الذي فيه يشتد الكيد على الإسلام من أعدائه، ويعظم فيه الخذلان من أبنائه تجاه بعضهم البعض، فما أحوجنا إلى كفاية الله تعالى. فحينما يقول المسلم: {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ ۖ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [38 سورة الزمر] أو يقول: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بصير بالعباد} [44 سورة غافر] أي إنني أسلم أمري إليه وأتوكل عليه، فإنه الكافي لمن يتوكل عليه، فصحّتك بيده، ورزقك بيده، وأولادك بيده، وزوجتك بيده، وأعداؤك بيده، فأنت تحت كنفه ورعايته وكفايته. وقد ورد في الحديث القدسي أن الله تعالى يقول: “عبدي كن لي كما أريد ولا تعلّمني ما يصلحك” أي لا حاجة لأن تسألني حوائجك وما ينفعك فأنا أعلم بها وسأكفيك إياها.
وورد في الحديث القدسي الآخر قوله سبحانه: “عبدي، أنت تريد وأنا أريد، فإن سلّمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد ولا يكون إلا ما أريد”.
نعم، إذا أسلمت أمرك لله في كل ما أراد سبحانه، جعلت منهج حياتك على النهج الذي يريد فإنه سيكفيك ما تريد، ولذلك كان النبي ﷺ إذا أوى إلى فراشه قال: “الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا”.
فإذا جعلت مرادك مطلوبك عند خالقك وهو الكافي سبحانه وأحسنت التوكل عليه وتفويض أمرك إليه، فإنه حتمًا سيكفيك العزّ والنصر والحفظ، وهو الذي يتكفل بأعدائك.
اجعل لربك كل عزّك يستقر ويثبت
فإن اعتززت بمن يموت فإن عزّك ميت
هو الكافي إذا قلّ العدد ونقصت العدة
ما أكثرها آيات القرآن الكريم التي بها يدلّ الله سبحانه على أنه الكافي لنا ليجد المسلم نفسه في رعاية الكافي في كل أحواله، فهو الذي قال سبحانه: {وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَىٰ بِاللَّهِ نَصِيرًا} [45 سورة النساء]، {وَكَفَىٰ بِاللَّهِ عَلِيمًا} [70 سورة النساء]،{وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا} [3 سورة الأحزاب]، {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [8 سورة الفتح]. فإذا كان سبحانه يلفّك بعظيم كفايته من كل جانب فإنها الطمأنينة بل إنها القوة.
إنها الطمأنينة بأن الذي هو حسبك وهو كافيك، فإنه ييسّر لك كل عسير، ويفرّج لك كل كرب، ويفتح لك كل الأبواب، ويحطّم لك أقفال كل النوازل والبلايا إذا أغلقت عليك أو نزلت بك.
ولربّ نازلة يضيق بها الفتى ذرعًا وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج
لقد رأى المسلمون بأعينهم كفاية الله لهم يوم بدر حين قلّ العدد ونقص العتاد، فأنزل الله الكافي ملائكته تحصد المشركين حصد الهشيم بعد إذ استغاث المسلمون بربهم، {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} وبعد إذ رفع النبي ﷺ يديه إلى السماء يقول: “اللهم إن هذه قريش قد أتت بقدّها وقديدها، وخيلها وحديدها اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلن تعبد في الأرض….”، فلم تتأخر استجابة الله الكافي لرسوله ﷺ {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ*إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُنزَلِينَ*بَلَىٰ إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [123-125 سورة آل عمران].
ورأى المسلمون كفاية الله يوم الأحزاب لما اجتمعت قبائل المشركين العرب ومنافقو المدينة وقبائل يهود لاستئصال شأفة المسلمين، فبعد أن انقطعت ونفدت أسباب الأرض من نصرتهم، تدخّلت أسباب السماء فاندحر الكفار أعداء الإسلام خزايا، ولم يمكّنهم الله من رقاب المسلمين لأن الله كافيهم {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [25 سورة الأحزاب].
ورأى المسلمون عناية الله وتدخله وكفايته في يوم حنين يوم تدخّلت عناية الله وأرسل من جنده من غيّر مجريات الأمور وقلب الموازين رأسًا على عقب، {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ۙ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ*ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [25-26 سورة التوبة].
إنها عناية الله وكفايته حين يقلّ العدد وتنقص العدة، وحين تنقطع أسباب الأرض فتتدخل أسباب السماء، وحين يرسل الله جنودًا من عنده فيغيّرون مجريات الأمور وتنقلب الموازين. هذا لم يكن يومها فقط وفي ذلك الزمان، وإنما يكون في كل زمان ومكان يوم يصدق المسلمون في علاقتهم مع الله الكافي ويقولونها بحق وصدق: “حسبنا الله ونعم الوكيل”، وحين لا يخافون من أعدائهم وإنما يخافون منه وحده سبحانه {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ۖ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [36 سورة الزمر].
لا تيأسنّ فإن الكافي الله
وإن كفاية الله للعبد تظهر حتى في حياته الخاصة، فحينما يجد الإنسان نفسه من غير حول ولا قوة إلا قوة الله تعالى، فيستنجد به ويتوكّل عليه ويقف على بابه، فعندها سيجد أن الله يتولاه ويرعاه بكنفه. عن ابن مسعود رضي الله عنه أن قريشًا لما أبطأت بالاستجابة لرسول الله ﷺ واشتد عداؤها له فإنه دعا الله بقوله: “اللهم أكفنيهم بسبع كسبع يوسف”، أي أنه دعا الله أن تصيبهم مجاعة كالتي أصابت قوم فرعون فأصابتهم سنة [أصابت أي أهلكت كل شيء] حتى أنهم أكلوا العظام، ومن شدة الجفاف أصبح الرجل ينظر إلى السماء فيرى كأن بينه وبينها دخانًا.
يحدّث فضيلة الشيخ محمد راتب النابلسي في كتابه -موسوعة أسماء الله الحسنى- في بيان اسم الله الحسيب والكافي ودلالة أن ينتصر المظلوم بالله الكافي وهو يقول: “حسبي الله ونعم الوكيل”، فيحدّث عن ذلك الرجل الذي كانت تسكن معه في البيت أخته التي لم تتزوج وقد مات والداه، وكانت زوجته تبالغ في إهانتها.
وذات يوم كان يجلس وبجانبه زوجته، وقريبًا منه كانت تجلس أخته، وأراد أن يشرب الماء فركل أخته برجله قائلًا لها: أحضري لي كاسًا من الماء، فبكت من شدة إهانة أخيها لها أمام زوجته وقامت تتمتم وتقول في صدرها خشية أن يسمعها: “حسبي الله ونعم الوكيل”، صحيح أنه هو لم يسمعها ولكن ربّ الأرض والسماء الذي اشتكت إليه قد سمعها.
في اليوم التالي سافر الأخ إلى مدينة حلب لتجارة له وفي الطريق وقع له حادث سير وكانت إصابته برجله اليمنى التي ركل بها أخته، ولم يكن بدّ في المستشفى إلا بقطعها من أعلى الفخذ.
ويروي كذلك قصة صاحب مصنع حلويات مشهور في لبنان، وكان كل صباح يصدّر طائرة إلى الخليج محملة بالحلويات المشهورة التي كان يصنعها.
دخل صاحب المصنع يومًا إلى مصنعه يتفقد العمال والعمل، فوقف إلى جانب أحد العمال وكانت بيده قطعة من عجين الحلوى، فلم يعجبه أداء العامل فأخذ منه قطعة العجين وألقاها على الأرض وراح يدوسها بقدميه ويعجنها وهو يصرخ ويقول: “هكذا يكون العجن”، فقال له ذلك العامل بهدوء: “هذا عجين وهو من نعم الله وأنت تدوسه بحذائك. فردّ عليه بغضب وصراخ: وماذا على الناس لو أكلوا من تحت قدميّ؟”. يقول الشيخ النابلسي: لم يمض سوى شهرين حتى كان الرجل نزيل أحد مستشفيات لندن وقد قُطعت كلتا رجليه اليمنى واليسرى.
نعم إن معنى “حسبي الله” أنك توكل أمرك إليه ومن يتوكل على الله فهو حسبه وأنه سيكفيه ويؤويه ويغنيه وينصره، ويجب أن يظلّ هذا يقينًا في قلوبنا، وعقيدة لا تتزعزع بأن مدبّر الأمور كلها هو الله سبحانه، ولذلك فلا يأس ولا قنوط ولا إحباط، وإنما هو من الثقة واليقين والتفاؤل والاستبشار. وما أجمل ما قاله الإمام الشافعي في روائعه:
يا صاحب الهمّ إن الهمّ منفرج أبشر بخير فإن الفارج الله
اليأس يقطع أحيانًا بصاحبه لا تيأسن فإن الكافي الله
الله يحدث بعد العسر ميسرة لا تجزعنّ فإن القاسم الله
إذا بليت فثق بالله وارض به إن الذي يكشف البلوى هو الله
فوالله مالك غير الله من أحد فحسبك الله في كلٍ لك الله
وكفى بالله شهيدًا
إن كفاية الله هي المدد المعنوي والفعلي للعبد. إنها التي تعوض نقص العدة والعدد، وهي أسباب السماء حين تنقطع أسباب الأرض، وإنها جنود الله حتى لو لم نرها.
حينما وقعت ليبيا تحت الاستعمار الطلياني وأوقع الطليان بأهل ليبيا القتل والظلم والاستعباد، فكانت همة الشهيد عمر المختار وتحرّكه لمواجهتهم وطردهم من ليبيا، فقال له بعض أصحابه: “وكيف نواجه إيطاليا وكيف نطردها ومع الطليان طائرات ونحن لا نملكها؟ فقال عمر المختار رحمه الله: وهل طائراتهم تحلّق فوق العرش أم تحته؟ قالوا: بل تحت العرش. فقال: إذا كان من هو فوق العرش معنا فإننا لا نخاف من هم تحت العرش”.
إنه المعنى الحقيقي لقوله سبحانه: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَه وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [38 سورة الزمر]. وإنه المعنى الحقيقي لقول الله تعالى: {إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [174 سورة آل عمران].
فليس إننا لا نخاف الظالمين والجبابرة والطواغيت وأولياء الشيطان، وإنما نحن على يقين بأن الجولة لنا وأن العاقبة لنا وليست لهم، وأن المستقبل للإسلام وليس لأعدائه، وإن الله تعالى قد أخذ على نفسه العهد والكفاية بذلك {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا} [28 سورة الفتح].
فإذا كان الذي يشهد على ظهور الإسلام وانتصاره وعودة مجده هو الله تعالى، فهذا يعني أن العاقبة محسومة وأن فرج الله آت لا ريب فيه طالت الأيام أم قصرت.
اللهم إن أعداء الإسلام قد استعلوا علينا بقدرتهم على ضعفنا، اللهم أرنا فيهم قدرتك يا رب العالمين. اللهم أكفناهم بما شئت وكيفما شئت فأنت على كل شيء قدير يا رب العالمين.
اللهم وقد انقطعت أسباب الأرض من نصرة دينك فلم يبق إلا الإخلاد إليك والتوكل عليك أنت حسبنا ونعم الوكيل.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.