مقالة: لو كان التشاؤم رجلًا لقتلته
الشيخ كمال خطيب
التشاؤم، اليأس، الإحباط، القنوط، هذه وغيرها من الكلمات والمصطلحات التي لا أحبها ولا يروق لي سماعها وليس لها مكان في قاموسي. إنها سمفونية الضعفاء، بل ولعلّها خبز الجبناء يأكلون منها حتى أنها اصبحت جزءًا من خلايا أجسامهم، بل والأكسجين الملوّث الذي منه يستنشقون.
إن المتشائم والمحبط واليائس هو من لا يرى الدنيا إلا سوادًا في سواد، إنه لا ينظر إلا إلى السلبي من الناس ومن الأحداث ولا يرى من الكأس إلا نصفها الفارغ، وقد تلفّع بعباءة اليأس حتى أنها أصبحت محيطة بالذي لا يستطيع الخروج منه ولا العيش إلا فيه.
بالنسبة للمتشائم واليائس فإن كل الناس سيئون، وكل الناس أنانيون، وكل الناس فاسدون، وكل المسلمين أغبياء وكلهم عملاء. وأما الإسلام بالنسبة للمتشائم فإنه يلفظ أنفاسه الأخيرة ودقّ المسمار الأخير في نعشه ويوشك أن يشيّع إلى مثواه الأخير، ولن تقوم له بعد اليوم قائمة، لكأنه لم يسمع أبدًا بقوله تعالى: {إِنَّهُۥ لَا يَاْيْـَٔسُ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلْقَوْمُ ٱلْكَٰفِرُونَ} آية 87 سورة يوسف، ولا بوصية حديث رسول الله ﷺ وهو يقول: “إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم”. ولعلّ الحديث عن التفاؤل والأمل بالنسبة له هو ضرب من الجنون والمواساة والهروب من الواقع جاهلًا أو متجاهلًا ما قاله ﷺ: “لا عدوى ولا طِيَرة وأحب الفأل الحسن”.
إن التشاؤم إذا أصاب الفرد فإنه يصبح سلبيًا في كل شيء، وإن التشاؤم واليأس يقتل فيه الهمة والمبادرة ويحول بينه وبين مجرد التفكير في الانعتاق من الواقع الذي يعيشه، وأنه إذا أصاب الشعب أو الأمة فإنه الذي يصيبها في مقتل، فتستسلم للواقع كاستسلام من يصاب بمرض خطير يرفض معه حتى محاولة العلاج. إن الأمة اليائسة هي التي تقبل بأي حاكم يتولى أمرها، وتخضع لأي عدو غاشم تسلّط عليها. وقد حصل ذلك مع المسلمين يوم غزاهم التتار واحتلوا بغداد وقتلوا أهلها حتى بات المسلمون من شدة يأسهم من إمكانية تغيّر الحال والانتصار على التتار يرددون مقولة: “إذا قيل لك أن التتار قد انهزموا فلا تصدق”.
– إن الذي يدفع الطالب للجدّ والسهر للدراسة هو الأمل بالنجاح ونيل الشهادة.
– وإن الذي يدفع الفلاح لبذر الحب والعناية بالزرع وإنفاق المال والجهد هو الأمل بيوم الحصاد.
– وإن الذي يدفع التاجر لاستثمار ماله والمغامرة بالسفر للتجارة هو الأمل بالربح.
– وإن الذي يدفع المريض لتحمل مرّ الدواء، بل ودفع الأموال لأمهر الأطباء هو الأمل بالشفاء.
– وإن الذي يدفع الجندي للمخاطرة وتقدم الصفوف رغم أنه قد يُجرح أو يُقتل أو يقع في الأسر إنه الأمل بالنصر.
– وإن الذي يجعل الشعوب تسخّر إمكاناتها، وتنفق أموالها، وتضحي بأبنائها هو الأمل بالتخلص من المحتلين والمعتدين والمستعربين.
– وإن الذي يدفع المسلمين لتحمل صراع الشهوات والنفس الأمارة بالسوء ويقومون بالعبادات التي قد تكلّفهم الجهد والمال، إنه الأمل بالجنة وصحبة محمد ﷺ فيها والاستظلال بظلّ عرش الله تعالى ولذة النظر إلى وجهه الكريم.
إن التشاؤم واليأس والإحباط يتنافى تمامًا ويتعارض مع مفهوم التوكل على الله، ومع استشعار معية الله في كل حين {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} آية 3 سورة الطلاق، وقوله ﷺ: “احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده اتجاهك، وتعرّف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرًا”.
إن التشاؤم سم قاتل بل إنه وكما وصفه أحد الصالحين بقوله: “التشاؤم حبل إذا لم تقطعه خنقك” وعليه فإذا أراد لنا أعداؤنا أن نموت شنقًا وخنقًا بحبل التشاؤم، فإن الواجب أن نقطع هذا الحبل وندوسه بأقدامنا، لا بل وزيادة على ذلك فلا بد أن نرى حقيقة حبل الظلم بعين التفاؤل لا بعين التشاؤم، وقد قال ذلك الوالد الصالح لابنه: يا بني، إذا رأيت الليل يسودّ ويسودّ فاعلم أن الفجر قريب، وإذا رأيت الباطل يعتد ويعتد فاعلم أن انهزامه قريب، وإذا رأيت حبل الباطل يشتدّ ويشتدّ فاعلم أن انقطاعه قريب، وإذا رأيت الكرب يحتدّ ويحتدّ فاعلم أن الفرج قريب.
وكيف للمسلم أن لا يقطع حبل التشاؤم ويدوسه برجليه، وكيف له ألّا يكون متفائلًا ومعيّة الله تلفه من كل جانب، وكيف يخاف وكيف يقلق وهو مع الله والله معه:
لأنك الله لا خوف ولا قلق ولا غروب ولا ليل ولا شفق
لأنك الله قلبي كله أمل لأنك الله روحي ملؤها الألق
ولأنني أكره التشاؤم واليأس والإحباط ولن أقبله ولن أستعمله في قاموس كلماتي، فإنني وعلى منهج الإمام علي كرم الله وجهه ورضي الله عنه لمّا قال: “لو كان الفقر رجلًا لقتلته”. وإنني أقول: لو كان التشاؤم رجلًا لقتلته، ولو كان التشاؤم واليأس والإحباط والقعود كلهم رجال عصابة واحدة لقتلتهم ولأرحت المسلمين منهم”.
يقيني بمستقبل الإسلام يقيني
وإذا كان يتوجب علينا أن نقطع حبل التشاؤم لئلا يخنقنا، بل ولو كان التشاؤم رجلًا لقتلناه، فإنه على العكس من ذلك تمامًا فيتوجب علينا أن نمسك ونعتصم بحبل الأمل والتفاؤل والثقة واليقين بمستقبل الإسلام وفجره القريب وفرجه الآتي.
أن يكون المستقبل للإسلام هذه ليست مجرد أمنية وإنما هو يقين وثقة بوعد الله سبحانه {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا} آية 28 سورة الفتح، وثقة ويقين لبشارة رسول الله ﷺ: “ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مُدَر ولا وَبر إلا أدخله الله هذا الدين بعزّ عزيز أو بذلّ ذليل، عزًا يعزّ الله به الإسلام وذلًا يذل الله به الكفر”.
ولأن المرحلة العصيبة التي تمر بها الأمة قد أدت للبعض إلى التشاؤم واليأس من إمكانية الخروج منها، فإن اليقين والثقة بوعد الله ووعد رسوله ﷺ لمستقبل الاسلام يقي ويحفظ من التشاؤم واليأس، بل إنه يحمي ويقي من السقوط والفتنة، وما أصدق قول القائل: “يقيني بمستقبل الإسلام يقيني”.
نعم إن اليقين بمستقبل الإسلام يقي ويحفظ من الذلّ والتبعية، وإن اليقين بمستقبل الإسلام يقي ويحمي ويحفظ من الولاء للأعداء بزعم أنهم الأقوياء وأن الزمان زمانهم فلا بد من الدوران في فلكهم كما يفعل الضعفاء والمهزمون، لا بل إن اليقين بمستقبل الإسلام يقي ويحفظ من الهوان الذي يجعل البعض يزحف على بطنه بين يدي أعداء الإسلام ليرضوا عنه، وما أصدق ما قاله جلال الدين الرومي: “لم تخلق لتزحف فلا تَهن”.
وإن اليقين بمستقبل الإسلام يقي ويحمي ويحفظ من النفاق والتلون للطواغيت والظلمة والركون إليهم {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}. وليس هذا وحسب،بل إن اليقين بمستقبل الإسلام يجعل المسلم لا يحسب لهؤلاء حسابًا وينظر إليهم أنهم أقزام وتافهون، وأن يصرخ فيهم ويقول لهم كلا وألف كلا كما قال الشاعر الحرّ ابن سوريا الثورة أنس الدغيم:
لأن الله لا يرضى لك الإذعان والذلّا
وتحرر من قيود الأسر
فّجر واختلق حلّا
ومزّق جبهة الكهنوت
شقّ عباءة المُلا
وقل إن قالت الدنيا: نعم للظلم
قل: كلا.
وعليه فإن الحديث عن مستقبل الإسلام وفجره الصادق وفرجه القريب ليس رهانًا يحتمل الخطأ والصواب وأن يكون أو لا يكون، وإنما هو الحديث عن يقين وثقة لا بد أن تكون تجري فينا كما يجري الدم في العروق، بل نؤمن بها كما نؤمن أن الله تعالى واحد لا شريك له، وكما أن اليقين بالآخرة يقي ويحمي الإنسان من أن يقع في الذنوب والمعاصي، فإن اليقين بمستقبل الإسلام يقي من اليأس والإحباط والقنوط والتشاؤم.
لذا فأنتم إلى زوال
وإن من مقتضيات رفض وشطب مصطلحات التشاؤم والإحباط واليأس من قاموسنا واستبدالها بمصطلحات التفاؤل والأمل والاستبشار وعندها سينتج عن ذلك الثقة العارمة بمستقبل الإسلام، وليس ذلك وحسب، بل إنها ستكون القراءة الثاقبة والفهم السليم لسنن الله في الكون والتي من أهمها أن الظلم لا يدوم وأنه مهما علا وبطش فإنه إلى زوال.
فللذين يحاربون الله في دينه ودعوته، وفي رجال دعوته وفيمن يدعون الناس إلى الخير والفضيلة والعبادة، لهؤلاء نقول: لأنكم تفعلون ذلك فأنتم إلى زوال.
نعم إلى زوال كل أصحاب الجلالة والفخامة والسيادة والسمو الذين يظنون أن الشعوب هي من بعض ممتلكاتهم ومقتنياتهم الشخصية يفعلون بها ويحركونها ويتصرفون بها كما يتصرفون بأي متاع ورثوه عن آبائهم وأجدادهم. إنهم إلى زوال لأنهم لغبائهم لا يقرأون التاريخ الذي سيخبرهم لو أنهم قرأوه، أن هذا الملك لو دام لغيرهم لما كان وصل إليهم، وأن هذه الشعوب حتمًا ستقول كلمتها ولن يكون مصير هؤلاء إلى زوال فقط، بل إلى مزابل التاريخ.
للذين يحاربون أمتنا في قبلتها الأولى ومسرى محمد ﷺ، للذين يحاربون المسلمين في مسجدهم الأقصى المبارك فيقتحمون ويدنّسون ويعلنون صراحة أنهم يخططون لهدم هذا المسجد وإقامة هيكلهم المزعوم على أنقاضه معلنين بذلك الحرب المفتوحة والشاملة ليست حربًا وطنية ضد الفلسطينيين، ولا حربًا قومية ضد العرب، وإنما حرب دينية عقائدية ضد مليارين من المسلمين ممن يعتقدون كما الله تعالى واحد لا شريك له فإن المسجد الأقصى لهم وحدهم ولا شريك لهم فيه، لذلك فأنتم إلى زوال.
وللذين يظنون من أنهم بدع من الاحتلالات، وأنهم طراز فريد من المستعمرين، وأن قانون التداول لم يجرِ عليهم {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} آية 14 سورة آل عمران، وأنهم باقون ومخلدون فإن هذا الفهم ليس أنه فقط من الغباء، وإنما هو من نتائج غرور القوة وجنون العظمة. إنهم ينسون أن هذه الأرض المباركة قد مرّ عليها ثمانية عشر احتلالًا وكلهم رحلوا، وأنهم الاحتلال التاسع عشر وحتمًا سيرحل، وأن المسجد الأقصى المبارك قد بقي تحت التدنيس الصليبي لمدة تسعين عامًا ثم طُهّر المسجد الأقصى، وأنه ورغم مرور 55 سنة على التدنيس الصهيوني للمسجد الأقصى، إلا أنه حتمًا سيتطهر من رجس ودنس هذا الاحتلال، وما أصدق ما قاله الشاعر عبد الرحمن العشماوي:
أيا أكناف بيت المقدس إني أرى غيثًا يجود به الغمام
فحبل الظلم في الدنيا قصير وعقبى قاتل الشعب انهزام
وأنا أضيف وأقول: وعقبى مدنّس الأقصى انهزام، لا بل إنه الزوال.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.