مقالة: ارفع رأسك فأنت مسلم
لأننا نعيش في زمن المواجهة المباشرة والحرب الشرسة والصراع المحتدم بين الحق وبين الباطل، بين الخير وبين الشر، بين الهدى وبين الضلال، بين الفضيلة وبين الرذيلة، بين النور وبين الظلام، بين الاستقامة وبين الانحراف، بين الجمال وبين القبح، بين الإيمان وبين الكفر، بين الإسلام وبين أعدائه.
ولكن من أبرز ملامح المرحلة ووجوه هذا الصراع، فإنه الصراع بين الأصالة وبين الزيف، بين ما ينفع الناس وبين الزبد {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} آية 17 سورة الرعد. ولأنك أيها المسلم قد رضيت لنفسك هذا الدين الذي ارتضاه الله لك، ولأنك اخترت أن تكون مع الحق والخير والهدى والنور والفضيلة والجمال والاستقامة مع الإسلام، وليس مع الباطل والشر والضلال والظلام والرذيلة والقبح والانحراف مع أعداء الإسلام. هذا يعني أنك اخترت الأصالة على الزيف، واخترت ما ينفع الناس على الزبد، وهذا يعني ضرورة الاعتزاز بهذه الهوية وهذا المنهج وهذا الانتماء وهذه الصبغة {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} آية 138 سورة البقرة.
محمديون وبكل فخر
إنه الاعتزاز بنعمة الإسلام {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} آية 3 سورة المائدة. إنه الإسلام دين الله الواحد، دين الرسل جميعًا، الدين الذي لا يقبل الله دينًا غيره. {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} آية 19 سورة آل عمران. ومع الاعتزاز بنعمة الإسلام فإنه الاعتزاز برسالة محمد ﷺ {لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَٰلٍۢ مُّبِينٍ} آية 164 سورة آل عمران. إنه محمد ﷺ الرسول الخاتم الذي بعثه الله مصدقًا لما بين يديه، مصححًا لما بدّل من الرسالات وكان عنوان رسالة التيسير لا التعسير والتبشير لا التنفير. وكان وصف رسالته في كتب أهل الكتاب الإنجيل والتوراة أنه {يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} آية 157 سورة الأعراف.
أنا مسلم ولي الفخار
ومع اعتزازه بنعمة الإسلام وبرسالة محمد ﷺ فإن المسلم يعتز بالقرآن الكريم أعظم كتاب أنزله الله الذي {لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} آية 42 سورة فصلت. إنه دستور الخالق لإصلاح الخلق، وقانون السماء لهداية أهل الأرض {إِنّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلّتِي هِيَ أَقْوَمُ} آية 9 سورة الإسراء. إنه القرآن الذي تحدى العرب وما يزال التحدي قائمًا للعرب وللعجم أن يأتوا بمثله أو بعشر سور مثله مفتريات لمّا زعموا أنه مفترى {أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَىٰهُ ۖ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍۢ مِّثْلِهِۦ مُفْتَرَيَٰتٍۢ وَٱدْعُواْ مَنِ ٱسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ} آية 13 سورة هود، ولا يزال التحدي قائمًا إلى يوم القيامة.
ومع الاعتزاز بنعمة الإسلام وبرسالة محمد ﷺ وبالقرآن الكريم فإنه الاعتزاز كذلك بالانتساب إلى الأمة الوسط التي جعلها الله في مقام الأمة التي ستشهد على كل الأمم يوم القيامة {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} آية 143 سورة البقرة. {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} آية 110 سورة آل عمران. إنها أمة الإسلام، أمة دعوة ورسالة وليست أمة عنصرية منغلقة على نفسها كبني إسرائيل، أمة هداية لا أمة جباية كما قال فضيلة المرحوم الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه الرائع -الثقافة العربية الإسلامية بين الأصالة والمعاصرة- حيث أغلب مادة هذا المقال هي بتصرف منه. إنه يفتخر ويعتز بهذا كله ويباهي الدنيا وهو يقول:
أنا مسلم ولي الفخار فأكرمي يا هذه الدنيا بدين المسلم
وأنا البريء من المذاهب كلها وبغير دين الله لن أترنم
فستشهد الأيام ما طال المـدى أو ضمّ قبري بعد موتي أضلعي
إنّي لغير الله لست بعابدٍ ولغير دستور الســـماء لن أنتمي
إن العروبة بالإسلام عزتها
ومع كل عناصر ومعاني هذا الاعتزاز لكل مسلم في هذا الكون، إلا أن هناك اعتزازًا آخر يخص العربي المسلم من دون باقي المسلمين. إنه العربي الذي يعتز بأنه ينتمي لأهل رسول الله ﷺ، ويتكلم العربية لغة القرآن، ويفهم عن رسول الله ﷺ دون ترجمان، ويعيش في أرض هي مأرز الإسلام ومعقله، قريبًا من مقدسات الإسلام ومساجده الكبرى التي لا تشد الرحال إلا إليها، المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف والمسجد الأقصى وكلها في أرض العرب. قال رسول الله ﷺ: “لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد، المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى”. إذا كان الله تعالى قد قال لرسوله ﷺ أن القرآن فخر ومجد لك ولقومك {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ*وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ۖ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} آية 43 سورة الزخرف. {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ ۖ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} آية 10 سورة الأنبياء، أي أن بالقرآن شرفكم وذكركم ومجدكم الذي تُذكرون به. فإذا كان القرآن شرفًا وذكرًا لرسول الله ﷺ فإنه ذكر وشرف ومجد لكل من ينتمي إلى دين رسول الله ﷺ من المسلمين عامة ومن العرب خاصة.
إن العربي الأصيل هو من يعتز أن له أصلًا يرجع إليه، ونسبًا ينتمي إليه، وأهلًا يحتمي بهم ويلجأ إليهم إذا اعتدى عليه معتدٍ واستخف بحرماته مستخف.
أما العربي الدعيّ الزنيم فليس له ما يعتز به أو ينتمي إليه ويستوي عنده الشريف والوضيع والأصيل والدخيل، النسيب واللقيط، بل لعله يفضل الثاني على الأول دفاعًا عن خسته وتبريرًا لوضاعته.
وكم كان إحساس وشعور المسلم الهندي الفيلسوف الكبير محمد إقبال بنعمة الانتماء إلى العرب الذين من بين أظهرهم كان رسول الله ﷺ، فقال: “أيها العرب قد منّ الله عليكم إذ جعلكم مثل السيف البتار أو أحدّ منه، وكنتم فيما قبل ترعون الإبل في الصحراء وتركبون عليها وتظعنون بها، ثم انعكست الآية فسخّر الله لكم المقادير فضلًا عن الإبل فأصبحتم من مالكي أعنتها، فلو أقسمتم على الله لأبركم وهناك دوّت تكبيراتكم وصلواتكم وزمزمت جلبة حروبكم ومغازيكم بين الخافقين، فارتج بها ما بين المشرق والمغرب، فما أحسن تلك المغامرات وما أجمل تلك الغزوات”. وما أصدق ما قاله الشاعر:
إن العروبة بالإسلام عزتها فإن تولت فلا عز ولا عرب
أنا مسلم عربي فلسطيني
لقد اعتز العربي بالإسلام لما فهمه حق الفهم وطبقه أصدق تطبيق فرأى ثمار ذلك حتى قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “كنا معشر العرب أذلّ قوم فأعزنا الله بالإسلام ومهما ابتغينا العزة بغير الله أذلنا الله”.
وإنه الإسلام الذي اعتز به العربي عمر الثاني بن عبد العزيز رضي الله عنه، وقد قال له قائل بعد موقف من مواقفه المحمودة: جزاك الله خيرًا عن الإسلام يا أمير المؤمنين. فقال له عمر: بل جزى الله الإسلام عني خيرًا.
وإنه الإسلام الذي اعتز به الصحابي الجليل ربعي بن عامر أمام رستم قائد جيوش الفرس، وهي كلمات كأنها نور من الكلام أو كلام من النور كما يقول الرافعي رحمه الله، فقد سأله رستم: من أنتم؟ فقال ربعي رضي الله عنه: نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
هكذا كان العربي المسلم يعتبر الإسلام هويته وصبغته ويعتز بها إلى أن دار الزمان وطغت المفاهيم القومية المشوهة والتي سعى أصحابها ومن يقف وراءها ليس فقط للفصل بين العروبة والإسلام، وإنما لخلق حالة عداء بينهما حتى قال قائلهم:
لا تسل عن ملتي عن مذهبي أنا بعثي اشتراكي عربي
بل وحتى قال عروبي متطرف أعمى بصيرة:
آمنت بالبعث ربًا لا شريك له وبالعروبة دينًا ما له ثاني
ولكنها كانت مرحلة بريق وزيف ذاقت الأمة فيها كل معاني الذلّ والهوان إلى أن عادت الروح تسري من جديد، ويرتبط الإسلام والعروبة ارتباط حبل السرة بين الأم والجنين حتى عاد العربي الفلسطيني يردد من جديد:
أنا مسلم عربي فلسطيني اعتز بقرآني والإسلام ديني
ويردد كذلك:
فلسطيني فلسطيني فلسطيني ولكن في طريق الله والإيمان والدين
نعم إنها العودة للاعتزاز والافتخار والتشرف بالانتماء إلى هذا الدين وهذه الصبغة وهذه الأمة، وبهذا الاعتزاز بالانتماء يكون التحرر من عقدة النقص التي عانى منها بعض المسلمين في مرحلة تاريخية سيئة حين نظر هؤلاء إلى الغربي “الخواجا” وانبهروا بثقافته وحضارته ولغته وتقاليده وأزيائه، وحتى بالرذائل التي يمارسها حتى أنهم اعتبروا أن ملامح وسمات الاقتداء والتقليد لهؤلاء، التعري وشرب الخمر والاختلاط الماجن والموسيقى الصاخبة وغير ذلك من مظاهر التحلل والمجون.
إنها العودة للاعتزاز والافتخار بالإسلام أمة وملة وهوية، وانتسابًا قبل انتساب واعتزاز العرق والقبيلة والوطن والإقليم، وأن ينشد مع العربي القديم الذي سبقه بهذا الاعتزاز لما قال:
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
بل وأن يقول ويردد ما قاله الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} آية 33 سورة فصلت. فارفع رأسك وقل أنا مسلم {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۚ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ*قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} آية 161-163 سورة الأنعام.
عذرًا رسول الله
ومما لا بد من لفت الانتباه إليه، أن هذا الاعتزاز وهذا الافتخار بالانتساب إلى هذا الدين وهذه الأمة وهذا التاريخ يجب أن يتجاوز حدود الشعارات والتغني بالأمجاد الماضية، وإنما لا بد أن يكون سلوكًا وممارسة.
فمن العار أن نتحدث ونفتخر بأبي بكر دون أن نكون على مثل يقينه وقوته، ومن العيب أن نفتخر بالفاروق عمر ولا نكون على مثل صلابته وعدله، وماذا يغنينا أن نعتز بالانتساب إلى عثمان ذي النورين ولا نكون مثله في البذل والحياء، ولن يُرضي عليًا أن نفتخر بالانتساب إليه وليس لنا نصيب من شجاعته وفتوته وعلمه بل إنه لا يليق بنا أن نفتخر بالأسماء اللامعة من العلماء الأفذاذ الذين وقفوا في وجه الباطل وتحدوا سلاطين الظلم كأمثال سعيد بن جبير وأحمد بن حنبل وابن تيمية والعزّ بن عبد السلام وسعيد الحلبي وسيد قطب وكثيرين غيرهم، بينما لا ننهج منهجهم في مقارعة الباطل وأهله من أصحاب الجلالة والفخامة والسيادة ممن يتحالفون مع أعداء الإسلام. فكيف لعلماء هذا الزمان أن يفتخروا بأولئك بينما هم يهادنون الظلمة ويدورون في فلكهم ويلتقطون الحَب في ظلّ قصورهم.
بل وأي تناقض في أن ندعي الحب والاعتزاز بالانتساب لمحمد ﷺ بينما نحن نخالف هديه وما جاء به وقد قال في ذلك الشاعر:
تعصي الرسول وأنت تظهر حبه هذا لعمري في القياس فظيع
لو كان حبك صادقًا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
ولقد رأى محمد إقبال في ذلك الفعل ما جعله يخجل من رسول الله ﷺ يوم القيامة، وقد قال: “أنت غني عن العالمين يا ربي وأنا عبدك الفقير فاقبل معذرتي يوم الحشر. وإن كان لا بد من حسابي فأرجوك أن تحاسبني بنجوة من المصطفى ﷺ فإني أستحي أن أنتسب إليه وأكون في أمته وأقترف هذه الذنوب والمعاصي”.
فافتخر واعتز بهذا النسب وهذه الهوية وهذا الانتماء، وناد في الدنيا كلها:
يا هذه الدنيا أصيخي واشهدي إنا بغير محمد لا نقتدي
إسلامنا نور يضيء طريقنا إسلامنا نار على من يعتدي
ارفع رأسك فأنت مسلم.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لنفسه ولي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.