مقال الشيخ كمال خطيب: “لا تخافوا على دينكم ،خافوا على أنفسكم”
الشيخ كمال خطيب
ما أكثرها همومنا، وما أكثر ما يشغلنا في هذه الفترة العصيبة التي يمرّ بها شعبنا وتمرّ بها أمتنا. صحيح أن الهموم والانشغالات تتفاوت وأنها تتراوح بين الهموم الشخصية والهموم العامة والجماعية، والهموم الاقتصادية والاجتماعية والصحية والسياسية، لكن يظلّ الهمّ الأكبر من كل هذه الهموم هو ما تعيشه الأمة من تسلط أعدائها عليها ومن تخاذل وتآمر حكامها ونفاق وانخراس كثيرين من علمائها، وليكون الحال الذي عليه أهلنا وأبناء شعبنا في غزة وما نزل وما يزال ينزل بهم منذ سنة على يد الاحتلال الإسرائيلي هو أكبر الهموم وأشد الأوجاع.
لكنه اليقين بالله والثقة بوعده سبحانه، أن هذا حال لن يدوم، وأن هذا الهمّ سينكشف، وأن هذا الكرب سينفرج مهما طال الزمان، وما أكثرها الإرهاصات والمبشّرات التي تقول أنه قريب قريب وأن المستقبل للإسلام وللمسلمين.
فإذا كنا مطمئنين منشرحين لمستقبل شعبنا وأمتنا وديننا، فإن الذي يجب أن يظلّ يقلقنا ويؤرقنا هو مستقبلنا الشخصي الآخروي وعاقبة أمرنا وكيف سيكون حالنا عند الوقوف بين يد الله رب العالمين.
مهم وضروري العمل لخدمة شعبنا ونصرة ديننا وحمل همومنا، لكن هذا ينبغي أن يكون منطلقه الإخلاص لله تعالى وليس حميّة ولا عصبية ولا رياء ولا سمعة، وليس هذا وحسب، بل إن هذا يجب أن تكون دوافعه عقائدية، ولا تكون عقائدية إلا أن يكون أحدنا قد أدى ما عليه من فرائض الله تعالى من أركان الإسلام، وكان على هدي ونهج رسول الله محمد ﷺ. ومع هذا كله فإنه لا يستكثر عمله، بل يظلّ يلاحقه الشعور بالتقصير وحاجته لرحمة الله تعالى، فيظلّ يطير ويحلق بجناحين، جناح الخوف وجناح الرجاء، علّه بهذين الجناحين أن يحط على باب رحمة الله تعالى وعفوه فيدخله الجنة ويصرف عنه النار، قال الله تعالى في الحديث القدسي الجليل: “يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي”. وقال سبحانه في كتابه العزيز: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} آية 53 سورة الزمر.
إذا لم تجدوني في الجنة فاسألوا عني
إنه الإمام ابن الجوزي العالم الجليل الذي بلغت شهرته الآفاق وكان يُشار إليه بالبنان. وكان لغزارة علمه وجمال أسلوبه ولمكانته، فقد كان يحضر مجالسه الخلفاء والأمراء والوزراء والأئمة الكبار، وقد ورد في بعض الروايات أنه حضر في مجالس علمه مائة ألف من الناس.
إنه ابن الجوزي الذي كان يقول في آخر عمره: “كتبت بأصبعي ألفي كتاب، وتاب على يدي مائة ألف من المسلمين من أصحاب الغفلة والذنوب والمعاصي، وأسلم على يديّ عشرون ألفًا”. ومع كل هذا العطاء وهذه الهمة وهذا التفاني في سبيل الله ونصرة الدين، فإنه هو نفسه الذي كان يقول لأصحابه ولأقرب الناس إليه: “إذا دخلتم الجنة ولم تجدوني معكم فيها فاسألوا عني وقولوا: يا رب، إن عبدك فلانًا كان يذكّرنا بك” ثم بكى رحمه الله.
وفيما يدلل على نفس المعنى فقد اشتهر عنه رحمه الله، أنه كان يقول وهو يناجي الله بالليل ويدعوه: “إلهي ومولاي إذا قضيت عليّ العذاب غدًا وأدخلتني النار فلا تُعلم أهل النار بعذابي صيانة لكرمك لا لأجلي لئلا يقولوا: إن الله عذّب بالنار من دلّ الناس عليه”، لأنها ستكون الشماتة من أهل النار به وسوء الظن بالله سبحانه.
هذا هو المعنى الحقيقي للخوف من الله تعالى، أنه برغم العطاء والبذل والطاعات، فإن المسلم الصادق يظلّ يستقل عمله ويعلم أنه يظلّ مقصرًا بحق الله تعالى وأنه إذا لم يدخله الله الجنة برحمته فإنه الخسران العظيم. إنه يظلّ يخاف على نفسه من سوء الختام، ويصل به الخوف أن يستشعر أن من كان هو سبب هدايتهم وتوبتهم سيدخلون الجنة ولعلّه هو لا يدخلها، فكان يوصيهم أن يذكروه هناك “إذا دخلتم الجنة ولم تجدوني فاسألوا عني وقولوا: يا رب، إن عبدك فلانًا كان يذكّرنا بك”. ويا ربي إذا أدخلتني النار فلا تخبر أهل النار ليس لأجلي أنا ولكن لأجلك أنت وعظيم مقامك وجلالك، فلا يتحدثون بينهم أن الله قد أدخلنا نحن الجنة وأدخل النار من كان سببًا في دخولنا الجنة”.
وبنفس معاني الخوف من الله تعالى برغم الصلاح والفضل والعطاء التي كان عليها ابن الجوزي، فهكذا كان الصالحون على مدى الأجيال، فقد اشتهر عن أحدهم أنه كان يدعو الله تعالى ويقول: “اللهم لا تطرد من رحمتك وجنتك من كان همّه تقريب العباد إليك، اللهم لا تحرم حبك من حبّب الخلق فيك”.
لا يحتملون العتاب فكيف بالعقاب؟
ومن شدة خوفهم من الله تعالى وتعظيمهم لذاته سبحانه، فإنهم كانوا يعظّمون رسوله ﷺ ويشغلهم عتابه لهم يوم القيامة. فها هو الفيلسوف الكبير والأديب اللامع محمد إقبال، فقد كان يناجي الله تعالى ويقول: “إلهي ومولاي: أنت غنيّ عن العالمين وأنا عبدك الفقير فاقبل معذرتي يوم الحشر، وإن كان ولا بد من محاسبتي فأرجوك يا رب أن تحاسبني بنجوة من حبيبي المصطفى فلا يراني، فإني استحي أن أنتسب إليه وأكون من أمته وأنا أقترف هذه الذنوب والمعاصي”.
ومثل محمد إقبال رحمه الله فإنها دعوة ومناجاة الرجل الصالح الدكتور خالد أبو شادي المعتقل في سجون السيسي وقد كان يقول: “اللهم لا قبل لي بعتابك فكيف بعذابك، فارحمني”.
ومثل محمد إقبال وخالد أبو شادي فإنه ابن الجوزي الذي كان يقلقه ويفزعه موقف عتاب الله عز وجلّ له يوم القيامة، ورجاؤه بأن يرحمه ويدخله الجنة، فكان يقول:
إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني
وتخفي الذنب عن خلقي وبالعصيان تأتيني
ويا ويحي ألم أسمع كلام الله يدعوني
ألم أسمع بما قد جاء في قاف وياسين
أتيت إليك فارحمني وثقّل في موازيني
وخفّف في جزائي أنـ ـت أرجى من يجازيني
إنهم الصالحون إذن برغم صلاحهم وعطائهم فإن خوفهم من الله كان يقطع أوصال قلوبهم، وكان يشغلهم إلى حد القلق لقاؤهم برسول الله ﷺ في ساحات العرض، وكيف سيكون حالهم من الخجل مما كانوا عليه من الذنوب وهو الذي نهاهم عنها. فإذا كانوا لا يطيقون عتاب الله ولا رسوله ﷺ لهم، فكيف سيطيقون عذاب الله تعالى يوم القيامة، فكان دعاؤهم ورجاؤهم بأن يرحمهم الله تعالى.
ومع الخوف الرجاء
إن الصالحين وأصحاب الفهم كانوا يحلّقوا بجناحي الخوف والرجاء لعلّ بهما أن يصلوا إلى باب جنة الله رب العالمين. فإذا كانوا رغم كثرة أعمالهم الصالحة فإنهم يخافون على أنفسهم، ومثلهم الذين كانت ثقتهم في الله تعالى عظيمة، أنه لن يترهم أعمالهم، وأنه سبحانه سيجبر خاطرهم بما سبق وقدموا من صالح أعمالهم.
فقد دخل أصحاب أبي عبد الرحمن السلمي عليه في بيته يعودونه من مرض، وكان مرضه شديدًا، فأخذوا يرجونه برحمة الله فلا ييأس ولا يقنط من رحمته سبحانه وأنه سيغفر ذنبه ويستر عيبه، فكان ينظر إليهم ويسمعهم ويقول لهم: “وكيف لا أرجوه سبحانه وأنا الذي صمت له ثمانين رمضان”.
ومثل أبي عبد الرحمن السلمي فإنه العالم الجليل أبو بكر بن عايش والذي كانت ابنته تبكيه في ساعات احتضاره، فكان يلتفت إليها ويقول: “لا خوف على أبيك يا ابنتي، فوالله لقد ختمت في هذا البيت كتاب الله أربعة آلاف ختمة كلها لأجل هذا المشهد”. يقصد أنه قد أعدّ الزاد لهذه الرحلة، وقد علم أن الموت آت فأعد له عدته، وأن لقاء الله آت فأكثر من الصالحات استعدادًا لذلك اللقاء.
ولو أدخلتني النار سأظل أحبك
إنه ليس الحديث عن أشخاص كانوا غارقين في ذنوبهم ومعاصيهم، وإنما الحديث عن حبّ الله تعالى ملك عليهم شغاف قلوبهم ومن أفنوا أعمارهم في خدمة الدين ونصرته ومن كانوا مضرب الأمثال في العبادات والقيام والصيام ومن كانوا أحسن الناس خلقًا وأكثرهم اقتداء وتأسيًا برسول الله ﷺ. لكن ومع ذلك فإنهم الذين كانوا يستقلّون أعمالهم ويعلمون أنهم خاسرون إن لم تتداركهم رحمة الله تعالى.
فهذا الإمام الشافعي رحمه الله يقول في ختام أيامه:
ولما قسى قلبي وضاقت مذاهبي جعلت الرجا منّي لعفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما
فإن تنتقم مني فلست بآيس ولو أدخلت نفسي بجرمي جهنما
إنه رحمه الله ورضي عنه يصوّر نفسه لعلّه يدخل جهنم بسبب جرمه وذنوبه وهو ليس كذلك رحمه الله، مع ذلك فإنه يعزّي نفسه برحمة الله ورجائه به أن يغفر له.
ومثل الإمام الشافعي فإنه العالم الجليل والرجل الصالح أبو سليمان الداراني الذي يحدث عنه صديقه أحمد بن أبي الحواري فيقول: “وقفت على أبي سليمان الداراني وهو لا يراني فسمعته يناجي الله ويقول: إلهي ومولاي لئن طالبتني يوم القيامة بذنوبي لأطالبنّك بعفوك، ولئن طالبتني بتوبتي لأطالبنّك بكرمك، ولئن أدخلتني النار لأحدثنّ أهل النار أني أحبك”. أي أن رجاءه بالله سبحانه يصل به إلى حدّ أن يخاطب ربه: “إنني إذا كنت أنا أهل الذنوب والخطايا، فإنك يا ربي أهل العفو والمغفرة، ولن يختلف حبي لك ولن يتغير حتى لو قضيت علي أنني من أهل النار فإنني سأخبر أهل النار أني أحبك.
أين ستكون أنت؟
وعليه ففي غمرة الواقع الصعب وما أصعبه، فلنكن على يقين أن الله سبحانه سيبرم لنا إبرام رشد به يعزّ أولياءه ويهزم أعداءه، وسيجعل لنا مما نحن فيه فرجًا ومخرجًا، وأن الله سبحانه حتمًا ويقينًا سينصر دينه. فعلى الإسلام لا نخاف أبدًا، وإنما الذي يجب أن يخيفنا ويشغلنا كيف ننتصر على أنفسنا، كيف نصلح حالنا مع الله تعالى وكيف نقوي حبال الوصل بيننا وبينه جل جلاله. فلا تخافوا على إسلامكم ودينكم ولكن خافوا على أنفسكم كما قالها ذلك الشيخ العراقي، وقد جاءه تلاميذه وهو يحتضر فطلبوا منه أن يوصيهم فقال: “يا أبنائي لا تخافوا على دعوتكم وخافوا على أنفسكم”.
إنها الوصية التي تصلح يومها واليوم وفي كل زمان، بأن نكون مطمئنين على هذا الدين، لأن الله سبحانه حافظه، وعلى هذه الدعوة لأن الله ناصرها، ولكنه القلق والخوف والحرص الذي يجب أن يلازمنا فلا يفارقنا أبدًا على أنفسنا وقلوبنا لتظلّ على الجادة، فلا نضلّ بعد هدى ولا نعصي بعد طاعة ولا ننحرف بعد استقامة ولا نزيغ بعد الثبات ولا ننقض عهدًا بعد بيعة وميثاق.
فليخافوا على أنفسهم العملاء الذين يوالون أعداء الإسلام والظالمين من أن يموتوا على هذا الحال، وليخافوا على أنفسهم العلماء الذين انخرسوا عن نصرة الإسلام والمظلومين وعن قول كلمة الحق في وجوه الطغاة والمستبدّين.
فليس السؤال هل سينتصر الإسلام أم لا فهو يقينًا بإذن الله سينتصر، ولسنا خائفين عليه، ولكنه الخوف الذي يجب أن يلازم كل واحد منا أين سيكون هو في تلك اللحظة ولأي الفريقين والمعسكرين سينحاز، مع الإسلام أم مع أعدائه؟ فلا تخافوا على إسلامكم ولكن خافوا على أنفسكم.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.