ما أشبه الليلة بالبارحة: جماعات الحشاشين وعصابات المجرمين في خدمة المحتلين.
الشيخ كمال خطيب
لم يعد خافيًا على أحد طبيعة المرحلة العصيبة التي يمرّ بها أبناء شعبنا في الداخل الفلسطيني في ظلّ تفشي موجة ولعنة العنف التي حصدت قريبًا من ألفي ( 2000) شخص خلال 20 سنة الأخيرة، وحصدت قريبًا من مائة وثلاثين( ١٣٠ ) شخصًا خلال السبعة أشهر الأخيرة.
وفي تأكيد وصف ما يجري بأنه لعنة وأنه مخطط أسود تقف خلفه أيادٍ مشبوهة وحاقدة، فيكفي الإشارة إلى أن 20 سنة قبل العام 2000 أي منذ العام 1980- 2000 فإنها لم تُرتكب سوى 85 جريمة قتل في كل الداخل الفلسطيني من أقصى الجليل شمالًا إلى أقصى النقب جنوبًا.
وإن عودة لقراءة التاريخ تطلعنا أن سياسة الفتن وتمزيق النسيج الاجتماعي وإثارة الرعب والخوف وإشاعة القتل قد اعتمدت أكثر من مرة في تاريخ أمتنا، وليس أنه القتل والجريمة التي يمكن أن تحصل بظروف مختلفة والتي لا يخلو منها أي مجتمع، وإنما أتحدث عن الجريمة المنظمة التي تقف خلفها جماعات وعصابات.
وإنها المقارنة بين فترة المشروع الصليبي ووقوع القدس والمسجد الأقصى تحت الاحتلال، وفترة المشروع الصهيوني ووقوع القدس والمسجد الأقصى تحت احتلاله، حيث أنه في غمرة سعي الأمة يومها لاسترداد مسجدها الأقصى وحشد الطاقات لأجل ذلك، وإذا بعصابة وجماعة اسمها “جماعة الحشاشين” تظهر لتقوم بأعمال تدميرية داخل مجتمعات الأمة الإسلامية.
وبالمقابل فإنه وفي غمرة بل وبعد انتفاضة الأقصى الثانية في العام 2000 وعودة قضية القدس والأقصى والمخاطر المحدقة بهما، لتصبح قضية الأمة كلها وما كان لأبناء شعبنا الفلسطيني في الداخل من دور مبارك ومتقدم في إعادة الحياة والروح لهذه القضية وارتقاء 13 شهيدًا من شباب الداخل الفلسطيني، وفجأة ومرة واحدة بعد العام 2000 وإذا بعصابات المجرمين تظهر، وإذا بشعبنا يعيش ويكتوي على وقع كرة اللهب والدم المتدحرجة حتى تفاقمت وأصبحت كابوسًا وزلزالًا ولعنة تعصف وتضرب بمجتمعنا.
ظهرت جماعه الحشاشين تأسست على يد الحسن بن الصباح وراشد الدين سنان بن سنان، وهي امتداد لجماعة الفاطميين العبيديين حيث انشقت عنها، وقد عُرفوا بالحشاشين لكثرة استعمالهم الحشيش والمخدر أثناء تنفيذ عملياتهم. كانت نشأتهم خلال الاجتياح الصليبي لبلاد المسلمين، وكانت من أخطر الحركات السرية الإرهابية في تاريخ المشرق الإسلامي، وقد حفل تاريخهم بالإرهاب السياسي والاغتيالات المنظمة ضد زعماء وقادة أهل السنة، وثبت تعاملهم وخدمتهم وتنسيقهم مع قادة الحملات الصليبية.
أما عصابات المجرمين
وهي مجموعة العصابات التي ظهرت في الداخل الفلسطيني والتي راحت تنشق عن بعضها البعض وتشكل عصابات مستقلة بفعل المطامع والمغانم ونشوة القوة التي شعر بها بعض الأفراد، حتى أن الحديث يدور عن إحدى عشرة عصابة منظمة تعمل في الداخل الفلسطيني، وقد نُشرت قائمة بأسمائهم في صحيفة يديعوت العبرية يوم الثلاثاء 6/6/2023، وأن بعض هذه العصابات لها تحالفات مع عصابات تعمل في الوسط اليهودي.
وإن قراءة متفحصة توصل إلى أن قواسم مشتركة كثيرة تجمع بين عصابات الحشّاشين عاشت وترعرعت في كنف احتلال المشروع الصليبي وبين عصابات المجرمين عاشت وترعرعت في كنف حكومات المشروع الصهيوني، ويكفي أن نقرأ هذا النص الوارد في صفحة 123 من كتاب الأستاذ محمد خالد الناصر “الجهاد والتجديد في القرن السادس الهجري”، نقلًا عن كتاب الأستاذ يوسف إبراهيم الزاملي حيث يقول: “كان الاغتيال هو السلاح الوحيد الرهيب الذي استخدمه الباطنيون لتنفيذ أغراضهم والتخلص من خصومهم، وظلت حركة الحشاشين إسفينًا في قلب المجتمع الإسلامي ساهمت في تمزيقه ونشر الرعب في أرجائه مما ساهم في احتلال بلاده. كانت حركة الحشاشين مصدرًا للانحلال السياسي والاجتماعي طيلة عصر الحروب الصليبية، وأصبحت عصابة سرية فريدة من نوعها ومدربة على أساليب القتل المنظم، فذهب ضحية إجرام الباطنيين عدد كبير من قادة الجهاد الإسلامي وخيرة رجالها، ولم يسلم من بطشهم المخلصون في المجتمع الإسلامي”.
أكد المؤرخون أن عصابات الحشاشين وقادتهم أقاموا تحالفات وقاتلوا إلى جانب الصليبيين كما حصل في معركة “أنب” ضد قوات نور الدين زنكي حيث كان قائد عصابات الحشاشين “علي بن وقاء” يرافق قادة الفرنجة، وكذلك شاركوهم في معركة “أنطاكية” بعد أن فتح نور الدين مدينة حلب، وحيث قام قائد آخر من قادتهم المعروف بإسماعيل بتسليم قلعة بانياس للصليبيين وفرّ ومات بينهم.
وها هو الواقع يؤكد أن عصابات المجرمين تسرح وتمرح وتفعل الأفاعيل في داخل مجتمعنا وأسماء قادتهم معروفة، بينما شرطة إسرائيل لا تفعل شيئًا، لا بل إن ضبّاطًا كبارًا في شرطة إسرائيل قد صرحوا أنهم لا يستطيعون القيام بأعمال ضد هؤلاء، لأن قادة جهاز الشاباك يعارضون ذلك، أي أن هناك تنسيقًا وحماية من جهاز الشباك لرؤساء عصابات المجرمين في بلادنا. ومعروف أن جهاز الشاباك يتبع مباشرة لإدارة رئيس الحكومة وليس لأي وزير كان.
لم يثبت أن سلاح عصابات الحشاشين وقدراتهم العسكرية الرهيبة قد وُجهت إلى الأعداء الصليبيين، ولم يقع أي من هؤلاء أسيرًا ولا مقتولًا بأيديهم.
ومثلهم تمامًا فإنه سلاح عصابات المجرمين وقدراتهم الرهيبة موجهة فقط لأبناء شعبهم، وأنه ليس سلاح وطنية ولا دين وإنما هو سلاح فتنة وغدر، وأن هذا السلاح سيظل يتجول ويعربد دون حسيب ولا رقيب من قبل الشرطة الإسرائيلية ما دام يمزق مجتمعنا ويقتل أبناءهم.
إن زعماء عصابات الحشاشين كانوا يسكنون في قلاع وحصون منيعة منها نشر الرعب والخوف والقتل، ومنها قلعة بانياس ومصياف والقدموس، بينما يعمل من هم تحت إمرتهم بتنفيذ مخططاتهم.
وإن زعماء عصابات المجرمين في بلادنا فإنهم قد حوّلوا بيوتهم إلى قلاع حصينة بجدران منيعة وبشبكة كاميرات متطورة وحراسات شديدة، وإن بعضهم يمتلك سيارات مصفحة ضد الرصاص، وإن منهم من اختفوا عن الأنظار ونقلوا مراكز عصاباتهم إلى الخارج حيث تركيا والمغرب والإمارات ودول جنوب أمريكا، ومن هناك يصدرون أوامرهم لأتباعهم كما ورد في التقرير المفصل في صحيفة هآرتس العبرية يوم الثلاثاء 18/7/2023.
إن عصابات الحشاشين قد قتلوا الخلفاء والعلماء والقضاة والخطباء، وكانوا قد حاولوا قتل واغتيال صلاح الدين الأيوبي مرتين، حيث كانت المحاولة الأولى عام 1174 والثانية عام 1176 وكل ذلك قبيل تحرير القدس عام 1187. وقد مارسوا القتل والاغتيال أثناء صلاة الجمعة وفي شهر رمضان وفي داخل المساجد كما فعلوا مع الأمير “مودود” الذي قتلوه في ساحة المسجد الأموي وهو من هزم الصليبيين في أكثر من موقعة. وكذلك قتلوا من كان صائمًا ومن كان يدرّس في حلقة علم وغير ذلك.
وإن عصابات المجرمين، فإن إجرامهم تجاوز خصومهم في العصابات الأخرى، فكان من ضحاياهم أصفياء أتقياء محبون لدينهم وشعبهم ممن يُشهد لهم أنهم من أفاضل وكرام الناس، وأن إطلاق الرصاص وإشعال النار في سيارات آخرين من الخيّرين تؤكد انحراف سيرة ومسيرة عصابات المجرمين، وكيف لا وهم قد قتلوا شبابًا ليلة العيد وليلة القدر على أبواب المساجد.
كان شعار عصابات الحشاشين “كل أمر مباح”، فإنهم ومن أجل الوصول إلى أهدافهم وضحاياهم، فإنه لم يكن هناك خطوط حمراء وليس للحلال والحرام معنى في حياتهم، فقتلوا الحجاج في طريقهم إلى الحج، وقتلوا المصلين داخل المساجد، وقتلوا الصائمين في رمضان.
ومثلهم فإن عصابات المجرمين قد أوغلوا في الدم، فقتلوا الشقيق لأنهم فشلوا في قتل شقيقه، وقتلوا الأب لأنهم أرادوا أن يقتلوا ابنه ففشلوا، قتلوا الشاب مع زوجته ومع أطفاله، قتلوا الطبيب، قتلوا طالب المدرسة وطالب الجامعة، قتلوا من كانوا يشارك في عرس وفرح، وقتلوا من كان يشارك في جنازة ومأتم، شعارهم مثل عصابات الحشاشين “كل أمر مباح”.
بفعل جرائم عصابات الحشاشين وإثارتهم للرعب والخوف حيث كانوا ينشرون الرعب بين الناس بشتى السبل، وكانوا يقطعون الطرق ويعتدون على الآمنين فيذبحونهم ويستولون على أموالهم، فأصبح الناس لا يؤمنون على أنفسهم ولا على أولادهم، وبلغت جرائمهم أنهم كانوا يخطفون الناس من الحارات والشوارع، ونتيجة لهذا الوضع فقد أصبح الناس غير آمنين، فكأنهم غرباء عن بعضهم، فتقطعت الأرحام وتفككت الروابط وزادت الفرقة بين الناس.
وإن عصابات المجرمين التي لا يتورع أفرادها عن قتل أي شخص وسلب وابتزاز أمواله حيث يتم تهديده وفرض مبالغ مالية عليه وعلى مصلحته، وإلا فإن مصلحته ستُحرق وأن الرصاص سيطلق على بيته، فيضطر لدفع الأتاوات والخاوات، وإلا فإنه القتل بعد ذلك. وأصبح من عنده خصوم لأي سبب مع جاره أو ابن بلده أو خلاف مالي، فإنه يهدده بأنه سيسلم ملفه لإحدى عصابات الجريمة، بذلك يثير في الآخر الرعب والخوف، فزادت الفرقة بين الناس وتفككت الروابط.
بسبب بشاعة وقسوة جماعات الحشاشين ودمويتهم زاد الخوف والرعب بين الناس كما يقول الأستاذ محمد حامد الناصر في كتابه صفحة 152: “حتى صار كثير من العلماء والكتاب والخطباء لا يتحدثون عنهم إلا بالتلميح والتورية كي لا تنالهم أيدي الباطنية”.
وإن عصابات المجرمين وبفعل سطوتهم، فإن هناك من أصبح لا يتجرأ على انتقادهم والحديث عن جرائمهم وسوء أفعالهم، بل وصل الأمر إلى أنهم أطلقوا النار وأصابوا بجراح شبابًا خيرين لمجرد أنهم كتبوا ضد نهجهم المشبوه على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي. وإن آخرين حوسبوا وتم تهديدهم لمجرد وضعهم إشارات الإعجاب على منشورات تتحدث عن عصابات المجرمين والقتل والخاوة، وقتل أشخاص لمجرد أنهم ترحموا على قتيل ينتمي لمجموعة منافسة، وآخر لأنه شارك في جنازة، وثالث لأنه يعمل عند مستهدف لعصابة.
إنها شبهات تشبه الخيال أصبحت سببًا لقتل وإزهاق نفس حرم الله قتلها ليصدق قول النبي ﷺ: “والذي نفسي بيده ليأتين زمان على الناس لا يدري القاتل في أي شيء قَتل ولا المقتول في أي شيء قُتل”.
وماذا بعد؟
وأيا كانت الأجوبة والتحليلات، فإنني وأنا أعتقد، ويدلل على هذا الواقع أن لهذه العصابات ارتباطات مع أجهزة الأمن الإسرائيلية، وبالتالي فإنها تعمل لحسابها وتحت سياسة غض الطرف عن جرائمها وعدم ملاحقة المجرمين.
ولأن من يملك القوة والإرادة لتخليص المجتمع من هذا البلاء، فإنها ليست إلا الحكومة وأجهزتها، ولأن قادة حكومات إسرائيل ليس لديهم إرادة، لذلك فإن موجة الدم والدموع ستستمر.
لقد قال سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه: “إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن” أي أن سوط وسيف الحاكم يردع أكثر مما يردع القرآن إذا أخفت به بعض الناس. وإن التاريخ يحدثنا كيف أن جماعات وعصابات الحشاشين هذه قد تم مواجهتها بإرادة الخلفاء المسلمين حتى تم القضاء عليها ولكن بعد عشرات السنين بفعل تحالفها مع الصليبيين.
وإن أول نجاح لصلاح الدين الأيوبي وظهور قدراته القيادية والعسكرية كان عند توليه منصب رئاسة الشرطة في دمشق بتكليف من نور الدين محمود زنكي للقضاء على عصابات اللصوص والجريمة التي دبت الرعب بين أهل دمشق والشام، ففعل ذلك بنجاح وقضى على دابرهم، وأعاد الأمن والاستقرار إلى ربوع الشام وأمّن الناس على أنفسهم وأموالهم، حتى قال الشاعر عرقلة الدمشقي:
رويدكم يا لصوص الشام فإني لكم ناصح في المقال
وإياكم من سميّ النبي الكريم يوسف رب الحجا والجمال
فذاك يقطع أيدي النساء وهذا يقطع أيدي الرجال
لقد كان حقد عصابات الحشاشين عظيمًا على صلاح الدين الأيوبي فحاولوا قتله واغتياله مرتين، وفي إحداهما أصابوه بجراح في رأسه، لكنه استمر في قتالهم وقتال الصليبيين الذين تحالفوا معهم، وكذلك فعل قادة مسلمون آخرون.
وإذا كان سيف السلطان صلاح الدين قد سلّطه على عصابات الحشاشين، فإن سيف وسلطان حكومات إسرائيل مسلّط لحماية وغضّ الطرف عن عصابات المجرمين حيث تعبث وتمزق بنسيج مجتمعنا وأهلنا في الداخل الفلسطيني، وسيظلّ شعبنا الخيّر الأصيل وسيظلّ أبناؤه الأخيار متمسكين بهويتهم الدينية والوطنية بها يواجهون مشاريع حكومات إسرائيل، وبها يواجهون مشاريع الفتنة وتمزيق المجتمع عبر أدوات عصابات الجريمة وابتزاز الأموال ونشر المخدرات. نعم سنظل صامدين مرابطين أقوياء ببركة المسجد الأقصى ونفحاته حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا، وحتى يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده. يسألونك متى هو قل عسى أن يكون قريبًا.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.