انتظرت رشدي 34 عاما: الموت يُغيّب أم الأسرى من باقة الغربية
محمد محسن وتد | عرب 48
عدت إلى منزل الحاجة رسمية أبو مخ (85 عاما) والدة الأسير رشدي أبو مخ (56 عاما) في باقة الغربية، وقد غيبها الموت هذا الأسبوع بعد 34 عاما من الانتظار بين الأمل والحلم التي رافقت عقود من المعاناة، عاشت من أجل تلك اللحظة على أمل أن تعانق الحرية باحتضان نجلها الأسير والاحتفال بزفافه.
رحلت الحاجة رسمية التي أعياها المرض، حيث كانت في الأيام الأخيرة على فراش الموت ولسان حالها يقول: “أين رشدي؟، ولماذا لم يأت؟ بدي أزوجه وأحتفل بزفافه.. قبل ما أموت”، هي كلمات وأمنيات ووصية المرحومة إلى أولادها التسعة بأن يحتفلوا بزفاف أخيهم فور الإفراج عنه من الأسر الإسرائيلي.
رغم الألم وحسرة الفراق الذي تعيشه العائلة على وفاة الوالدة، لكن يتشبث أفراد العائلة بالأمل وحلم الحرية لرشدي، ويتحضرون للعمل بوصية الوالدة والجدة بالبقاء على إرثها ومسيرتها في مواصلة دعم قضية الأسرى والتجهز للاحتفال بزفاف شقيقهم رشدي الذي من المتوقع أن يعانق الحرية في آذار/مارس 2021.
وتجسد قصة الأسير رشدي مشاهد الحركة الأسيرة التي تعيشها باقة الغربية منذ العام 1986، وتحمل في ثناياها وفصولها معاناة 4 عائلات من البلدة رفاق ورفيقات الدرب بالأسر ومعركة الحرية التي خاضتها الحاجة رسمية إلى جانب الحاجة عائشة بيادسة (95 عاما) والدة الأسير إبراهيم التي غيبها الموت في نهاية عام 2015، والحاجة فريدة دقة والدة الأسير وليد.
أسرى باقة الغربية
اعتقلت السلطات الإسرائيلية كلا من الأسيرين إبراهيم أبو مخ ورشدي أبو مخ وهم أبناء عمومة بتاريخ 24.3.1986، فيما قامت باعتقال الأسير وليد دقة (59 عاما)، في الخامس والعشرين من شهر آذار/ مارس، أما الأسير إبراهيم بيادسة (58 عاما) فقد تم اعتقاله في الثامن والعشرين من الشهر نفسه.
ويعتبر هؤلاء الأسرى الذين أدانتهم إسرائيل بـ”العضوية في خلية نفذت عملية خطف وقتل الجندي الإسرائيلي موشيه تمام في العام 1985″ من قدامى الأسرى الفلسطينيين الذين تم اعتقالهم قبل “اتفاقية أوسلو”، وهم من أسرى الدفعة الرابعة الذين كان من المفترض أن تفرج إسرائيل عنهم عقب التفاهمات التي تمت بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي بوساطة أميركية، إلا أن السلطات الإسرائيلية تنصلت من ذلك، ولم تقم بالإفراج عنهم.
في حضرة الموت مسيرة نضال
في حضرة الموت يستذكر أفراد عائلة الأسير رشدي في سردهم، الوالدة والجدة التي كانت تتحضر في آذار/ مارس 1986 للاحتفال بخطوبة نجلها رشدي، حيث اعتقل قبل 10 أيام من حفل الخطوبة، لتعيش الوالدة رسمية محطات من المعاناة تحولت لفصول من الحرمان.
حملت الحاجة رسمية التي لقبت بـ”أم الأسرى”، همّ أولادها وأحفادها. ومن عمق المعاناة رفعت راية الحركة الأسيرة في ساحات النضال في كافة مناطق الوطن وقبالة السجون والمعتقلات، كغيرها من أمهات الأسرى اللواتي كن لعقود البوصلة في مسيرة الحرية والتحرر، لكنها حرمت من أن تعانق الحرية وتحتضن نجلها.
رددت الحاجة رسمية اسم نجلها الأسير رشدي كثيرا وهي تحتضر، للحظات كانت تدخل في غيبوبة وما كانت تعي أن نجلها أسيرا، اختلطت عليها الأمور، وأعياها المرض ونال من جسدها، لكنه ما نال من روحها وعزيمتها لتحقيق حرية رشدي.
كانت وما زالت تتذكر فعاليات يوم الأسير الذي احتضنته في ساحة منزلها في العام 2016، وذلك احتفالا بعيد ميلاد رشدي الـ54 الذي تزامن مع يوم الأسير، كما يقول نجلها زكي أبو مخ الذي يتحضر لزيارة شقيقه رشدي المتواجد للعام الثالث في سجن النقب الصحراوي “كتسيعوت”، وذلك بعد أن بلغ رشدي بوفاة والدته، حيث أقام لها الأسرى بالمعتقل بيت عزاء لإسناد رفيق دربهم.
مشاهد من وراء القضبان
عن المرة الأخيرة التي زارت الوالدة نجلها الأسير يقول زكي: “كان ذلك قبل نحو 3 سنوات، حيث كان شقيقي رشدي محتجزا في سجن الجلبوع، رافقت والدتي وكانت على كرسي متحرك وقد التقت رشدي من خلاف جدار زجاجي لمدة نصف ساعة، ودعته على أمل أن تحتضنه قريبا، لكن بعد ذلك نقل لسجن النقب الصحراوي وبسبب البعد الجغرافي والحالة الصحية والأمراض التي نالت من والدتي ما كان بمقدورها أن تتحمل أعباء السفر لزيارة رشدي”.
يستذكر النجل الأوسط للأسير رشدي مشاهد لدقائق قبل 25 عاما، حين سمحت سلطات السجون الإسرائيلية لوالدته باحتضان رشدي وضمه إلى صدرها، وتأطر ذلك بصورة تذكارية من وراء القضبان، حلمت الحاجة كما أفراد العائلة التي تتحول إلى حقيقة وواقع، قائلا: “لقاء والدتي برشدي لم يستمر أكثر من 5 دقائق، وأنا شخصيا كنت مرافقا لها ومنعت من الانضمام إليهما وقد شاهدتهما من وراء جدار المشبك الحديدي”.
في أيار/ مايو المقبل، سيكون زكي على موعد لزيارته شقيقه الأسير رشدي في سجن النقب الصحراوي، زكي الذي كان مرافقا لوالدته في مسيرة النضال ودعم الأسرى سيكون عاجزا أن يقف قباله شقيقه الأسير من وراء الجدار الزجاجي وهو ينعى رحيل الوالدة، لكن كما يقول سيلتقي شقيقه متسلحا بالإرادة الصلبة والمعنويات والقيم التي غرستها لديهم والدته.
لم تسمح السلطات الإسرائيلية للأسير رشدي أبو مخ الذي من المتوقع أن يعانق الحرية بتاريخ 23-3-2021، المشاركة في جنازة والدته أو حضور بيت العزاء، وخلال سنوات الأسر الأولى فقد والده، كما أنه بالعام 2007 فقد شقيقه الذي توفي بحادث عمل، حيث سمح له الخروج لنصف ساعة للمشاركة بالجنازة.
يقول شقيقه الأكبر محمود حمدان أبو مخ: “لربما هذه أصعب اللحظات التي تعيشها عائلات الأسرى، فالموت هو نهاية الحياة والحرمان إلى الأبد، فمهما كانت قسوة العقوبة والمعاناة اليومية للأسير وعائلته، إلا أن لحظات موت أحد أفراد العائلة دون مشاركة الأسير، هي مشاعر لا يمكن وصفها بالكلمات”.
عندما اعتقل رشدي أو صالح كما كانت تحب أن تناديه والدته يستذكر الشقيق البكر: “كنا نتجهز للاحتفال بخطوبته، واعتقل قبل الاحتفالات بعدة أيام، واعتقدنا للوهلة الأولى أنها أيام ولربما أشهر وسيطلق سراحه ونحتفل بزفافه، لكن اللحظات تحولت إلى 34 عاما من المعاناة والحرمان، وعلى الرغم من ذلك سنعمل بوصية والدتي، فمنزل رشدي بانتظار تحرره، حيث سنحتفل بزفافه لتستمر الحياة”.
في الفرح غصة وفي الموت صمت
وأوضح أن الكثير من الأسرى من الداخل، وخاصة القدامى والبالغ تعدادهم 20 أسيرا، فقدوا أمهاتهم أو آباءهم أو أحد أشقائهم وأقربائهم وهم داخل السجون الإسرائيلية، وبعضهم فقد الوالدين وبعض الأشقاء والأقارب خلال سنوات الأسر الطويلة، دون أن يسمح لأي من الأسرى أن يلقي النظرة الأخيرة على من يحتضر أو أن يقبل قبلة الوداع الأخيرة من رحل إلى الأبد، وهذه عقوبة للأسير ولجميع أفراد عائلته، ولعلها أصعب من المكوث حتى بالعزل أو الزنازين.
في الأفراح والمناسبات السعيدة يقول محمود: “كما سائر عائلات الأسرى نستذكر أولادنا وإخواننا بالسجون، فرحتنا لا تكتمل وتبقى منقوصة بدونهم… نفرح وما زالت في القلب غصة لنستمر بالحياة، لكننا في الموت نفتقدهم وكأنهم في عالم آخر لا نعرف عنه شيئا”.