مقالة الشيخ كمال خطيب: “دعوة للثبات: لا تبرحوا أماكنكم”
الشيخ كمال خطيب
إنها العبارة وإنها الصيحة والنداء الذي ما يزال يرنّ في أذن الزمان قالها النبي ﷺ للرماة على جبل أحد يوصيهم بضرورة الحفاظ على مواقعهم والثبات فيها: “لا تبرحوا أماكنكم وإن رأيتمونا تخطفنا الطير حتى أرسل لكم، لا تبرحوا أماكنكم وإن رأيتمونا هزمنا القوم حتى أرسل لكم”. فكانت مخالفتهم للنبي ﷺ فتركوا أماكنهم ونزلوا عن الجبل قبل أن يرسل إليهم ﷺ فانقلب النصر إلى هزيمة.
ولعظيم تلك الوصية ولفداحة خسارة تركها ومخالفتها، فقد عزم السائرون في قافلة الدعوة المباركة ومن كان دومًا شعارهم “الله غايتنا والرسول قدوتنا” أن يتذكروا ويعملوا بوصية محمد ﷺ، فلا يبرحوا أماكنهم ولا ينكصوا على أعقابهم وهم يعاهدون رسول الله على وصيته، ويقولون:
سنظلّ في جبل الرماة وخلفنا صوت النبي يهزنا لا تبرحوا.
وعلى هدي وصية رسول الله ﷺ، وعلى وقع صيحته وندائه فإننا نوصي ونتواصى.
أيها القابضون على جمر الثوابت لا تبرحوا أماكنكم
في هذا الزمان الأغبر والصعب الذي نعيشه وفي زمن غربة الإسلام حتى بين أبنائه، وفي زمن تكالب الأعداء وتطاول السفهاء وخيانة الزعماء وضلالة العلماء. في الزمن الذي يريد البعض لنا أن نقبع في خانة اليأس والإحباط وأن الإسلام قد مات وشُيّع إلى مثواه الأخير، فما أحوجنا لهذه الوصية وذلك النداء بأن نثبت على ديننا ونهجنا ودعوتنا فلا نبرح أماكننا ولا نساوم على ثوابتنا ونقبض على جمرها.
فلا تبرحوا أماكنكم أيها القابضون على الجمر وأنتم الذين أخبر رسول الله ﷺ وتحدّث عنكم لما قال: “فإن من ورائكم أيامًا الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلًا يعملون مثل عملكم”. وفي رواية: “قيل يا رسول الله أجر خمسين منا أو منهم؟ قال: بل أجر خمسين منكم”. إنه فضل الثبات والقبض على جمر التمسك بالدين، رغم الأهوال والصعاب التي تحدث عنها الأثر، أن الصحابة الكرام كانوا يجدون على الخير ونصرة الحق أعوانًا بينما أنتم أيها القابضون على الجمر لا تجدون، فاثبتوا ولا تبرحوا أماكنكم وإياكم والوحشة لطول الطريق، وقلة السالكين وكثرة المتآمرين والمتخاذلين. فإذا فترت العزيمة ووجد شياطين الإنس منفذًا لتثبيطكم وزعزعة إيمانكم ويقينكم وتشكيككم بطريقكم، ولو قالوا عنكم متطرفين ورجعيين وظلاميين، واستشعروا رسول الله ﷺ يناديكم ويقول: أيها القابضون على جمر الثوابت لا تبرحوا أماكنكم واصبروا حتى تلقوني على الحوض.
أيها الثابتون في الأقصى لا تبرحوا أماكنكم
أنتم يا من شرّفكم الله تعالى من بين كل المسلمين وكل العرب وكل الفلسطينيين، أن جعلكم الأقرب إلى المسجد الأقصى المبارك. يا من تنالون شرف الصلاة فيه والرباط فيه وتغبير جباهكم من ترابه، وكانت تلك أمنية الرجل الصالح بشر الحافي وهو يقول: ما بقي عندي من لذات الدنيا إلا أن أستلقي على جنبي تحت السماء بجامع بيت المقدس، وقيل له: لمَ يفرح الصالحون ببيت المقدس؟ فقال: لأنها تذهب الهمّ ولا تستعلي النفس بها”. وقد قال في ذلك رسول الله ﷺ: “وليوشكن لأن يكون للرجل مثل شطن فرسه من الأرض حيث يرى منه بيت المقدس خير له من الدنيا جميعًا”.
أيها الثابتون في الأقصى لا تبرحوا أماكنكم ولو كنتم قلة بين الناس ولو خذلكم العرب والمسلمون، ولو ضربكم وأبعدكم ومنعكم من الوصول إليه المحتلون . فقد تحدث عن أخباركم وفضلكم وعظيم قدركم رسول الله ﷺ لما قال: “لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين على من ناوأهم وهم كإلاناء بين الأكلة حتى يأتي أمر الله وهم كذلك. قلنا: يا رسول الله وأين هم؟ قال بأكناف بيت المقدس”. وفي الرواية الأخرى: “لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك”.
فلا تبرحوا أماكنكم أيها الثابتون في الأقصى ومن تشدون الرحال إليه. وإذا كان رسول الله ﷺ قد أوصى الرماة ألّا يبرحوا أماكنهم في أحد، فإننا نوصيكم ألا تبرحوا أماكنكم في الأقصى، وليظلّ عهدكم مع الله ومع رسول الله ﷺ أن تقولوا:
سنظلّ في جبل الرماة وخلفنا صوت النبي يهزنا لا تبرحوا
سنظل في الأقصى الشريف وخلفنا صوت النبي يهزّنا أن رابطوا
وإذا تجرأ المنافقون والمهزومون والمتساقطون والمطبعون وشككوا في مواقفكم، وإذا طعنوكم في الظهر طعنات الغدر والتآمر، وإذا تمادى بعض العرب والمسلمين بزعم وجود حق لغير المسلمين بالصلاة في المسجد الأقصى كما زعم أصحاب الدين الإبراهيمي الجديد من زعماء وحكام الإمارات والسعودية، فلا يَفُتّن هذا من عزيمتكم. فإذا فعلوا هذا وأكثر منه فاعلموا أن الوقوف إلى جانب المسجد الأقصى والتأكيد على وحدانية حق المسلمين فيه شرف لا يستحقه هؤلاء، فاثبتوا أيها القابضون على جمر الرباط في الأقصى واستشعروا رسول الله ﷺ يناديكم ويوصيكم لا تبرحوا أماكنكم، واصبروا حتى تلقوني على الحوض.
أيها القابضون على جمر الأصالة لا تبرحوا أماكنكم
لأنهم أعداؤنا عرفوا أن سرّ قوتنا هو بالتمسك بديننا والعمل بتعاليم قرآننا والسير على هدي رسولنا ﷺ، فإنهم قد مكروا مكر الليل والنهار لحرف بوصلتنا وتمييع أصالتنا وتشويه هويتنا. ولأن هناك حالة اجتماعية تمرّ بها الشعوب الضعيفة والمهزومة عسكريًا حينما تصبح عندها القابلية لتلقي كل شيء من العدو الذي انتصر عليها واحتل أرضها لأنها تعيش بشعور الدونية وبتفوق المنتصر عليها، وهي ما سماها المفكر الجزائري مالك بن نبي “قابلية الاستعمار”.
إن قابلية الاستعمار ليس فقط الإعجاب والتقليد للمستعمر في مصطلحات لغته ولباسه لتصبح الماركات الأجنبية هي غاية المنى، وليصبح الطعام والشراب والكوكاكولا والبيبسي والهمبرجر هو الطعام الأشهى، بل إن هذه القابلية للاستعمار لتنفذ إلى الطباع والأخلاق والفكر وحتى المعتقد.
ومثل تحذير مالك بن نبي رحمه الله من قابلية الاستعمار، فإنه تحذير سيد قطب رحمه الله مما أسماه “الإسلام الأمريكاني” الإسلام الذي لا يهمه إلا الانشغال بأحكام الحيض والنفاس والجنائز.
أما الإسلام الذي يأخذ على يد الظالم، والإسلام الذي لا يقبل الذلة ولا الدونية، والإسلام الذي يربي أبناءه على العزة والشموخ، فإنه الإسلام الذي يحاربه الأمريكان وحلفاؤهم وعملاؤهم.
إنها أمريكا وعبر زعانفها وأذنابها فإنها عمدت على التدخل في مناهج التعليم في الدول العربية والإسلامية حيث تم صياغة مناهج التعليم ليتلاءم مع ذلك الإسلام الأمريكاني المائع والمشوه والممسوخ. وليس أنه الإسلام الأمريكاني فحسب، بل إنه الإسلام الإسرائيلي الذي سعت حكومات إسرائيل لإيجاده وصناعته وصياغته. هذا الإسلام الذي وقع في فخّه وشراكه سياسيون ومشايخ، وقد نُشر في الآونة الأخيرة عن مشاريع لدورات لتحفيظ القرآن تشرف عليها وتمولها دائرة أو طوائف غير الإسلامية في وزارة الأديان الإسرائيلية، حيث الهدف منها كما قالوا تخريج جيل معتدل، وكأن من يحفظون القرآن في مساجدهم جيل متطرف حسب زعمهم. إن وصف الجيل بالمعتدل هي الكلمة اللطيفة والتعريف الناعم للإسلام الإسرائيلي الذي يريده هؤلاء، إنه الإسلام الأمريكاني والإسرائيلي الذي أصبح يتعبد فيه آل سعود وآل زايد وغيرهم من أنظمة الظلم والفساد، وهو الإسلام الذي نكفر به ولا ندين به.
فيا أيها القابضون على جمر الأصالة لا يغرّنكم البريق والبهرج، فليس كل ما يلمع ذَهبًا. تمسّكوا بدينكم وعضّوا عليه بالنواجذ، واكفروا بكل ما سواه، ولا تبرحوا أماكنكم، واستشعروا رسول الله ﷺ يقول لكم اصبروا حتى تلقوني على الحوض.
أيتها القابضات على جمر الحجاب والعفاف
من يوم أن أنزل الله تعالى في قرآنه آيات تلزم المسلمة بالخمار والجلباب {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ…} آية 30 سورة النور. {يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ قُل لِّأَزْوَٰجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ ٱلْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَٰبِيبِهِنَّ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰٓ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} آية 58 سورة الأحزاب.
ومن يومها فإنه الحجاب والجلباب الذي لبسته بنات محمد وزوجات محمد ﷺ، ولبسته نساء المسلمين على مدار التاريخ، بل لبسته قبل ذلك مريم العذراء أم المسيح وكل صاحبة فضل. إنه الحجاب رمز الطهر والعفاف وعنوان الفضيلة وهو الذي يؤدي وظيفته في الستر والاحتشام ولا يتعارض مع الأناقة التي تحب المرأة أن تظهر بها.
لكننا وفي أيامنا هذه وقد ابتدأ ذلك منذ سنوات حين ظهر ما يسمى “حجاب الموضة” أو “الحجاب العصري”، وأنا أسميه “الحجاب المتبرج” الذي ليس له من الحجاب إلا اسمه. فأي حجاب هذا الذي يغطي شعر الرأس فقط بينما تلبس صاحبته البناطيل الضيقة جدًا؟ وأي حجاب هذا الذي يغطي الجسد، ولكنه مصحوب بكل وسائل الزينة والمكياج؟
فكما أن هناك حجاب الموضة فإن هناك موضة لبس ممثلات أو من يسمين فنانات الحجاب ثم يخلعنه. فيا أيتها القابضة على جمر الحجاب، إياك وهؤلاء وإياك ومصطلح الحجاب العصري أو حجاب الموضة، وتذكّري أن الحجاب هو أمر رباني وسلوك لأصحاب الفطرة السليمة. فإياك والبريق واللمعان، فاثبتي واعتزي بحجابك وجلبابك الشرعي ولا تبرحيه، وليقولوا عنك ما يقولون. فأنت الأصل وهم الزيف، وأنت الفطرة وهم التشوّه، ونادي وبعالي الصوت:
بيد العفاف أصون عزّ حجابي وبهمتي أسمو على أترابي
ما راعني أدبي وحسن تعليمي إلا بكوني زهرة الألباب
فيا أيتها القابضات على جمر الحجاب والعفاف اصبرن واثبتن، وإياكن عواصف الزيف أن تزحزحكن، وإياكن ونعيق غربان التغريب أن يستهويكن، ولا تبرحن أماكنكن لتحفظن بوصلة الأجيال وصفاء انتمائها، واصبرن حتى تلقين رسول الله ﷺ على الحوض ومعه خديجة وعائشة وفاطمة وزينب ورقية وأم كلثوم ومريم أم المسيح وآسيا زوج فرعون وكل قافلة الخير والفضيلة والعفاف.
ما أتفه من أهل الباطل إلا…
في غمرة هذا الصراع المحتدم بين الحق وبين الباطل، بين الخير وبين الشرّ، بين النور وبين الظلام، بين الفطرة وبين انتكاستها، بين الإسلام وبين أعدائه، حيث ظهرت مظاهر هذا الصراع بين المعسكرين، فإن المطلوب والواجب أن ينحاز المسلم إلى فريقه ومعسكره بكل وضوح وبلا تلعثم ولا تردد.
وإذا كان أعداؤنا ومعسكر الباطل لا يترددون بالحديث عن نياتهم ومخططاتهم للقضاء على هذا الدين واستئصال هذه الأمة وقد نزعوا عن وجوههم الأقنعة ومن أيديهم قفازات الحرير التي اعتادوا الظهور بها، فإنه يصبح من العار أو العيب والإثم إزاء ذلك منهم ألا يكون الالتحام والانتماء والانصهار منا في معسكر الإسلام.
وما أجمل ما قاله الأستاذ أدهم شرقاوي في كتابه -رسائل من النبي ﷺ: “ليس هناك أتفه من أهل الباطل إلا أولئك الذين يقفون على الحياد في الصراع بين الحق والباطل”.
إن الحياد في الصراع بين الحق والباطل، وبين الإسلام وكارهيه ليس له تفسير إلا الأنانية وقلة الإنتماء وتشوّه الهوية. إن الوقوف في الوسط أو في المنطقة الرمادية ليس دليل ذكاء ولا واقعية ولا قراءة ثاقبة بقدر ما أنه عمى قلب وجهل وجبن وتلون ونفاق وانحراف بوصلة.
وإذا كان شعار البعض أنه يريد العيش في عالم وبيئة ليس له فيها عداوات، فمعنى ذلك أن هذا الشخص ليس له مبادئ، فمن ليس له مبادئ ولا ثوابت هو فقط ليس له عداوات، وحاشى المسلم أن يعيش بلا مبادئ ولا ثوابت ولا عقيدة، فيكون مثل تلك المخلوقات اللافقارية يزحف على بطنه.
إنه لا حياد في هذا الصراع بين الإسلام وبين أعدائه، وإنما الواجب هو الوضوح في الانحياز وبلا تردد ولا تلعثم للإسلام والمسلمين ولقضاياهم. فهيا يا أبناء الإسلام خذوا أماكنكم ولا تبرحوها ودوروا مع الإسلام حيث دار، وكونوا على يقين أن الجولة لنا وأن المستقبل لديننا ولأمتنا، وأننا إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.