الأخبار الرئيسيةمحطات فكرية

مقالة الشيخ كمال خطيب: “مجزرة غزة بين محرقة رابعة وحريق الأقصى”

الشيخ كمال خطيب

أكثر من عشرة أشهر مرّت على الحرب المجنونة والمجزرة الدموية التي يرتكبها جيش إسرائيل بأوامر من نتنياهو وحكومته بحق أهلنا وأبناء شعبنا في قطاع غزة. هذه المجزرة التي كان حصادها أكثر من أربعين ألف شهيد وعشرة آلاف مفقود تحت الأنقاض وأكثر من مائة ألف جريح، وأكثر من مليوني نازح ومشرّد ومهجّر.

هذه المجزرة التي فضح لهيب نارها وأشلاء أطفالها وقهر رجالها ودموع أيتامها كل أدعياء الإنسانية الغربية وعدالتها المزيفة، وكشف اللثام وأسقط الأقنعة عن الوجوه الكالحة للأنظمة العربية التي لم تتردد أبواقها الإعلامية بالشماتة بأهل غزة، وعرّى إلى حد الفضيحة فلسطينيين قدّسوا التنسيق الأمني مع الاحتلال على حساب رابطة الوطن واللغة والدين.

ها هي مجزرة غزة ونزيفها الدامي تقع وتستمر بين اثنتين من الذكريات الحزينة والدامية. أما الأولى فإنها ذكرى محرقة رابعة والتي مرت ذكراها يوم الأربعاء الأخير 14/8/2013، وأما الثانية فإنها ذكرى حريق المسجد الأقصى المبارك التي ستمر ذكراها يوم الأربعاء القريب 21/8/1996.

محرقة رابعة
لئن كنا شاهدنا ونشاهد كل يوم الحرائق التي تشتعل في مخيمات النازحين والمشرّدين من أهلنا في غزة بفعل قصف طائرات الاحتلال الإسرائيلي، حيث نتج عن ذلك الأجساد المتفحمة والمشوهة بفعل النيران، فإن مثل هذه المشاهد وأبشع منها قد شاهدناها يوم 14/8/2013 اليوم الذي قرر فيه الانقلابي الدموي عبد الفتاح السيسي وبعد أن اغتصب الحكم وغدر بالرئيس الشهيد محمد مرسي واختطفه، ليقرر في ذلك اليوم أن ينهي الاعتصام المدني الذي كان في ميدان رابعة وسط القاهرة.

محرقه رابعة التي استخدمت فيها الطائرات المروحية لإطلاق النار على المدنيين المعتصمين، وسلاح القناصين الذين اعتلوا العمارات المجاورة، ووحدات الجيش التي اقتحمت الميدان وأشعلت النيران بالخيام التي أتت على من لم يستطع الفرار والنجاة بنفسه.

وليس أنهم بعد جريمتهم تلك قد أشبعوا غريزة الوحوش في أنفسهم، وإنما هم الذين اقتحموا المسجد الذي نُقل إليه الجرحى والمصابون وأشعلوا فيه النيران ليكتمل ذلك المشهد والفصل الأسود واليوم الدموي، وليكون محصلة ذلك مئات الشهداء من الشيوخ والنساء والأطفال من العلماء والسياسيين ومن عامة الناس ممن كان ذنبهم أنهم قالوا لا للانقلاب العسكري وطالبوا بعودة الشرعية ممثلة بالرئيس الشرعي المنتخب محمد مرسي الذي اختاره الشعب المصري في انتخابات قال عنها المجتمع الدولي المنافق أنها ديمقراطية الصندوق.

ولم يخف حكام إسرائيل وحاخاماتها فرحتهم ونشوتهم بانقلاب السيسي ومجزرته، وهم الذين اعتبروه أنه هدية الله لإسرائيل، واستمرار لمعجزات وكرامات بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر على يد نبي الله موسى عليه السلام.

إن السيسي الذي ارتكب محرقة رابعة كان شريكًا وما يزال في مجزرة غزة المستمرة منذ الثامن من أكتوبر 2023 وحتى هذه اللحظة. إنه السيسي الذي سبق وافتخر بهدم مئات المنازل في رفح المصرية الملاصقة لحدود رفح الفلسطينية لوجود أنفاق تصل بين الجانبين في تلك المنازل، وهو الذي افتخر بأنه قام وجيشه المغوار بهدم وتدمير 1500 نفق بين قطاع غزة وبين الأرض المصرية كان أهل غزة يستعملونها خلال الحصار الإسرائيلي الظالم والمفروض عليهم منذ العام 2007 لإيصال الطعام والدواء.

إنه السيسي وخلال مجزرة غزة المستمرة، فإنه هو من أغلق معبر رفح ولم يسمح إلا بالشاحنات التي يسمح الاحتلال الإسرائيلي بها رغم أن السيادة على المعبر هي مصرية خالصة، ولقد فضحته صحيفة هآرتس العبرية في تقريرها يوم 29/3/2024 وقد أشارت إلى وجود ثمانية آلاف مريض في غزة يومها يحتاجون بشكل ضروري وفوري للسفر عبر المعبر للعلاج، لكن الجانب المصري لا يسمح بالعبور إلا لثلاثين مريضًا في اليوم الواحد، وهو ما تقرره إسرائيل ومن توافق عليهم من الأسماء، الأمر الذي يفضح عمالة وعبودية السيسي وجيشه للاحتلال الإسرائيلي.

لقد صدع رؤوسنا هذا الحقير وبعد دمار غزة وخان يونس من أن رفح خط أحمر ولن يسمح بأي عملية عسكرية إسرائيلية فيها لأن ذلك يمس بالأمن القومي المصري، ولقد شاهدنا كيف أنه انخرس ولوى ذيله كما يفعل الكلب المهزوم، وها هي إسرائيل منذ أشهر تدمّر رفح ومخيماتها بينما جنوده يتمترسون خلف الأسلاك الشائكة التي نصبها لمنع لجوء الغزيين إلى مصر خوفًا من قصف طائرات إسرائيل.

وعليه فإننا لا نتردد بالقول أن الذي ارتكب محرقة رابعة فهل سيهزّه ويستفزّه مجزرة غزة؟ أم أن الحقيقة تصرخ بأعلى صوتها أن محرقة رابعة والانقلاب على الرئيس الشهيد محمد مرسي ما كانت إلا تمهيدًا لمجزرة غزة وعقابًا للرئيس محمد مرسي وموقفه المشرف اتجاه أهل غزة في الحرب الدموية التي كانت عليهم في العام 2012، وصلت إلى حد أن يقوم بإرسال رئيس حكومته يومها هشام قنديل وعدد من الوزراء إلى غزة في أوج الحرب المجنونة عليها وإلزام إسرائيل يومها بوقف تلك الحرب؟ رحم الله الرئيس محمد مرسي، وأخزى الله الانقلابي السيسي.

حريق الأقصى
فإذا كانت ذكرى محرقة رابعة قد مرّت يوم الأربعاء الأخير 14/8 في العام 2013 فإن يوم الأربعاء القريب 21/8 سيكون يوم ذكرى حريق المسجد الأقصى المبارك في العام 1969. إنه اليوم الأسود كسواد الدخان الذي انبعث من منبر المسجد الأقصى الذي أتت عليه نار الحقد أشعلها فيه اليهودي الاسترالي دينيس روهان.

إنه المسجد الأقصى قد استغاث يطلب النجدة لإطفاء النار اشتعلت فيه، فليس أنه لم يجد صلاح الدين يلبي نداءه، وإنما وجد أصحاب جلالة وفخامة قد اسودت قلوبهم حقدًا على الإسلام قد استبدلوه بقوميتهم العربية المهزوزة والتي لم يمضِ سوى عامين اثنين على ذلّها وعارها وخيبتها ونكستها وهزيمتها يوم ٥/ حزيران/ 1967، حين هُزمت جيوش القومية العربية مصر وسوريا والأردن أمام جيش إسرائيل في بضع سنوات وقد احتلت إسرائيل سيناء والجولان والضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشريف، وهم الذين أشبعونا شعارات وجعجعة لم تكن إلا صدى لأصوات الدجل والكذب والإدعاءات غير الصادقة عن حب القدس والمسجد الأقصى.

وكل يدعي بالقدس وصلًا ويسقط في الطريق الأدعياء
مضت سبعون والأقصى أسير وما نفع النباح ولا العواء
لقد صلّى على النجدات قلبي كما صلّت هناك الأنبياء

لقد فضحت الوثائق البريطانية الأنظمة العربية وفق الدراسة التي أعدّها الأستاذ الدكتور محسن محمد صالح والتي صدرت في العام 2020 عن مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات في بيروت، والتي كانت بعنوان: “إحراق المسجد الأقصى 1969 وتأثيره على العالم الإسلامي كما تناولته الوثائق البريطانية”.

فليس أن الأنظمة العربية التي تلطخت بعار الهزيمة والنكسة وإنما هي التي فشلت في عقد مؤتمر قمة عربي عاجل لبحث الموقف من حريق المسجد الأقصى المبارك، حيث عقدت قمة مصغرة من خمس دول عربية بعد عشرة أيام من حريق الأقصى، ثم عقدت قمة إسلامية في الرباط بعد شهر من حريق الأقصى في 22/9/1969. وبعدها وفق دراسة الدكتور محسن صالح فقد عقدت قمة أخرى في آذار 1970 لإنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي، هذه القمه التي قاطعها العراق بينما تغيّب جمال عبد الناصر الذي أرسل أنور السادات نيابة عنه: “قلل المصريون من أهمية نتائج القمة وادّعت صحيفة الأهرام أن المؤتمر بدأ دون جدول أعمال وانتهى دون قرارات، كما ذكرت أن الوفد المصري قطع الطريق على إضافة فقرة تنص على أن هدف القمة كان تأسيس تحالف إسلامي شكك كل من العراق ومصر في الأهداف النهائية للقمة، وتردد في التأكيد على البعد الإسلامي للصراع مع إسرائيل على حساب القومية العربية”.

وليس أن أدعياء القومية العربية قد رفضوا إعطاء الصبغة الدينية على الصراع مع إسرائيل وإن كان ذلك قد ظهر جليًا بإحراق المسجد الأقصى المبارك قبلة المسلمين الأولى، وليس هذا وحسب، وإنما لم تقم الدول العربية والإسلامية بالمطالبة بأخذ جلسة عاجلة لمجلس الأمن حتى 29/8/1969، ولم تبدأ المناقشات إلا يوم 9/9/1969. يقول الدكتور محسن الصالح في دراسته العلمية القيّمة عن طبيعة أداء الأنظمة العربية في قضية كهذه: “فالأردن الذي كان يعدّ القدس والضفة الغربية أرضًا أردنية محتلة بالكاد كان الأمر بالنسبة لهم مسألة ملحة خصوصًا وأن الممثل الأردني الدائم في الأمم المتحدة محمد الفرّا كان في إجازة ولم يعد إلى نيويورك إلا في 2/أيلول/ 1969، وفي الوقت نفسه كانت هناك دلائل على وجود ضغوط أمريكية وبريطانية غير معلنة على الدول الإسلامية لمنع حصول اجتماع لمجلس الأمن”.

يقول الدكتور محمد محسن الصالح في صفحة 31 من دراسته: “ولاحظت مذكرة الوفد البريطاني في الأمم المتحدة المرفوعة إلى وزارة الخارجية بشيء من السخرية أنه على الرغم من أن العرب المتشددين سيشعرون بالسعادة لاستحصالهم على قرار آخر حول القدس لإضافته إلى القرارات التي جمعوها، إلا أن محصلة جهودهم كانت غير مكتملة وصياغة مشروع القرار كانت ضعيفة لدرجة أنه كان على مقدمي المشروع أن يشرحوا أنهم لم يكونوا يعنون حقًا ما ورد فيه”.

ولقد صدق في وصف هؤلاء وموقفهم من القدس والأقصى وحريقه ما قاله الشاعر:

فضّوا بكارتها داسوا كرامتها وهام في مقلتيها البؤس والعدم
جزّوا ضفائرها هدوا منابرها وفي آذاننا عنها بها صمم
نادت وامعتصماه أدرك عقيلتكم قال الأشاوس نامي مات معتصم
لكن هناك البديل الفذّ في يدنا حتى يسود الحق والعدل والسلم
مباحثات وتصريح ومؤتمر كذا عناق يليه الوعد والقسم
وإن تمادى العداء فالحل مؤتمر نشجب ما قالوا وما أثم

لن يفعلها أشباه الرجال
فإذا كان هذا هو موقف الأنظمة العربية من حريق المسجد الأقصى المبارك حيث كان أكبر إنجازهم عقد مؤتمر قمة أعرج ومشوّه وغير مكتمل الحضور، وإذا كانت دعواتهم لعقد مجلس الأمن هي صورية، وكما تقول الوثيقة البريطانية أنهم لم يكونوا يقصدون حقًا الكلام الذي كتبوه بمعنى أنه ذرّ للرماد في عيون شعوبهم، وإذا كان كل همّهم هو نفي الهوية الإسلامية للصراع، فماذا يا ترى يُتوقع من هذه الأنظمة اليوم مما يجري في مجزرة غزة؟ وليس أنهم لم يشغلوا أنفسهم بعناء عقد مؤتمر أعرج مشوّه، وإنما هم الذين لم تقم أي دولة من الدول التي تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل ولو باستدعاء السفير الإسرائيلي لتوبيخه وفق العرف الدبلوماسي وليس لطرده، فلا مصر ولا الأردن ولا الإمارات ولا البحرين ولا المغرب قامت بعمل كهذا، وليس هذا وحسب، بل إنها الدول العربية التي قامت بفتح حدودها وموانئها أمام السفن الإسرائيلية ليتم شحن حمولتها بريًا عبر الإمارات والسعودية والأردن نحو إسرائيل في الوقت الذي يموت فيه مليونا فلسطيني في غزة جوعًا وعطشًا ومرضًا وقتلًا.

أرى الملايين في الأقطار ليس لهم في عالم اليوم إجلال وإكبار
هانوا على الله لما أصبحوا دولًا وبات يحكمهم في الناس سمسار
يا سيد الرسل قد باتت عروبتهم سيفًا يهتك به للدين أستار
إن العروبة بالإسلام عزّتها فإن هوت غيره فلتبكها الدار

فإذا كان أشباه الرجال هؤلاء لم يفعلوا شيئًا عند حريق المسجد الأقصى المبارك، وإذا كان من هؤلاء من قام هو بنفسه بارتكاب محرقة رابعة وصمت عنه وموّله وأيّده أكثر أشباه الرجال من أصحاب الجلالة والفخامة خاصة آل سعود وآل زايد، فهل لعاقل أن ينتظر أن يكون لهؤلاء دور في منع مجزرة غزة أو أن يقفوا موقفًا يدلل على أن فيهم نخوة العرب وبقايا شهامة المسلمين؟! حاشاهم من هذا الشرف.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.

رحم الله قارئًا دعا لي. ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى