مقالة الشيخ كمال خطيب: سراب السلام وسلام السراب
الشيخ كمال خطيب
كتب الدكتور حسان شمسي باشا في كتابه الرائع النافع “قلوب تهوى العطاء” عن قصة ذلك الملك الذي عرض جائزة قيّمة للفنان الذي يرسم أجمل لوحة ترمز للسلام، وسمى اللوحة التي ستفوز بـ “لوحة السلام”.
قدّم الكثيرون من الفنانين والرسّامين أعمالهم التي أعدّوها إلى اللجنة المتخصصة التي ستقوم بتقييم كل لوحة من اللوحات، حيث أنه وبعد التدقيق العميق فقد خلصوا إلى أن اثنتين من اللوحات اللتين رُسمتا تتنافسان على الموقع الأول على أن يكون الملك هو من سيختار الأفضل والأجمل من بينهما.
أما اللوحة الأولى فكانت عبارة عن بحيرة هادئة تحتضنها جبال خضراء تعلوها سماء زرقاء متوشحة بغيوم بيضاء وأسراب من الطير تظهر في الأفق البعيد. وأما اللوحة الثانية فكانت عبارة عن جبال شاهقة جرداء واعرة، وسماء مكفهرة ولمعان برق يظهر من بعيد يزيد المشهد رهبة.
كان الغريب واللافت أن الملك قد اختار هذه اللوحة وفضّلها على الأولى معتبرًا أنها هي من توحي بالسلام، فلما سُئل عن ذلك فإنه أشار إلى ذلك الجبل الشاهق العاري وكيف أن في شقّ أحد صخوره السوداء قد نبتت شجيرة وعلى أغصانها جاءت عصفورة وبَنت عشها الذي وضعت فيه بيضها وجلست على البيض في طمأنينة وهدوء وسلام.
اندهش الحضور من دقة نظر الملك لكنهم لم يفهموا كيف ولماذا فضّل اللوحة الثانية على الأولى مع أن كل معاني السلام تظهر في اللوحة الأولى وليس في الثانية، عندها قال لهم الملك: “ليس السلام أن تكون في مكان كل ما فيه مريح وبلا صخب ولا تحديات، ولكن السلام أن تجد نفسك وسط كل التحديات وتحافظ على هدوئك ورباطة جأشك وتفاؤلك وطمأنينة قلبك”.
إن الله تبارك وتعالى قد سمّى الجنّة دار السلام {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِندَ رَبِّهِمْ ۖ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} آية 127 سورة الأنعام. {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} آية 25 سورة يونس. وسُميّت الجنّة دار السلام كما قال المفسرون، لأنها سالمة من كل عيب وآفة وكدر ومن كل همّ وغمّ وغير ذلك من المنغّصات، لكن الوصول إلى الجنّة دار السلام لا بد أن يسبقه المحن والابتلاءات والمشقّات والمنغّصات في الدنيا، كما قال النبي ﷺ: “حُفّت الجنة بالمكاره، وحُفّت النار بالشهوات”. وقال الله تبارك وتعالى في بيان أن الوصول الى الجنة ليس سهلًا: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} آية 214 سورة البقرة.
إن رؤية الملك لجمال تلك اللوحة والإبداع فيها جاء في سياق مشهد صخور سوداء داكنة قد شُقّت مع الأيام، امتلأت غبارًا وترابًا حملت الريح إليها بذرة سقطت في شقّ الصخرة، ومع رشّات مطر أو حتى قطرات ندى أنبتت تلك البذرة فكانت شجرة رأتها عصفورة فنزلت عليها وبَنت عشها وهي مطمئنة، بعيدة عن الزواحف والوحوش لأنها في ذلك المكان العالي تكون بأمان وسلام.
وهكذا ينبت الأمل من عمق الألم، ويستمر الحقّ في صولته رغم ما يكون للباطل من إمكانيات وجولات يخيل للرائي أنها لن تقوم للحقّ بعد اليوم قائمة. وما أصدق وأجمل ما قاله الشاعر في وصف وتشخيص هذا المشهد لما قال:
قطفوا الزهرة ..
قالت: من ورائي برعم سوف يثور
قطعوا البرعم ..
قالت :
غيره ينهض في رحم الجذور
قلعوا الجذر من التربة ..
قالت:
إنني من أجل هذا اليوم خبأت البذور
كامن ثأري بأعماق الثرى
وغدًا سوف يرى كل الورى
كيف تأتي صرخة الميلاد
من صمت القبور
تبرد الشمس ..
ولا تبرد ثارات الزهور
إنه الأمل لمن ظنّ بانقطاع الأمل، وإنه الفجر لمن ظنّ أنه لا نهاية لليل وعتمته وظلمته.
يا أهل غزة أبشروا
أن تتحدث عن النور من وسط العتمة، أن تتحدث عن الأمل في ذروة اليأس والإحباط، وأن تتحدث عن الفرج والأمة كلها يلفّها الكرب ومن كل جانب، وأن تتحدث عن السلام من وسط الحروب والنار والدمار، فإن هذا مما سيجعلك في أعين الكثيرين أنك لا تقرأ الواقع جيدًا وهذا مع حسن الظن بك، وإلا فإنك ستكون في أعين هؤلاء من المصابين بمسّ من الشيطان فيشفقون على حالك ويدعون الله لك بالشفاء مما أنت فيه.
كثيرون هم الذين يعجبون، بل ولعلهم يسخرون ممن يتحدثون عن التفاؤل والأمل بالفرج وتغير الأحوال، ممن يتحدثون ويبشّرون من وسط الظلام وفي أوج الظلم والقهر وتسلط الأعداء وخذلان الأشقاء، فيقولون مستهزئين ومن أين وكيف سيأتي الفرج؟
من الواضح والجليّ جدًا أن أمثال هؤلاء المستغربين يجهلون هدي رسول الله ﷺ ونظرته المتفائلة دائمًا وهو القائل صلوات ربي وسلامه عليه: “واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا”. وإنهم يجهلون سيرة رسول الله ﷺ وقصته يوم الأحزاب يوم معركة الخندق وقد أطبق الحصار على المسلمين من كفار قريش ومن يهود المدينة الذين نقضوا العهد، ومن المنافقين الذين راحوا يبثون الأراجيف ليوهنوا الصف. لقد وصل الحال بالمسلمين إلى حدّ الجوع والعطش، وبلغ الخوف منهم كل مبلغ وصل إلى حدّ خشية أحدهم أن يختلي جانبًا لقضاء حاجته.
ولقد قال الله تعالى في وصفات الحال: {إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا*هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} آية10-11 سورة الأحزاب، وخلال الحصار وقيام المسلمين بحفر الخندق حول المدينة فكان أن ضرب النبي ﷺ صخرة بفأسه، وإذا بشرر يتطاير فكبّر النبي ﷺ مبشرًا بفتح بلاد الشام وفارس واليمن، عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: “أمرنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم بحَفْرِ الخَنْدَقِ وقال: عَرَضَتْ لنا في بعضِ الخَنْدَقِ صخرةٌ لا تأخذ فيها المَعَاوِلَ، فاشتَكَيْنا ذلك إلى النبيِّ ﷺ، فجاء فأخذ المِعْوَلَ فقال: بسمِ اللهِ، فضرب ضربةً فكسر ثُلُثَها، وقال: اللهُ أكبرُ أُعْطِيتُ مَفاتيحَ الشامِ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ قصورَها الحُمْرَ من مكاني هذا، ثم ضرب الثانيةَ فقطع الثلُثَ الآخَرَ فقال: اللهُ أكبرُ، أُعْطِيتُ مفاتيحَ فارسٍ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ المدائن وقصرَها الأبيض من مكاني هذا، ثم ضرب الثالثةَ وقال: بسمِ اللهِ، فقلع بَقِيَّةَ الحَجَرِ فقال: اللهُ أكبرُ أُعْطِيتُ مَفاتيحَ اليَمَنِ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ أبوابَ صنعاءَ من مكاني هذا”.
ولأننا متفائلون والحمد لله، ولأننا واثقون بوعد الله، ولأننا نرى النور من وسط الظلام، ونرى الأمل من أتون الألم، ونرى الفرج من عمق الكرب، فإننا نقول لأهلنا وإخواننا في غزة وهم في وسط الكرب والبلاء والقهر والخذلان: يا أهل غزة إذا رأيتم الليل يسودّ ويسودّ فاعلموا أن الفرج قريب، وإذا رأيتم الحبل يشتد ويشتد فاعلموا أن انقطاعه قريب، وإذا رأيتم الباطل يعتدّ ويعتدّ فاعلموا أن أجله قريب، وإذا رأيتم الكرب يحتدّ ويحتد فاعلموا أن الفرج قريب.
سراب السلام وسلام السراب
وإذا كان ذلك الملك قد فهم أن السلام الحقيقي والصادق وأن الأمن والهدوء والطمأنينة يمكن أن تكون وليد البلاء والمحنة ولا يمكن أن يكون السلام والطمأنينة النفسية وليد أوهام ولا وليد وعود فارغات تتبدد مع اجتماعات ومؤتمرات سراب السلام أو سلام السراب كتلك التي كان يُمنّى بها شعبنا الفلسطيني طوال عشرات السنوات من يوم نكبته في العام 1948 وحتى يومنا هذا، إن غيرنا لا يرون بالسلام وفق مقاساتهم إلا ذلك الذي به يعلن الفلسطيني عن تنازله عن حقوقه كدولة وعن تفريطه بمقدساته وعن تمييعه لثوابته الدينية والوطنية. فإذا كان هذا هو مفهوم السلام عند الأقوياء والجبابرة والمحتلين، فإن هذا لا يعني عند الصادقين إلا أنه الاستسلام والخضوع والهوان.
تمامًا مثلما أن لوحة السلام في عين الملك لم تكن بحيرة جميلة وأشجارًا وارفات الظلال، وإنما كانت صخورًا داكنة وانفلاق الصخر وحبة تنبت في قلب الصخر التي تورق وتزهر وتزقزق عليها العصافير وتبني أعشاشها.
فليس السلام الحقيقي هو ما يفرضه الجبار والطاغية بحدّ السيف وقعقعة السلاح لأنه حتمًا سيأتي اليوم الذي سيكون من يرى هذا السلام استسلامًا وذلًا وهوانًا فيمزق أوراقه ويدوسها تحت قدميه. وما أجمل ما قاله الشاعر:
فيا عجبًا لمن يجري وراء سرابه النفسي
يظنّ له به ريًا ويرجع فارغ الكأس
يبيع الأرض والتـ اريخ بالأرخص من فلس
جهود كلها ضاعت كأن لم تغن بالأمس
فما معنى فلسطين بلا أقصى ولا قدس
فلسطين بلا قدس كجثمان بلا رأس
وإذا كانت كل مؤتمرات سلامهم ليست سوى أوهام وسراب وضياع للحقوق، وتفريط بالقدس والأقصى فإن السلام الذي نؤمن به وندعو إليه هو سلام الإسلام الذي يعلّمنا العزة والشموخ والكبرياء. هكذا كنا في التاريخ الماضي وهكذا يجب أن نكون في الحاضر والمستقبل.
هو الإسلام موئلنا بدا البرهان كالشمس
هدينا باسمه الدنيا وقدنا عالم الأمس
لنا الرومان قد خضعوا ودانت دولة الفرس
واهم ومجنون من يظن أننا لن نعود!!!
لا عزاء للمحبطين واليائسين والمتشائمين.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.