مقالة الشيخ كمال خطيب: في ذكرى المولد النبوي الشريف.. مجزرة طرابلس ومجزرة غزة، أبرهة الحبشي وأبرهة الإسرائيلي
الشيخ كمال خطيب
يوم بعد غد الأحد ستهبّ على الأمة الإسلامية خاصة وعلى البشرية عامة نفحات ذكرى مولد الهادي الأمين وحبيب ربّ العالمين ورحمة الله للناس أجمعين سيدنا محمد ﷺ. إنه يوم الثاني عشر من ربيع الأول، اليوم الذي كانت فيه العرب خاصة وكل الإنسانية على موعد مع مولد النور والرحمة المهداة والنعمة المسداة والحب الذي لا يدانيه حب:
سكنت الجوارح والأعظما، سكنت الشعور
حبيبي أنت
وما زال طيفك لي ملهمًا حبيبي أنت
رضعت مع اللبن المشتهى، حبّك الأكرما
حبيبي أنت وعمري أنت
وكيف لا نحبك وأنت الذي نهيت أصحابك من الوقوف لك تعظيمًا إذا دخلت عليهم، ولكن ورغم طاعتهم لك ورغبتهم بعدم مخالفة أمرك، لكنك وقد دخلت عليهم مرة فإنهم وبدون شعور قاموا لك، فكان منك الامتعاض والانزعاج، وقد رأى حسان بن ثابت ذلك في وجهك، فأنشد قائلًا:
وقوفي للعزيز عليّ فرض وترك الفرض ما هو مستقيم
عجبت لمن له عقل وفهم يرى هذا الجمال ولا يقوم
أغلى هدية لأغلى حبيب
اعتاد الناس في يوم ذكرى ميلاد أحبتهم وأصدقائهم أن يقدموا لهم هدية ثمينة بها يعبرون عن ذلك الحب للمحتفى به بين من يقدم باقة ورد وبين من يقدم ساعة يد وبين من يقيم وليمة وبين من يقدم زجاجة عطر ثمينة وكل ذلك تعبير عن الحب والمودة.
وإنها الحيرة التي تقتلنا أيها الحبيب فيما يليق بمقامك من هدايا نقدمها لك، فإننا لن نتجاوز ما فعله أحد أشهر المحبين لك، محمد إقبال فيلسوف الإسلام الكبير يوم قال في قصيدته الرائعة “هدية إلى الرسول”، وقد تزامن ذكرى مولدك يومها مع المجزرة التي ارتكبها الطليان في طرابلس ليبيا في العام 1914: “فتخيّل نفسه واقفًا بين يدي الحضرة الشريفة ليقدم هديته، فقال له النبي ﷺ: ماذا حملت إلينا من هدية؟ فاعتذر الشاعر عن هدايا الدنيا، وقال: إنها لا تليق بمقامكم الكريم ولكنني جئت بهدية وهي زجاجة يتجلى فيها شرف أمتك وهو دم شهداء طرابلس”.
واذا كانت ذكرى مولد رسول الله ﷺ قد تزامنت يومها مع المجزرة التي ارتكبها المستعمرون الطليان بحق أهالي طرابلس وبرقة في ليبيا في العام 1914، فها هي ذكرى المولد النبوي الشريف تهلّ علينا هذا العام 2024 لتتزامن مع المجزرة والحرب الدموية يرتكبها المحتلون المستعمرون الإسرائيليون بحق غزة، إذ أن مائة وعشر سنوات بالتمام والكمال تفصل بين مجزرتي طرابلس وغزة .
وإذا كان محمد إقبال يناجي رسول الله ﷺ في يوم مولده معتذرًا عن تقديم أي هدية تليق بمقامه الشريف في ذكرى مولده فلم يجد إلا زجاجة، ليست زجاجة عطر ولكنها زجاجة دم من دماء أطفال ونساء وشيوخ طرابلس. وإننا اليوم وفي ذكرى مولد رسول الله ﷺ فإننا نعتذر من أن نقدم لرسول الله ﷺ أي هدية، وإنما هي زجاجة دم من الدم المسفوح والذي ما يزال يسيل لأكثر من 50 ألفًا من إخواننا وأبناء شعبنا في غزة قُتلوا، ومائة ألف آخرين قد جُرحوا. إنها ليست دماء أهل غزة وحسب وإنما هو شرف الأمة المسفوح، وكرامتها المهدورة، وعرضها المستباح. إنها أغلى هدية لأغلى حبيب من طرابلس وغزة .
أبرهة الحبشي وأبرهة الإسرائيلي
في السنة التي ولد فيها رسول الله ﷺ سنة 570 للميلاد، كان أحد الطغاة والمتجبّرين واسمه أبرهة الأشرم الحبشي قد عزم على هدم الكعبة المشرفة في مكة المكرمة عاصمة العرب يومها. ولم يكن قراره بهدم الكعبة إلا محاولة للتخفيف من وطأة الإهانة التي سببها أحد العرب لما قام بانتهاك الكنيسة العظيمة التي كان أبرهة قد بناها في اليمن التي كان يحتلها الأحباش يومها في محاولة منه لصرف أنظار العرب من بيت الله الحرام في مكة إلى مدينة كنيسة القليس في اليمن.
وليس أن أرض اليمن العربية كان يحتلها الأحباش، فمثلها كانت أرض العراق يحتلها الفرس، وأرض الشام ومصر كانت تحت الاحتلال الروماني.
كان اللافت والمثير للدهشة يومها أن زعماء العرب من شيوخ القبائل والأمراء ومع تعظيمهم للكعبة المشرفة ومع علمهم بما سيفعله أبرهة بها وقد سيّر جيوشه وسلّح الجيش بالفيلة، فليس أن هؤلاء لم يحركوا ساكنًا ولم يقوموا بأقل الواجب دفاعًا عن قبلة العرب، ولم يحشدوا الجيوش التي كانوا يحشدونها لأتفه الأسباب كما في يوم داحس والغبراء، فليس أنهم لم يفعلوا هذا وأقل منه، وإنما هم الذين أرسلوا من يكون دليلًا لأبرهة يدلّه على أفضل الطرق الموصلة إلى مكة حتى لا يتيه ولا تبتلعه الصحراء.
وها هو التاريخ يعود على نفسه وفي ذكرى مولد رسول الله ﷺ، وبينما أبرهة الإسرائيلي يسيّر جنوده ويحرك جيوشه ليس فقط لاستمرار تدمير ما تبقى من غزة وقتل ما تبقى من أبنائها المشردين والمهجرين ولهدم ما تبقى من مساجدها، وإنما هو الذي يعلن صراحة بلسان أحد وزرائه وهو بن غفير بأنه ينوي بناء كنيس في ساحات المسجد الأقصى المبارك ،وأنه سمح باعتباره وزيرًا للشرطة لليهود بالصلاة في المسجد الأقصى وقد أوعز للشرطة بعدم منعهم.
إنهم شيوخ القبائل العربية يومها، وإنهم ملوك ورؤساء الدول العربية اليوم، فليس أنهم لم يفعلوا ولو أقلّ القليل لرفع الظلم عن غزة وأهلها ولمنع انتهاك حرمة المسجد الأقصى المبارك وللوقوف في وجه المخططات والمشاريع السوداء التي تحاط ضده، وإنما هم المستمرون بتطبيع العلاقات عبر استمرار التنسيق بين أجهزة المخابرات وضباط الجيوش وعمل السفارات والمطارات وتصدير البضائع المتبادل بينهم وبين إسرائيل وحكومة أبرهة الإسرائيلي الذي يقف على رأس تلك المخططات بحق غزة وبحق القدس والمسجد الأقصى المبارك.
لقد وصل الأمر بأبي رغال السيسي أنه عندما عيّره أبرهة الإسرائيلي بأنه لم يقم بإغلاق وتدمير كل الأنفاق التي كانت تصل بين غزة وبين مصر منها يدخل الطعام والدواء إلى أهل غزة المحاصرين منذ عام 2007، فكان ردّ أبي رغال السيسي أن هذا غير صحيح وأنه قد قام بطمر وتدمير كل الأنفاق الواصلة بين غزة وبين مصر، وأن ضمان بقاء الحال كما هو عليه يتطلب مزيدًا من التنسيق بين نظام أبي رغال السيسي ونظام أبرهة الإسرائيلي .
ومثلما أن التاريخ لم يرحم أبا رغال الذي تآمر على المسجد الحرام قبلة العرب يومها خدمة لمخططات أبرهة الحبشي، فإن التاريخ لن يرحم أحفاد أبي رغال الذين يتآمرون اليوم على المسجد الأقصى المبارك خدمة لمخططات أبرهة الإسرائيلي .
الحجارة الكبيرة والحجارة الصغيرة
من كان ينظر إلى جيش أبرهة الجرار تتقدمه الفيلة وهو يجدّ السير نحو مكة المكرمة لهدم الكعبة المشرفة، فإنه كان على يقين أن الكعبة المشرفة ستتحول إلى كومة من الحجارة، بل لعلهم سيسرقون حجارتها فستصبح أثرًا بعد عين، لكن أحدًا لم يكن يعلم أن الذين قد ينقضون حجارة الكعبة الكبيرة، فإنهم سيهلكون بحجارة السجّيل الصغيرة ترميهم بها الطير الأبابيل {أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصۡحَٰبِ ٱلۡفِيلِ*أَلَمۡ يَجۡعَلۡ كَيۡدَهُمۡ فِي تَضۡلِيلٖ*وَأَرۡسَلَ عَلَيۡهِمۡ طَيۡرًا أَبَابِيلَ*تَرۡمِيهِم بِحِجَارَةٖ مِّن سِجِّيلٖ*فَجَعَلَهُمۡ كَعَصۡفٖ مَّأۡكُولِۭ} سورة الفيل .
ومثلما حمى الله تعالى مسجده الحرام في مكة المكرمة، فإنه سيحمي مسجده الأقصى في القدس الشريف. وإذا كان الله سبحانه قد حرم شيوخ وأمراء القبائل من شرف الدفاع عن المسجد الحرام ومن كيد أبرهة الحبشي، فإنه سبحانه سيحرم أمراء ورؤساء وملوك العرب من شرف الدفاع عن المسجد الأقصى من كيد أبرهة الإسرائيلي لأنهم ليسوا أهلًا لهذا الشرف. وما أجمل وأصدق ما قاله الشاعر:
وكم توعد هذا البيت أبرهة والفيل هاج وهذا الجفن ما رفّ
نحن الطيور الأبابيل التي حملت من طين سجيل حتفًا يحمل الحتفا
سينهض الطفل ابن العشرة في فمه مليون لا تتحدى عشرة ألفا
على جدار بلا قلم سيكتب: لا للطارئين ولا للسجن والمنفى
إن كان حظّك أن الدعوة انطلقت وأنت حيّ فهذا حظك الأوفى
ففي ذكرى مولدك يا حبيب فإننا سنمضي على دربك نحمل رايتك وننصر دعوتك ونرابط في مسراك، ونحن الذين أحببناك وبايعناك دون أن نراك صلوات ربي وسلامه عليك.
ربيعنا وخريفهم
فإذا كنا في هذه الأيام نعيش ونتنسم نفحات شهر الربيع فيه ولد الحبيب محمد ﷺ، فإننا بعد أسبوع ستهب علينا رياح فصل الخريف. إننا على يقين أن أمة الإسلام برغم كل ما تعانيه، والظلم الذي تقاسيه، والقهر الذي ينزل بها، إلا أنها تعيش حالة المخاض الذي يسبق الميلاد المبارك، لتعيش الأمة ربيع مجدها القادم .
نعم إننا بين يدي مولد الحبيب محمد ﷺ في شهر ربيع الأول وبين يدي ربيع الأمة، بينما غيرنا يعيشون خريفهم القاسي وخريفهم الذي فيه ستذبل أوراقهم وتتساقط وإلى الأبد بإذن الله تعالى .
واهمون وأغبياء وحمقى من يظنون أن كثرة إشعال النار حول الذهب ستفسده وإنما هي ستزيده نقاء وبريقًا وأصالة .
واهمون وأغبياء وحمقى هم الذين يظنون أن كثرة الضرب على الوتد ستضعفه، إنما هي التي ستزيده تجذرًا وتمنعًا وصلابة. وإن شعبنا وأمتنا تزداد كل يوم بإذن الله تجذرًا ويقينًا بفجرها الصادق وفرجها القريب.
وإنها الأيام سترينا كيف أننا نعيش نفحات ربيعنا بينما يعيش غيرنا لفحات خريفهم، وأننا إلى الربيع أقرب وإلى الفرج أقرب وأقرب .
اللهم يا ربنا صلّ على محمد بقدر حبك فيه، اللهم بجاه محمد عندك فرّج عن أمتنا عامة وعن أهلنا في غزة خاصة ما نحن وهم فيه يا رب العالمين.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.