مقالة الشيخ كمال خطيب: “رفعنا مظلمتنا إلى قاضي السماء”
الشيخ كمال خطيب
حينما تقع خصومة بين شخصين أو طرفين ولم تنجح الوساطات ومبادرات المصلحين للفصل بينهما خاصة وأن أحد الطرفين يشعر بأنه مظلوم وأن حقه مهضوم عند الطرف الآخر الذي يملك من أسباب القوة والنفوذ ما تجعله يستهتر بالطرف الآخر ولا يعترف له بحق عنده، عندها لا يجد المظلوم مناصًا من أن يتوجه إلى القضاء والمحاكم يرفع إليها مظلمته، فيضع ملفه بين يدي القاضي في محكمة “الصلح الإبتدائية”، فإذا لم يسترد حقّه لعدم نزاهة القاضي أو لنفوذ الطرف الآخر، فإنه يستأنف إلى المحكمة الأعلى لا بل إنه ولقناعته بحقّه وللظلم الذي نزل عليه فإنه يرفع مظلمته إلى المحكمة العليا لتكون هي أمله الأخير بإنصافه واسترداد حقّه، فإذا لم يتم إنصافه ولم يُرد له حقّه فعندها تجده ينظر إلى السماء ويقول: “حسبي الله ونعم الوكيل”.
حسبي الله ونعم الوكيل، معناها نقل ملف القضية من قاضي الأرض إلى قاضي السماء، وهناك يقينًا سينصف وسينتصر الله له ممن ظلمه. قال الدكتور حسان شمسي باشا في كتابه النافع -عندما يشرق الصباح-: “حسبي الله ونعم الوكيل دعاء قاله إبراهيم عليه السلام، فجعل الله النار بردًا وسلامًا عليه. حسبي الله ونعم الوكيل دعاء قاله المسلمون يوم أحد {فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ} آية 74 سورة آل عمران، وثبتهم الله رغم الجراح. حسبي الله ونعم الوكيل دعاء قالته أمنا عائشة على ظهر دابة صفوان بن المعطّل، فنزلت فيها آيات البراءة والطهر {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} آية 11 سورة النور.
لا شكوى إلا إليك
وها هو شعبنا الفلسطيني الذي ما يزال مشردًا مهجرًا وأرضه محتلة منذ 76 سنة. شعبنا الذي وضع ملفه وقضيته بين يدي وعلى طاولة كل المحافل الدولية، مجلس الأمن والأمم المتحدة ومحكمة الجنايات الدولية ومحكمة العدل الدولية، وكلها أصمّت آذانها ووقفت مع الظالم والقويّ وفي الحدّ الأدنى فإنها انخرست ولم تنصف المظلوم.
شعبنا الذي لا يزال منذ سنة ويزيد يُقتل ويُذبح ويُشرّد وتدمّر مدنه وقراه وتُهدم كل مقدراته. وليس أن المؤسسات الدولية لم تنصفه ولم تنتصر لمظلمته لا بل إنها جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي عنوان رابطة القومية والدين مع الشعب الفلسطيني، فإنهم كذلك قد خذلوه وتآمروا عليه ليصل الشعب الفلسطيني إلى قناعة أنه مع الثبات والصبر والتجذر فإنه رفع ملف قضيته إلى قاضي السماء ولسان حال كل فلسطيني تتردد على لسانه العبارة الأشهر “حسبنا الله ونعم الوكيل” والتي معناها أننا رفعنا ملف قضيتنا من قاضي الأرض إليك يا قاضي السماء .
وقد يقول قائل، ماذا سيفعل قاضي السماء إذا رفعت إليه هذه القضية ووضع بين يديه هذا الملف؟! إن قاضي السماء سيفعل ما فعله لنوح عليه السلام لما رفع ملف قضيته إليه وقال: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ} آية 10 سورة القمر، فكان فعل قاضي السماء {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ*وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} آية 11+12 سورة القمر. وإن قاضي السماء سيفعل ما فعله لمحمد ﷺ يوم رفع ملف قضيته إليه وقال: “اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وربنا إلى من تكلني….”، فكان فعل قاضي السماء أن أرسل ملك الجبال يقول لمحمد ﷺ: “يا محمد إن الله عزّ وجلّ قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك وبما شئت، إن شئت أطبق عليهم الأخشبين فعلت…”.
إن القناعة واليقين بأن الله تعالى هو العدل فلا يظلم، وهو القوي الذي لا يعجزه شيء في السماء ولا في الأرض، وهو الذي لا تأخذه سِنة ولا نوم، وأنه سبحانه يرى فعل الظالم ويسمع دعاء المظلوم، وإذا أخّر معاقبة الظالم فلحكمة يريدها، وإذا لم يعجّل الاستجابة للمظلوم فلحكمة يريدها كذلك، ولكن أهل الصبر والإيمان الواثقين بربهم لا تتزعزع ثقتهم به سبحانه وسيظلّون واقفين على أعتابه ينتظرون حكمه العادل وقراره النافذ الذي لا يرُدّ، ولسان حال أهل الصبر والإيمان يقول:
يا مطلع علينا سلمنا الأمر إليك
ومن بغى علينا لا شكوى إلا إليك
إنهم يقولون يا ربنا ويا خالقنا ويا مالك أمرنا إنا قد شكونا هؤلاء الظالمين إليك، وإنا قد رفعنا ملف قضيتنا وما وقع علينا من ظلم وبغي وخذلان إليك وحدك فاقض ما أنت قاض.
وكم كانت ساحرة وبريئة ومعبرة كلمات الطفل السوري الباكي والموجوع من آثار ظلم الطاغية بشار لأهله ولأبناء شعبه، فشرّده ويتّمه وجوّعه هو ومئات آلاف بل ملايين الأطفال أمثاله في سوريا الجريحة، فكانت مقولته وعيناه تدمعان “سأخبر الله بكل شيء”. صحيح أنه قد مات لكن ليس قبل أن يرفع ملف قضيته إلى قاضي السماء فأخبره بكل شيء.
دموع المظلومين
قال أديب الإسلام مصطفى صادق الرافعي: “إن دموع المظلومين هي في أعينهم دموع ولكنها في يد الله صواعق يضرب بها الظالم”.
أي لفظ أبلغ وأي يقين أعمق من أن يعتقد المظلوم أن الله لن يخذله وأنه سينصره وأن دموعه غالية على الله، وأنها ليست أي دموع وأنها ستتحول إلى صواعق بها يضرب الله الظالم ويهز أركانه ويدمّر بنيانه.
إنها قصة المرحوم الأستاذ عمر التلمساني المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين مع أنور السادات الرئيس المصري قبل حسني مبارك، والتي رواها الأستاذ التلمساني في كتابه -أيام مع السادات- والتي يقول فيها: “قمت بزيارة إلى وزير الثقافة والإعلام منصور حسن في مقر عمله بناء على طلب الوزير، وحاول أن يقنعني بحضور اللقاء الفكري للرئيس السادات في الإسماعيلية يوم 28 رمضان 1979، وفي النهاية ومع إلحاح الوزير وافقت على الحضور.. .
وخلال كلمة الرئيس أنور السادات، فإنه كان يشير بأصبع الإتهام إلى جماعة الإخوان المسلمين وإلى من يقف على رأسها الأستاذ عمر التلمساني بالعمالة والفتنة الطائفية، وعندها وقف الأستاذ التلمساني ليردّ على السادات الذي ختم كلمته بالهمز بقوله: “مش كده يا عمر”، فكان أن وقف أمام الحاضرين وقال له الأستاذ التلمساني بكل جرأة: “لو أن غيرك وجّه إليّ مثل هذه التهم لشكوته إليك، أما وأنت يا محمد يا أنور يا سادات صاحبها وأنت الذي ظلمتني، فإني أشكوك إلى الله أحكم الحاكمين وأعدل العادلين”. فما كان من السادات وقد كان يضع الحبيبة -الغليون- في فمه وقد أخذت ترتجف شفتاه وهو يقول: “اسحب شكواك بقى. فكان جواب التلمساني له: أنا لم أشكُك إلى ظالم ولكنني شكوتك إلى أحكم الحاكمين وأعدل العادلين”.
ما أعزّها دموع المظلومين من المسلمين في هذا الزمان، هذه الدموع التي لو جمعت لكانت أنهارًا من الدموع تسيل، فكيف لهذه الدموع تسيل وتنهمر من عيون الأيتام والأرامل والثكالى والجياع والمشرّدين ألا ينصفها سبحانه وألا يستجيب لها وهو الذي قال: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ}.
لا تظلمنّ إذا ما كنت مقتدرًا فالظلم ترجع عقباه إلى الندم
تنام عيناك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم
وإذا كانت حكومة إسرائيل قد ضربت وما تزال تضرب بعرض الحائط كل القرارات الدولية وكان آخرها قرار محكمة الجنايات الدولية التي أدانت ظلمها وقهرها وتجويعها وقتلها عشرات آلاف الأبرياء من أبناء شعبنا الفلسطيني في غزة، فماذا سيفعل من يقفون على رأس هذه الحكومة وهم يعلمون علم اليقين أن ملف ظلمهم لن يُطوى ولن يبطل بالتقادم لا بل إنه قد رُفع إلى قاضي السماء؟
ما أغباهم الذين يظنون أن دورة الحياة هذه ستستمر هكذا، إنسان ظالم وآخر مظلوم، قاتل ومقتول، قاهر ومقهور، قوي يفعل ما يشاء وضعيف ينزل به القوي ما يشاء من صنوف القهر والظلم.
وتستمر مسيرة الحياة وتنطوي الصفحة ويمضي المظلوم والمقهور والمقتول والجائع والمفجوع يبتلع حسرته ويمسح دمعته حتى ينزل إلى قبره وقد طُوي ملفّه.
معاذ الله، وحاشا الله، ولا والله، فما هكذا عرفنا عدل الله، بل إن يوم محكمة السماء قادم، ويوم فتح الملفات آت، ويوم القصاص العادل لا ريب فيه.
قال ﷺ: “لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء، التي بدون قرون من الشاة القرناء” إذا كانت نطحتها ثم يقال لها كوني ترابًا فتكون ترابًا، فيرى الظالم والكافر ذلك فيتمنى لو أنه لم يظلم في الدنيا، فيقول: يا ليتني كنت شاة أو بقرة ولم أكن إنسانًا {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} آية 40 سورة النبأ.
قال علي كرم الله وجهه ورضي عنه: “إياكم ودعوة المظلوم فإنما سأل الله حقه وإن الله لا يمنع من ذي حقّ حقّه”.
اللهم إنا مغلوبون ومظلومون فانتصر
اللهم إنا رفعنا إليك ملف “17000 طفل” من أبناء شعبنا في غزة وقد قُتلوا ومُزّقوا أشلاء بصواريخ إسرائيل وطائرات أمريكا.
اللهم إنا رفعنا إليك ملف “11,000 ” امرأة مسلمة حرّة عفيفة من أخواتنا في غزة، وقد قُتلن وانتهكت حرماتهن.
اللهم إنا رفعنا إليك ملف مئات آلاف الأطفال من أبناء شعبنا في غزة يلذعهم الجوع والمرض والبرد، فلا غذاء ولا دواء ولا كساء.
اللهم إنا رفعنا إليك ملف ملايين الأطفال من أبناء الشعب السوري الشقيق وقد هُجّروا من أوطانهم، فمنهم من ابتلعهم البحر في طريق هجرتهم وهروبهم من بطش الطاغية بشار، ومنهم من وقعوا في شباك عصابات بيع والاتجار بالبشر ودعارة الأطفال وجمعيات التنصير في أوروبا .
اللهم إنا رفعنا إليك ملف مئات الأطفال المصريين ممن آباؤهم قابعون في زنازين وسجون السيسي الدموي منذ العام 2013، وما جريمتهم سوى أنهم يقولون: الله غايتنا والرسول قدوتنا والقرآن دستورنا”.
اللهم إنا رفعنا إليك ملف المسجد الأقصى المبارك في القدس الشريف يدنّسه المحتلون يريدون أن يحولوه كنيسًا وأن يبنوا مكانه هيكلًا. اللهم إنا رفعنا إليك ملف المسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة يدنّسه القرامطة الجدد من آل سعود وبطانة السوء معهم، وقد بنوا وافتتحوا حوله المراقص. اللهم إنا رفعنا إليك ملف الكعبة المشرفة والمسجد الحرام في مكة المكرمة وقد استباحها العابثون والمفسدون والمتطاولون، وقد صنعوا ما يشبهها وأتوا بكل حثالات الأرض وفاجراتها يطوفون ويرقصون حولها.
اللهم إليك نشكو ضعف قوتنا وقلة حيلتنا وهواننا على الناس يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وربنا، إلى من تكلنا إلى بعيد يتجهمنا أم إلى عدوّ ملكته أمرنا، إن لم يكن بك علينا غضب فلا نبالي.
اللهم أنت الذي استجار بك إبراهيم من وسط النار فأجرته، وأنت الذي استغاث بك موسى من وسط البحر فأغثته. وأنت الذي ناداك يونس من بطن الحوت فلبيته. وأنت الذي ناداك محمد من قلب النار فسمعته وحفظته وسلمته. اللهم إنّا مثلهم نناديك ونستغيث بك ونستجير بك، فيا إلهنا ومولانا سلمنا الأمر إليك ولا شكوى إلا إليك.
يا غفور، يا ودود، يا ذا العرش المجيد، يا فعّال لما يريد، نسألك بعزتك التي لا ترام وقدرتك التي لا تضام، يا مجير أجرنا ومن الظالمين خلّصنا، إنّا رفعنا ملف قضيتنا إليك يا أحكم الحاكمين ويا أعدل العادلين، خذ حقنا ممن ظلمنا وبغى علينا، أنت حسبنا ونعم الوكيل.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.