مقال الشيخ أمير نفار: “إمامٌ بين زمانَيْن”

الشيخ أمير نفار
عضو حركة الدعوة والإصلاح
الذي يدرس بهدوء فِكر الإمام البنا رحمه الله، ويقرأ بعمق أفكار هذا الرجل، يرى فيه سبقًا زمنيًّا، بل يلاحظ أن الناس عيال في فهمه للعمل الإسلامي، كما كان الناس عيالًا في الفقه عند أبي حنفية النعمان رحمه الله.
تقرأ له كلامًا قلّ أنْ تجد مثيلًا له في أدبيات الصحوة الإسلامية، كقوله مثلًا: “ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول، وأنيروا أشعة العقول بلهب العواطف، وألزموا الخيال صدق الحقيقة والواقع، واكتشفوا الواقع في أضواء الخيال الزاهية البراقة، ولا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة، ولا تصادموا نواميس الكون، فإنها غلاّبة؛ ولكن غالبوها واستخدموها وحولوا تيارها واستعينوا ببعضها على بعض وترقبوا ساعة النصر، وما هي منكم ببعيد”.
إن المتأمل لهذا الكلام من خبير، وهذا الخطاب الموزون، يجد ما يلي:
أولًا: أهمية العاطفة في بناء الأمة، وهو ما يسمى عند غيره من المفكرين (مرحلة الروح)، وتعدّ هذه المرحلة عند بناء الأمم العظيمة ضرورة، وبدونها لا يتحقق للأمة النهوض والتقدم.
ثانيًا: لا بد من “عقلنة” العمل الإسلامي، وتحكيم العقل على العاطفة، ولكن لا بد أيضا من وجود شرطين أساسين؛ الشرط الأول: هو أنْ لا يتخلص العقل من العاطفة والحماس، فيصبح العمل الإسلامي مشروعًا باردًا لا حركة فيه، وبدون هذا الشرط يصبح العمل للإسلام ردة فعل، بل ويمكن استخدامها عند أصحاب المشاريع الكبرى فتكون ورقة عمل يمكن احترافها أحيانًا وإحراقها أحيانًا أخرى.
والشرط الثاني: أنْ لا تطغى العاطفة على العقل فيصبح العمل الإسلامي كالريشة في مهب الريح، أو بتعبير الإمام الرباني الحسن البصري رحمه الله: “العامل على غير علم كالسالك على غير طريق، والعامل على غير علم يفسد أكثر مما يصلح”.
ثالثًا: ضرورة وجود العلماء الربانيين في الصف الإسلامي، وهذا ما وصفه الامام البنا بـ”نظرات العقول”، بل يصفه في بعض الأحيان بـ “أشعة العقول”، وحين يغيب هذا الصنف عن العمل الإسلامي يصبح “ظاهرة انتحارية”، فإن مثل العلماء الربانيين في الأرض كمثل النجوم في السماء، يُهتدى بها في ظلمات البر والبحر، فإذا انطمست النجوم أوشك أن تضل الهُداة.
رابعًا: إن الأمم العظيمة تنظر إلى ما بعد الواقع المشاهد من خلال السنن الربانية، فلا تُرهَق مع المادة الصمّاء، ولا تُسجن بأغلال الثقافة الغالبة؛ بل يطلق العلماء والقادة الخيال، ويصورون للناس الغايات والأهداف من خلال الرؤى والتصورات، ولا يجعلون الناس يعيشون في الوحل باسم “الواقعية السياسية” كما يصنع قادة الفكر البراجماتي.
خامسًا: لا بد من الواقعية المقبولة، والعيش في الزمن الصعب، ولكن بشرط الخروج منه، لا العيش فيه والقبول بأفكاره المسمومة، لذلك كان لزامًا على العلماء والقادة ابتداءً اقتحامُ خطوط الوهم والوهن وإخراجُ النُخب والمجتمعات من مستنقع الغُثائية إلى الثقل النوعي والعبور الحضاري.
سادسًا: إن العمل للإسلام يحتاج إلى فقه الميزان، فلا نجاح بدون هذا الفقه، فلا بد من الجمع بين الثنائيات الكبرى، لأنه لا نجاح بدون فكرة (منهج) وعمل جماعي، فالفكرة تحكم العمل الجماعي، والعمل الجماعي ينطلق بالفكرة، فلا ينبغي أن يُلغى أحدهما على حساب الآخر، ولهذا قرر الإمام البنا: “فلا تميلوا كل الميل”، وقال في توجيه آخر: “إنكم مظهرٌ إداريّ لغاية روحية”.
سابعًا: التعامل مع السنن الكونية بإيجابية، واستخدام قانون المغالبة، وعدم تضييع الفرص، وضرورة تقديم الكفاءات، والذهاب إلى مواقع الريادة، واختراق الأعذار لا اختلاقها، والعمل بالتوازي بين ترسيخ ضرورة العمل الجماعي ووضع مضامينه وأسسه في يد الأمة حتى تدافع عنه، وبهذا يمكن استخدام السنن والنواميس وتحويل تيارها لصالح المشروع الإسلامي ومصالح الشعوب.
بين زمانَيْن وبين غايتَيْن..
هذا الفكر السديد الذي حوته تلك الكلمات الموجزة العابرة للأزمان، ينبغي أنْ لا يدهشنا، بخاصة عند قراءتها في سياقات واقع الأمة المؤلم، لذلك قال الإمام البنا رحمه الله في وصاياه النورانية: “يا أخي.. اعتقد أنك تعمل لغايتَيْن؛ أنْ تُنتج، وأنْ تقوم بالواجب، فإنْ فاتتك الأولى، فلن تفوتك الثانية؛ (قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (الأعراف: 164)”.
مع إيماننا العميق أنه مهما حاول الغاصبون المبطلون، وراوغ الدهاة الطامعون، فإننا إلى حقنا واصلون، ولن تجد لسنة الله تبديلًا.