مقالة الشيخ محمود وتد: “الدعوة إلى الله.. الفناء في الحق عين البقاء”

الشيخ محمود وتد
عضو حركة الدعوة والإصلاح
الدعوة إلى الله ليست مجرد مهمة أو وظيفة، بل هي رسالة سامية خالدة، غايةُ خلْق الله للإنسان، وأعظم القُربات إليه، فهي امتداد لعمل الأنبياء والمرسلين، وطريق الصالحين والدعاة والمصلحين. من يدخل هذا الميدان يدخل دائرة الاصطفاء، لأن الله اختار له أن يحمل مشعل النور، وينير به دروب العباد.
في الدعوة إلى الله يفنى الإنسان عن نفسه، ويتلاشى شعوره بذاته، ليبقى شعوره بالله وحده؛ لسان حاله: “إنما أنا عبدٌ مأمور، أبلّغ الحق كما أمرني الله، مستعينًا به، متوكلًا عليه”، لا يعتمد على حوله وقوته هو؛ بل على توفيق الله ومدده. إنه الفناء في الحق، الذي هو عين البقاء؛ فمن أفنى عمره في سبيل الله، أبقاه الله حيًّا في الأثر، باقيًا في الأجر، خالدًا في رضوانه.
قال الله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ) (فصلت: 33)، في هذا التعبير القرآني، نجد أنّ الدعوة إلى الله هي أحسن قول، وأجمل رسالة، لأنها تدعو الناس إلى خالقهم، وتنقذهم من ظلمات الجهل والضلال، وتفتح لهم أبواب الرحمة والجنة.
إنّ فضل الدعوة إلى الله عظيم لا ينقطع؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: “من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثلُ أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا” (رواه مسلم). فهذا الأجر الجاري هو البقاء الحقيقي، وهو الامتداد المبارك بعد الموت، لأنه عمل يتجاوز حدود الزمان والمكان.
إن الداعية إلى الله حين يخرج إلى الناس لا يخرج متكئًا على نفسه، ولا على علمه، ولا على قدراته، بل يخرج متوكلًا على الله، مفوضًا أمره إليه، مخلصًا النية، عارفًا أن الهداية بيد الله وحده، وأنه مجرد سبب من أسباب الخير. وحين يفنى عن ذاته، ويُسلم إرادته لله، يثمر الله جهده، ويبارك خطاه، ويكتب له البقاء في الأرض والسماء.
والدعوة إلى الله هي في حقيقتها دعوة إلى النجاة، دعوة إلى الجنة، دعوة إلى دار السلام، كما قال تعالى: (وَٱللَّهُ یَدۡعُوۤا۟ إِلَىٰ دَارِ ٱلسَّلَـٰمِ وَیَهۡدِی مَن یَشَاۤءُ إِلَىٰ صِرَ ٰطࣲ مُّسۡتَقِیمࣲ)
(يونس: 25)، إنها استثمار للحياة في ما يبقى، في ما ينفع، في ما يُثمر عند الله، (يوم لا ينفع مال ولا بنون؛ إلا من أتى الله بقلب سليم).
وما أجمل أن يعيش الإنسان حياته داعيًا إلى الله، يُحسن إلى الناس بالكلمة الطيبة، والموعظة الحسنة، والسلوك النقي، فيكون داعية بلسانه، وداعية بخلقه، وداعية بحاله. فهو يفنى عن حظوظ الدنيا، ويبقى في ظل رضا الله، يرحل جسده يومًا؛ لكن يبقى أثره في القلوب، وأجره يجري في صحائفه، وتبقى سيرته على الألسن..
إن الفناء في الحق عين البقاء، لأن الحق وحده باقٍ، وكل ما عداه إلى زوال؛ فمن جعل حياته لله، ولله وحده، أبقى الله له الذكر الجميل، والأجر العظيم، والمقام الرفيع. وكما قال أهل المعرفة: “إذا فنيت إرادتك في إرادة الحق، بقيت إرادة الحق فيك، فكان البقاء الحقيقي لك بالله لا بنفسك”.
فلنحرص أن نكون من الدعاة إلى الله بإخلاص، من الذين بذلوا جهدهم، وأفنوا أعمارهم في سبيل الحق، حتى ننال جنة عرضها السماوات والأرض، ونفوز بالبقاء الأبدي في دار الخلد، حيث لا نصب ولا لغوب.
نسأل الله أن يجعلنا من الداعين إليه على بصيرة، وأن يرزقنا الإخلاص والثبات، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه، فمن عمل لله بقي عمله، ومن دعا لله بقي أثره، ومن عاش لله بقي في رضاه إلى الأبد.