أذن بلال وأسمع الجبناءَ

بغض النظر عن النتيجة التي سيؤول إليها مشروع قرار منع الأذان، الذي ما يزال يجري تداوله على طاولة لجان البرلمان الإسرائيلي، وعلى طاولة حكومة نتنياهو الذي يقف هو شخصيا على رأس المطالبين بإقراره وإنفاذه، أقول: بغض النظر عن النتيجة، والتي لن تكون إلا واحدة من اثنتين؛ فإما شطبه، وعندها لن نقول لهم “شكرا”، وإما إقراره، وعندها سندوسه بأقدامنا، ولن يساوى الحبر الذي كتب به، لأننا لن نحترمه ولن نلتزم به.
فليس الحديث حول إقرار مشروع القانون أو شطبه، وإنما عن مجرد جعل منع الأذان مادة للتداول والنقاش، ليصبح وكأنه سلعة في بورصة العنصرية الإسرائيلية، حيث تظهر في أجلى صورها خبايا وضغائن الساسة الإسرائيليين.
إنه الأذان؛ نداء التوحيد ودعوة الفلاح وهتاف الأحرار. إنه النشيد الوطني الإسلامي؛ كان وما يزال وسيظل يذكّر من نسي دينه ومن غفل عن أن الله جل جلاله فوق الكبراء، وفوق العظماء، وله وحده وسبحانه الجلال والكبرياء.

الحسناء الروسية والحسناء اليابانية

ليس الحديث عن منع الأذان هو وليد الأسابيع الأخيرة، وإنما هو الوتر الذي يطرب بعض الموتورين على ألحانه الصاخبة. فقبل سنوات كانت عضو الكنيست من حزب ليبرمان؛ حزب “إسرائيل بيتنا”، واسمها “انستانسيا ميخائيلي”، وهي المهاجرة الروسية الشقراء، التي وصفها المواقع الإخبارية الالكترونية الإسرائيلية بـ “الحسناء الروسية”، تقدمت بمشروع اقتراح لمنع الأذان في المساجد لأنه يفسد البيئة، ويزعج من لا يعنيهم صوت الأذان.
إنها انتكاسة الفطرة، التي تجعل أمثال هؤلاء يقفون هذا الموقف، لعلمهم أن الأذان هو شعار الإسلام، وهو الذي يبدأ باسم الله من بداية الأذان: (الله أكبر الله أكبر)، وهو الذي ينتهي كذلك باسم الله: (لا إله إلا الله).
ففي مقابل انتكاسة فطرة الحسناء الروسية ووقع الأذان الثقيل على أذنيها، فإنها تلك الحسناء اليابانية “أياكو كورو كاوا”؛ زوجة سفير اليابان في الكويت، وخلال لقاء صحافي قبل سنوات، سألتها الصحافية عن رأيها كيابانية بالموسيقى العربية، فكانت المفاجأة لما قالت: (أحب صوت لدي هو صوت الأذان الذي أسمعه في اليوم خمس مرات).
وخلال تفاصيل حديثها قالت إن صوت الأذان يبعث فيها الطمأنينة والهدوء والراحة النفسية.
نعم، إن الموقف الرافض لسماع الأذان، من قبل الساسة الإسرائيليين، ليس مرده ارتفاع الصوت كثيرا أو قليلا، وإنما مرده حالة الكراهية وهستيريا وأنفلونزا العنصرية، التي راحت تنتشر بين مركّبات المجتمع الإسرائيلي، وفي مقدمتهم الساسة الإسرائيليون.

صوت الأذان بين محمود أبو رجب وبين رجب أردوغان

محمود أبو رجب؛ رئيس تحرير وصاحب صحيفة “الأخبار” التي تصدر في الناصرة، والذي أبى إلا أن يعزف على اللحن والوتر الذي يطرب ساسة تل أبيب، لما راح يدافع عن مشروع قرار منع الأذان. محمود أبو رجب اتصل بي قبل سنوات يطالبني بالتدخل والتأثير على بعض مسؤولي المساجد التي منها ينبعث صوت الأذان عاليا، وكانت القضية يومها عينية، وأنا شخصيا ليس لي اعتراض لمعالجة كهذه في تلك الحالة أو غيرها، وقد فعلتها.
لكن أن تدور الأيام ويصبح منع الأذان موقفا سياسيا عنصريا حاقدا، وهو جارف وشامل من قبل الساسة الإسرائيليين فهذا شأن آخر. وإذا بمحمود أبو رجب إياه، وفي كلمة العدد من صحيفة يوم الجمعة الأخير 18-11-2016 وفي أوج وغمرة وقوف أبناء شعبنا ضد هذا القرار العنصري، وإذا به يكتب مناصرا ومدافعا ومؤيدا لمشروع القرار، بل ويكتب ساخرا ممن طالبوا بإلغاء مشروع القرار هذا.
لا بل وصل الأمر بأبي رجب إلى حد الاستشهاد بمقوله ينسبها إلى الشيخ الشعراوي، لا ندري حقيقتها، ولا ندري ظروف قوله إياها، وإن كان قالها فلا شك أنها تعالج حالة عينية، ولا يمكن الاستدلال بها، لتأكيد عدم الحاجة لاستعمال الميكروفون بما يتوافق مع رغبة نتنياهو هو وبينت وغيرهما من العنصرين.
لقد وصل الأمر بأبي رجب لتشبيه صوت الأذان بـ”جعير الأبقار” لما قال: (لكننا جهرنا وجعّرنا.. ومكرفنّا جعيرُنا)؛ أي أننا أصبحنا نجعر بالمكيروفون بعد أن كنا نفعل ذلك بدونه. ثم ولا أدري صحة قياسه بأن المسلمين كانوا يؤذّنون بدون ميكروفون، وكانوا مؤمنين، فما الحاجة للميكروفون اليوم؟ حيث يهمز ويلمز بمن وقفوا ضد القانون لما يقول: (فأية مراءاة هذه وأي نفاق هذا؟ وما العلاقة بين استعمال الميكروفون وبين حرية العبادة؟ لقد عاش آباؤنا وأجدادنا قبل اختراع الميكروفون أكثر من ألف وثلاثمائة سنة على الأقل, عبدوا الله خلالها على أكمل وجه، ويستمر المؤمنون المسلمون بعباداتهم دون ميكروفون، واعتقدوا أن الله سيتقبل منهم صلاتهم دون استعمال الميكروفون بشكل أفضل). نعم، هكذا وبكل صراحة، ولعلي أجزم أن السيد أبو رجب لو سمع شيخا أو أي أحد من الناس يرفض استعمال المخترعات العصرية كالميكروفون لهاجمه وبشراسة، واصفا إياه بالرجعي والمتحجر والسلفي، بينما هو الآن يدعو بشكل واضح لعدم استعمال والاقتصار على الأذان بدونها، رغم اتساع البلاد والقرى، وكل ذلك على ما يبدو ليرضى من يريد إرضاءهم.
من هذا الذي يتجرأ ليشبّه صوت الأذان بصوت جعير الأبقار؟ وإنه ليظلم الشيخ الشعراوي- رحمه الله- في قبره، وهو يحمل كلامه بغير ما أراد. ولعلي أجزم بماذا سيكون موقف وفتوى الشيخ الشعراوي لو عرضت بين يديه قضية منع الأذان في القدس والأقصى والداخل الفلسطيني، حيث يلتقي الديني بالسياسي، وحيث العداء السافر للإسلام والمسلمين. وليس قضية أن الصوت مرتفع أو غير ذلك؟
وإذا كان هذا موقف أبو رجب النصراوي الفلسطيني الساخر المستهزئ بالأذان، فإن موقفا لرجب أخر هو رجب أردوغان التركي، يوم كان رئيسا لبلدية إسطنبول، وقد أصبح اليوم رئيسا لجمهورية تركيا. إنه موقف اعتزازه بالأذان الذي كان ثمنه أن دخل السجن، ورفض أن يتراجع لما ساوموه على ما قال. وما قاله كان أبياتا من الشعر هي أصلا للقائد السلجوقي التركي “أكبر ارسلان” والتي تقول:
( المنارات- أي المآذن- حرابنا، والقباب خوذتنا والمساجد ثكناتنا)
إنه الاعتزاز بالمساجد ودورها، وإنه الافتخار بالمآذن؛ شبهها بالرماح الموجهة إلى صدور الأعداء. أي شموخ وأي كبرياء يحملها رجب التركي بتاريخه وبدينه وبالأذان وبالمساجد؟ وأية هزيمة، وأي هوان يحمله أبو رجب الفلسطيني؛ ابن صفورية، وهو يشبه الأذان بجعير الأبقار، ويدعو لإخراسه؟
لقد سجن رجب أردوغان ثمانية أشهر في العام 1998 لأنه رفض الاعتذار، ورفض التراجع أمام هجوم العلمانيين، وأمام القوانين العلمانية التي أرادت مواجهة كل من يدعو إلى التمسك بالهوية الإسلامية.
وإننا على نهج رجب التركي، سنرفض هذا القرار الظالم ولن نحترمه، ولن نلتزم به، ولو كان ثمن ذلك السجن. نعم، إن المآذن هي رماح الحق في وجه الباطل، وإن المساجد هي قلاعنا وحصوننا التي تحمي ديننا وأفكارنا وهويتنا، ولا يمكن أبدا أن نكون على نهج أبو رجب الصفوري النصراوي المهزوم من داخله، بل المصطف والواقف إلى جانب من يتمنون لو أنهم يستيقظون صباحا فلا يجدون واحدا منا، فكيف لا يعملون لإسكات صوت الأذان، الذي لن يسكت ولن يصمت أبدا بإذن الله تعالى.

قم يا بلال

لو أنك سألت طفلا ابن أربع سنوات من أصحاب البشرة الصفراء في هضاب الصين: من هو مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم؟ لقال لك: إنه بلال الحبشي. ولو سألت طفلا مثله أشقر الشعر أزرق العينين في البوسنة أو الشيشان، لقال لك: إنه بلال الحبشي. ولو سألت نفس السؤال لذلك الطفل الأمازيغي في جنوب صحراء الجزائر، لقال لك: إنه بلال الحبشي. ولو سألت ذلك الطفل الأسمر من أطفال الزولو وسط جنوب أفريقيا لابتسم وقال: إنه بلال الحبشي.
إنه بلال الحبشي؛ مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومن صدح بنداء التوحيد الخالد في بطحاء مكة، إنه بلال صاحب مقولة: أحد أحد، حينما كان يعذَّب ويسام سوء العذاب، ويراد له أن يفتن عن دينه، وأن يكفر بالله وبرسوله- صلى الله عليه وسلم.
لقد انطلق نداء التوحيد واقترن ذكر النداء بذكر بلال، انطلق نداء التوحيد من فم بلال الأسمر البشرة ليملأ جنبات الكون نورا وضياءً وإشراقا، انطلق نداء التوحيد عبر السنين، لم يمنعه ولم يستطع منعه طاغية ولا جبار ولا محتل. فعلها بعضهم لكنهم مضوا ورحلوا، بل وطمرتهم مزابل التاريخ، وبقي صوت الأذان الخالد.
إنه نداء التوحيد. نعم، ينادى به للصلاة، ونعم، ينطلق من منارات ومآذن المساجد، لكن “الله أكبر”؛ تلك العبارة المباركة الأولى في الأذان كانت دائما تقال ونصدح بها في وجه كل طاغية وكل جبار عنيد.
فتية الإسلام إنْ باغٍ تجبر
فاصرخوا في وجهه “الله أكبر”
وإذا الغادر عن لؤم أشاحا
فاطلقوها صرخةً “الله أكبر”
ومن القرآن فلنقتبس هدانا
كبروا يا إخوتي “الله أكبر”
إنه أذان بلال؛ سمعه الفرس، وسمعه الروم، وسمعه الأسبان، وسمعه الهنود، وسمعه الصينيون، وسمعه التتار، وسمعه الصليبيون، فكان إذا دوّى في جنبات ديارهم قذف في قلوبهم الرعب. وإنه الأذان سمعه الإسرائيليون ويسمعونه ولن ينخرس؛ لا من مآذن الأقصى، ولا من مآذن عكا وحيفا ويافا بإذن الله تعالى.
لترجع القبلة الأولى مُطهرةً
من كل لص ووغدٍ وخوان
ولنلتقي في ثغور الأمس ضاحكة
حيفا وعكا ويافا ثم بيسانِ
لكي تعود تدوّي في مآذنها
“الله أكبر” من آنٍ إلى آنِ

إن ما تفعله حكومة نتنياهو والمؤسسة الإسرائيلية من تحد وقح وصلف غير مسبوق، عبر استمرار استهداف المسجد الأقصى وتدنيسه، وعبر سن قوانين تمنع الأذان في فلسطين؛ أرض الرسالات، أرض الإسراء والمعراج، الأرض المباركة، فإنه إن دل على شيء فإنما يدل على عمى قلب وعلى حماقة لن يذكر التاريخ نتنياهو إلا بها، وأنه شقي قومه الذي جلب عليهم الكوارث والويلات بسبب هذه الحماقات وهذه السياسات.
إنها المؤسسة الإسرائيلية وإنها حكومة نتنياهو التي لا أظنها تجهل قاعدة الفيزياء، التي تقول إن لكل فعل رد فعل مساو له في القوة ومعاكس له في الاتجاه، وإن فعلهم وقوانينهم بمنع الأذان واستهداف وتدنيس المسجد الأقصى حتما ستقود إلى رد فعل معاكس، وسيكون عبر فهم معالم الصراع وهويته، وأنه صراع ديني عقائدي. وسيدفع باتجاه مزيد من الانتماء للهوية الدينية الإسلامية، وإنه حتما- وإن طالت الأيام أو قصرت- سيكون الحسم الذي لا بد منه. وصراع عقائدي ديني حضاري حتما ستكون المؤسسة الإسرائيلية هي الخاسر الأكبر فيه.
إنه بلال الأسمر، الذي طالما نزلت قدم أمية بن خلف على رقبته وهو ملقى على الأرض، تنهش السياط جسده، إنه بلال الذي نهض يوما وانتقم من أمية بن خلف وهو يقول: “رأس الكفر أمية! لا نجوتُ إن نجا”. إنه بلال الذي رفض أن تظل قدم أبي جهل وأبي لهب وأمية على عنقه إلى الأبد.
ها هو بلال اليوم، ها هو شبل الإسلام في كل بلاد العرب والمسلمين، رغم الآلام، ورغم الجراح، ورغم الدمار فإنه نهض وهتف ونادى وكبّر، وقال للظلمة والطواغيت: لن تظل أقدامكم على عنقي إلى الأبد، ولن تظل قدم الاحتلال الإسرائيلي في الأقصى تدنسه إلى الأبد، ولن ينجح هذا الاحتلال لا بأن يخرس صوت الأذان، ولا في أن يمنع بلال من أن يعود لينادي في الدنيا كل الدنيا: الله اكبر الله أكبر.. فقم بلال وأسمع الجبناءَ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى