السر في الحلاوة
أحاديث كثيرة تركز على حلاوة الطاعات، وحلاوة الإيمان، وتمكنها من القلب، وتؤكد أن المرء اذا سلك لها السبل، وقدم لها أسبابها فلا بد أن يجدها ابتداء «حلاوة في قلبه» تحلو بها وتزكو حياته، فالدين ما نزل لنشقى بأي من تكاليفه مهما بدت صعبة في لحظة تتعارك فيها نفوسنا مع عظمة العبودية والتسليم، بل إن عباد الرحمن بلغوا أوج العظمة بتمثلهم تلك المنزلة التي أعطتهم بعد الامتثال قرة العين والإمامة، وأي حلاوة يبتغيها المرء بعد هذه؟!
وفي معاني الحلاوة معانٍ أكبر من مجرد لذة حسية او سعادة قلبية، إن فيها قوة في الإيمان تجعلك تؤدي الفرائض والأوامر والنواهي بقناعة وعزم وقوة وادراك للمرامي، فمثلا الحلاوة المبتغاة في حديث غض البصر: «النظرة سهم من سهام ابليس من تركها مخافتي أبدلته حلاوة يجدها في قلبه»، ليس الوصول فقط الى حالة درء الرذيلة، بل الى حالة عدم تمنيها أصلا، ليس الى حالة الانقطاع، بل حالة الامتناع وعدم الرغبة.
ان الحلاوة لا تبقيك في دوائر الخطر تؤذيك كل لمحة، وكل استدارة وكل خطأ، الحلاوة تجعلك تصبح مكينا في ايمانك واثقا في سلوكك متينا في تصرفاتك، فتغض من بصرك دون أن يتهدج صوتك، او تحمر وجنيتك، او تمور العواصف المخفية بقلبك، ان الحلاوة تجعلك أقوى حجة، واكثر اتزانا وأبصر رؤية وأشد عزيمة لا تعيقك الملهيات، بل تملك كل خيوط التركيز على الشخوص او المهمات، كل هذا تفعله وأنت تغض من بصرك غض الواثق الفخور المقدام الى الأمام، لا غض الخجل الوجل الذي يخاف ان يهوي في جهنم.
إن الدين أتى ليكون حالة صحية، وليس فقط معالجة لمرض، فردُّ الرسول صلى الله عليه وسلم على الشاب الذي جاء يستأذنه في ممارسة الزنى لم يكن انكارا ولا تعزيرا، بل كان محاورة عقلية واستفزازا قلبيا ثم دعاء وقائيا قال فيه: «اللهم طهر قلبه، واغفر ذنبه، وحصن فرجه»، فالحصانة جاءت أخيرا مع انها المطلوب الأول في هكذا حالة؛ لأن طهارة القلب، وهي الأصل، والأهم ان تحققت فستكون مفضية الى الحصانة والعفة والفضيلة، أما من فقد المقدمات فقد لا تتحقق له النتائج!
تنطبق هذه الحلاوة على كل العبادات، فالصلاة ان لم تجعلك هينا لينا رحيما منظما مفكرا تأخذ من صراط الفاتحة صراطا مستقيما لتقف عليه بقية حياتك، فأنت بعد لم تجد حلاوتها!
الحجاب ان لم يجعلكِ أكثر تفاعلا وحيوية وانطلاقا، فأنت حجبت نفسك، ولم تتحجب، ولم تفهم معنى الحجاب ولا رسالته، ان لبست الحجاب وانت تريدين ان تظهري بنفس الجمال والالوان التي تكونين فيها من غيره، فأنت أيضا لم تجد حلاوة الحجاب، ان شعرت بوطأة الحجاب وبثقل ارتدائه على نفسك، فأنت أيضا لم تجد حلاوته، ولم يصبح شيئا من شخصيتك وهويتك، بل مجرد قطعة من قماش لا معنى لها!
الحلاوة ليست شيئا حصريا لمن يبحث عنها، بل يجب ان تكون بغية كل المؤمنين فهي المعنى الحقيقي لتفاعلك مع الدين، ولتغييره لك، إنها ليست شعورا، يحس به البعض، ويفتقده المعظم، إنها المحصلة والنتيجة والقياس لحسن أدائك!
هي هناك موجودة ومضمونة، فمن لم يجد طعمها، فليراجع أعماله ففقدان الروح في العمل قد يؤدي الى تركها بالكلية، وفصلها عن واقع الحياة يفقدها معناها، وإنما ثبت من ثبت، وارتقى من ارتقى، وعلا من علا لحلاوة ايمان ذاقوها في القلوب والحياة، واللبيب لا يفرّط بعد أن ذاق.