عجل الذهب والرقص عند أبواب الأقصى

لم تعد مظاهر وسلوكيات التطرف والعنصرية مقتصرة على مشجعي فريق “بيتار القدس” من المهووسين الكارهين للعرب والفلسطينيين، ولا على الباعة البلطجية في سوق الكرمل في تل أبيب، ولا على مجموعات المستوطنين الذين يرضعون مع حليب أمهاتهم، العنصرية والكراهية والحقد على كل ما هو مسلم وعربي وفلسطيني.
ولأن المجتمع الإسرائيلي كله راح يتجه يمينية “وعنصرية”، فإن من الطبيعي أن يفرز هذا المجتمع قادته ونخبته السياسية والعسكرية، وحتما سيكونون عينات هذا المجتمع، لا بل إنهم الذين سيزدادون عنصرية ويتنافسون فيما بينهم من يكون أكثر عنصرية من غيره، لأن عينه ستكون على المستقبل والانتخابات القادمة حيث يتطلب الفوز في مواقع قيادية أن يكون ذا مواقف أكثر يمينية وأكثر عدائية لشعبنا وأمتنا.
ولأن من يتصدر المشهد كله هو نتنياهو فإن من الطبيعي أن ينتهج كذلك نفس النهج، وألا يقدم ولا يختار في تركيبته الحكومية إلا من يرضى عنهم المجتمع الإسرائيلي، حيث علامة الرضى هي المواقف العنصرية. لذلك فإن تركيبة حكومة نتنياهو، إضافة إلى حزب الليكود فإنه حزب البيت اليهودي وحزب ليبرمان وحزب شاس ومن هم على شاكلتهم من أصحاب المواقف العدائية والشريرة.
رغم مكانة رمضان وقدسيته، ومكانة المسجد الأقصى المبارك وقدسيته إلا أن هذا لا يعني شيئا بالنسبة للحكومة الإسرائيلية، واستمرار بل والتشديد في تضييقها على الفلسطينيين الوافدين إليه، لا بل إنه أكثر من ذلك، حيث يشاهد وزير الآمن الداخلي المسؤول عن الشرطة وهو يرقص ويغني مع مجموعة من العنصريين المشهورين، بل وينشر نفسه هذا المقطع المصور على صفحته الرسمية على الفيسبوك؛ هذا الرقص والغناء والدبكة الدينية تتزامن مع ما يسمى ذكرى احتلال القدس وتوحيدها في 5 حزيران، ومع ما يسمى عيد “نزول التوراة” حيث في ذلك الجمع وحفلة الرقص العنصرية يقول الوزير غلعاد اردان: “القدس عاصمتنا، القلب النابض للشعب اليهودي، حقنا على هذه الأرض يبدأ من هنا”. إنها نفس مضامين كلام نتنياهو الذي أكد بنفس السياسة على أن القدس لن تقسم، وأنها ستبقى عاصمة إسرائيل الأبدية والموحدة.
إن حفلات الرقص المشهورة، مع رفع الأعلام الإسرائيلية، والتي شارك فيها الوزير، هي جزء من المشهد الكبير الذي تمثل بيوم كبير لمسيرات حمل الأعلام والطواف بها في شوارع وحارات وأزقة القدس العربية وعند بوابات المسجد الأقصى المبارك في حالة تحد وصلف ووقاحة لأهلنا في القدس، حيث من يحمي حفلات الرقص والدبكة وحمل الأعلام هي الشرطة والمسؤول عنها الوزير أردان.
من يكون هؤلاء يا ترى الذين يضربون عرض الحائط مشاعر وعقيدة 1600 مليون مسلم وعربي وفلسطيني وحقهم في القدس والمسجد الأقصى المبارك. من يكون هؤلاء الذين بتصرفاتهم وسلوكياتهم يصبون الزيت على نار القدس المشتعلة، من يكون هؤلاء الذين يثيرونها حربا دينية سافرة بكل ما في الكلمة من معنى، حيث يضعون التوراة في مواجهة القرآن، والسبت في مواجهة الجمعة، وحيث يريدون الهيكل المزعوم مكان المسجد الأقصى المبارك.
إن هذا الجيل من بني إسرائيل؛ هو جيل التطاول والغرور وعدم الواقعية، بل وعدم الشكر لله تعالى، بل إنه جيل الظلم والقهر والعدوان والاستكبار على الله تعالى وعلى عباده، وإلا فكيف يمكن لعاقل أن يقبل أقدام شرطة الوزير أردان مساء يوم الخميس؛ اليوم الرابع من أيام رمضان، على منع وصول ودخول الشاحنات التي تحمل وجبات إفطار الصائمين في المسجد الأقصى، مع علمهم بما تحمله، حيث حرم الصائمون من الإفطار، واضطرت الجهات القائمة على الأمر توزيع الطعام في بعض أحياء القدس وبعض المخيمات القريبة.
إن هذا الجيل من بني إسرائيل يريد أن يحيي جيل التمرد والتطاول والاستكبار على موسى، بل وعلى رب موسى جل جلاله، بما كانت منهم من مواقف تمرد وتطاول خلال الفترة التي أعقبت خروجهم من مصر إلى سيناء، وخلال نزول التوراة وتحطيم الألواح من موسى عليه السلام، واتخاذهم عبادة العجل من دون الله ب العالمين.
إنهم، وبعد إذ رأوا آيات الله ومعجزاته سلطها على فرعون الظالم وقومه الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، فلم تلِن قلوبهم القاسية، إنهم وبعد إذ رأوا البحر ينفلق بعصا موسى، وخرجوا سالمين دون بلل، وبعد عبورهم البحر سألوا موسى إلها لهم، في مشهد صوره القرآن الكريم: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَـهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ) آية 138 سورة الأعراف. وذلك بعد أن رأوا قوما يعبدون صنما فأرادوا أن يكون لهم صنم يعبدونه من دون الله. وإنهم الذين رأوا المن والسلوى يتنزل عليهم. وإنهم رأوا آيات الله الكثيرة والتي لا مجال لذكرها، بعد ذلك كله ولما ذهب موسى ليتلقى التوراة من ربه وإذا بهم يصنعون عجلا من ذهب ليعبدوه من دون الله: (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ) 148 سورة الأعراف.
وما أن رجع موسى عليه السلام حتى وجد قومه يعبدون العجل ويطوفون حوله في موقف تشكيك وشرك؛ تشكيك بموسى أنه ذهب ولن يعود، وشرك بالله تعالى الذي أنقذهم من ظلم فرعون، إنهم فعلوا ذلك في مثل هذا العيد الذي احتفلوا به يوم الأحد الأخير بما يسمى عيد نزول التوراة.
يبدو أن عبادة العجل لم تكن لفترة زمنية ولأفراد معينين وفي ظرف كان وانتهى، وإنما عبادة العجل هي حالة تشرّبوها في دمائهم (وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ). إن عقدة العجل وعبادة العجل وسلوك العجل حالة ملازمة لبني إسرائيل من العام 1220 قبل الميلاد، وهي نفس الحالة تلازمهم في العام 2016 بعد الميلاد. ولقد أوردت صحيفة “يديعوت أحرونوت” في عددها الصادر يوم الجمعة الأخير 10-6-2016 وفي الملحق الخاص بعيد نزول التوراة، تقريرا عن مهرجان يقام في صحراء النقب منذ سنوات راح يجذب إليه آلاف المشاركين، حيث أبرز فقرات هذا المهرجان- كما قالت الصحيفة بالحرف الواحد والنص الصريح: (الرقص حول عجل الذهب)، حيث تمت صناعة عجل ذهبي وراحوا يطوفون حوله ويرقصون في شبه عري كامل، لكنهم قالوا إنه (عري غير جنسي). ولا أدري ما الفرق بين تعرّ جنسي وتعرّ غير جنسي؟!
مما يجدر ذكره أن جمهور هذه الظاهرة هم أطباء ومحامون ومهندسون، وأن المبادر المسؤول ليس إلا رجل الشاباك والحارس الشخصي السابق لنتنياهو المدعو “نير أدان”.
إن من يطوفون اليوم حول العجل الذهب في صحراء النقب هم حتما امتداد لمن كانوا يطوفون حول عجل الذهب في صحراء سيناء، وهم الذين يطوفون اليوم حول أسوار القدس، وحول بوابات المسجد الأقصى المبارك، يتقدمهم وزير الأمن الداخلي غلعاد أردان، والحاخامات ونواب في الكنيست وغيرهم.
يبدو أن الحكومة الإسرائيلية وسلوكها ونزعتها العنصرية لا تتوقف عن حد، وأن حالة الغرور والعنجهية التي هي عليها جعلت قسما من الإسرائيليين يسلكون نفس سلوك أجدادهم من تمرد وطغيان وفساد يصل إلى حد العودة إلى عبادة العجل من دون الله رب العالمين.
وإنني على يقين بما قاله الله سبحانه: “إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ” 152 سورة الأعراف، وأن هذه الذلة وقعت عليهم يومها، وستقع عليهم اليوم جراء هذا الغرور وهذا الصلف، وجراء استمرار استهداف المسجد الأقصى المبارك، والدفع باتجاه حرب دينية يعلنونها ضد شعبنا وأمتنا، حتما سيكونون هم الطرف الخاسر فيها.

ليبرمان شقي قومه

وللدلالة على ما سبق من نهج هذه الحكومة، وأنها تسعى إلى الصدام في حرب دينية أجزم أن إسرائيل هي الطرف الخاسر فيها، وأن نيران الحرب التي تسعّرها وتشعلها فإنها ستحرق أول ما تحرق اليد التي أشعلتها.
إن من أبرز دلالات هذا التوجه هو تعيين الحاقد الدموي ليبرمان وزيرا للحرب في حكومة نتنياهو، لكأن بنتنياهو يريد أن يرسل رسائل للفلسطينيين والعرب والمسلمين بأنه قد جعل في مقدمة جيشه هذا “المخلوق العجيب”، فالويل كل الويل لكم أيها العرب، أيها المسلمون من “السوبرمان ليبرمان”.
قديما وحينما كانت تدور المعارك بين الجيوش فإنها كانت تبدأ بالمبارزة في الميدان، في الأرض الفاصلة بين الجيشين. وكانت بعض الجيوش تعتمد تكتيك أن تقدم للمبارزة أشهر أبطالها حتى يحسموا المعركة من البداية بقتل أبطال الطرف الآخر فتدب بينهم الهزيمة المعنوية، بينما كان البعض الآخر يعتمد تكتيك تقديم فرسان أقوياء وإبقاء الفرسان الأقوى والأبطال إلى آخر جولة، فإذا لم ينتصر فرسانهم الذين قدموهم على أبطال الجيش الآخر يبقى عندهم الأمل بذلك البطل الذي لم يقل كلمته بعد، وأنه صاحب القول الفصل في ساحة النزال.
يبدو أن نتنياهو قد اختار التكتيك الثاني، فادّخر ليبرمان لأصعب الجولات وأخطرها، وكأنه يريد أن يرمينا “بأرطبون اليهود”، كما قال ابو بكر الصديق رضى الله عنه لما وجه عمر بن العاص لقتال الروم وأشهر قادتهم فقال: (لأرمين أرطبون الروم بأرطبون العرب)، أي داهية العرب وأشهر فرسانها.
صحيح أن ليبرمان حارسٌ سابق لبيوت دعارة وملاه ليلية في مولدوفا؛ بلد مولده، وصحيح أنه هدد بتدمير السد العالي لإغراق مصر، وصحيح أنه هدد بقتل إسماعيل هنية خلال 48 ساعة إذا لم يسلّم جثامين الأسرى الإسرائيليين, وصحيح أنه صاحب تصريحات نارية وفي مناسبات كثيرة، لكن نتنياهو سَيَخيبُ أمله ويلطم خده عندما يعلم أن ليبرمان لن يكون إلا كما قال المثل الشعبي: (فكرنا الباشا باشا طلع الباشا زلمة)، فهو لن يكون سوبرمان وحيد زمانه، وأسطورة عصره، إنما سيكون شقي قومه الذي عقر الناقة في قصة نبيّ الله صالح مع مع قومه ثمود: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا) 10-14 سورة الشمس.
إن الذين طافوا حول عجل الذهب يومها ورقصوا حوله، وإن من يطوفون اليوم حول عجل الذهب ويرقصون حوله، وإن من يطوفون اليوم ويرقصون عند أبواب المسجد الأقصى يحملون الأعلام ويصرخون ويضربون ويشتمون، إن هؤلاء في حفلة السكر هذه وحفلة العنصرية هذه، واستمرار تدنيسهم للمسجد الأقصى المبارك إنما هم الذين يستعجلون ساعة غضب الأرض وغضب السماء عليهم لما يأذن رب السماء لعباده في الأرض بالبدء بساعة القصاص: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا)، عند ذلك سيدرك نتنياهو أن رهانه على ليبرمان كان رهانا خاسرا، وأنه راهن على حصان أعرج وعلى فارس أهوج، لا يجيد سوى الصراخ والجعجعة، حيث الكلمة الفصل ساعتها لفرسان السِّنان وليس لفرسان اللسان. وإن غدا لناظره قريب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى