لا تستوحشوا طريق الحق

مع كثرة وتزايد الظلم والقهر، وتسلط الأعداء، وخيانة الأنذال, ومع استمرار موجات الاستهداف للمشروع الإسلامي بهدف استئصاله والقضاء عليه، حيث يصيب بعض أبناء هذا المشروع الشعور بالأسى، بل قد يصل إلى اليأس عند بعضهم، ولأن هذا الشعور له انعكاساته ولأنني على يقين وفي داخلي عكس هذا الشعور- والحمد لله- فإنها ملاحظات ينبغي أن أذكّر بها من نسي، وأوقظ بها من غفل؛ إنها ملاحظات من صميم فهمنا لإسلامنا العظيم، ومن دورة الأيام، ومن قراءة التاريخ ومن ثوابت دعوتنا التي آمنّا بها وسلكنا طريقها وتشرفنا بالانتماء إليها، وإننا سنحيا ونموت على هذا الانتماء، بإذن الله تعالى.

الحركة الإسلامية وسيلة وليست غاية:

نعم، إننا انتمينا للحركة الإسلامية ليس لذاتها، فالحركة ليست دينا جديدا ولا مذهبا جديدا، وإنما هي منظومة جماعية لخدمة الإسلام، لها أهدافها، ولها وسائلها ولها رؤيتها، فالحركة الإسلامية- إذًا- هي وسيلة لخدمة الإسلام وليست غاية. وهذا معناه أن هناك غيرنا ممن يعملون بوسائل أخرى على شكل جماعي وتنظيمات وحركات لخدمة الإسلام. والحركة الإسلامية جماعة من المسلمين، وليست جماعة المسلمين، وهذا معناه أيضا أن هذه الوسيلة، إذا مُنِعْنا من استخدامها والعمل تحت رايتها، فليس معناه أننا سنتخلى عن خدمة ونصرة الغاية، التي هي الإسلام الذي لا نستطيع إلا أن نتنفس هواءه، وإلا فإنه الموت والفناء.
صحيح أننا نعتقد بصواب مشروع الحركة الإسلامية ونهجها، وأنها تتبنى الوسطية والشمولية في فهم الإسلام، لكنّ هذا ليس معناه أننا نحتكر حب الإسلام والغيرة عليه، دون غيرنا ممن لهم وسائل أخرى في خدمة الإسلام.
وعليه فإنني أقول بعالي الصوت وملء الفم للذين أصدروا قرارهم الظالم بحظر الحركة الإسلامية يوم 17-11-2015، وقد ظنوا أنهم سددوا ضربة قاضية للمشروع الإسلامي؛ إن هذا هو الغباء بعينه والغرور بعينه والوهم بعينه! نعم، إننا مُنعنا من خدمة الإسلام عبر هذه الوسيلة، لكنها ألف وسيلة ووسيلة أخرى سنعمل من خلالها وسنستمر في خدمة الإسلام ونصرته، فإذا ظن هؤلاء الأغبياء أن الحركة الإسلامية ثوب وخلعناه، فإننا نقول لهم إن الإسلام هو أكسجين الحياة وإكسيرها، وإنه يجري في أجسادنا كجري الدم في العروق. وهل للإنسان أن يعيش بغير أوكسجين؟!

لسنا غصنا مقطوعا من شجرة:

صحيح أن ظروف نشأة الحركة الإسلامية كانت ظروفا غير عادية، إذ نشأت في واقع معادٍ وحاقد، ودون تواصل مع بعدنا الفلسطيني ولا عمقنا العربي والإسلامي، لكن الفهم الذي نشأت عليه الحركة الإسلامية، منذ نشأتها وحتى قرار حظرها الظالم، هو الفهم الوسطي الشمولي الذي كتب فيه وربَّى عليه الشيخ القرضاوي والشيخ الغزالي والشيخ محمد أحمد الراشد، والشيخ فتحي يكَن والشيخ الغنوشي والشيخ محمد محمود الصواف والشيخ مصطفى السباعي وغيرهم، وكل هؤلاء فإنما تربوْا بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال مدرسة الإمام الشهيد حسن البنا رحمة الله، ومدرسة جماعة الإخوان المسلمين.
صحيح أنها لم تكن يوما أية علاقة تنظيمية خارج حدود الوطن الفلسطيني، بطبيعة الظروف التي نحن فيها أهلَ الداخل الفلسطيني، ولكن المراقب لما يجري من حرب سافرة على المشروع الإسلامي في مصر وفي الأردن وفي سوريا وحتى في الضفة الغربية وقطاع غزة وفي مناطق كثيرة في العالم، فإنه يجدها نفس الوسائل والأساليب؛ من القمع والاعتقالات والسجون والملاحقات والحظر والإخراج خارج القانون والتصنيف بالإرهاب، زيادة على حملات التشويه الإعلامية التي تسخّر لها ماكينة إعلام الأنظمة والحكومات التي تبوء بوزر هذه الحرب السافرة.
نعم، لسنا غصنا مقطوعا من شجرة، وإنما هو غصن وارفٌ من شجرة مباركة لا شرقية ولا غربية أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، وإنما نحن هذا الغدير والجدول الذي يصب، وله امتداده مع النهر العظيم الجارف الذي اسمه المشروع الإسلامي والمشروع الذي يسعى دعاتُه ورواده إلى العمل لإعادة تحكيم شرع الله في الأرض، وإعادة سيادة المسلمين في هذه الأرض، وألا يظلوا كالأيتام على موائد اللئام، واسترداد ما سلب واغتصب من أرض المسلمين ومقدساتهم.
وإذا ظن أعداؤنا أنه بقطع غصن من هذه الشجرة أنها ستجف وتيبس وتموت، أو أنه بطمر منبع جدول من الجداول التي تصب في النهر الكبير فإن هذا النهر سينضب ماؤه، فإنما هو الغباء بعينه، لأنها الشجرة التي إن جف منها غصن فإن أغصانا أخرى ستبرعم، وإن جف جدول أو نهر صغير فإن ينابيع كثيرة ستتدفق لتصب في هذا النهر الهادر الذي اسمه المشروع الإسلامي. وسيدرك أعداؤنا أنهم كانوا مثل الصبيان الصغار الذين يثيرون الغبار ليحجبوا نور الشمس, لكن أنَّى لهم ذلك؟! فها هي شمس المشروع الإسلامي تشرق ويملأ نورها جنبات الكون. وإن هذا لا يخفى إلا على من في عينيه رمد أو أصيب بعمى البصر أو البصيرة.

ضريبة الانتماء والهوية:

إننا لا نتردد في القول، لا بل قلناها كثيرا، إن القرار الظالم بحظر الحركة الإسلامية كان هو الثمن الذي أريد للحركة أن تدفعه بسبب موقفها الثابت وحفاظها على ثوابتها وهويتها الفلسطينية والعربية والإسلامية.
هذا هو موقف الحركة الإسلامية، قبل حظرها. وهذا هو موقف أبنائها الذين لن يقيلوا ولن يستقيلوا كأبناءَ للمشروع الإسلامي المبارك، رفضوا المساومة في قضية حقنا الأوحد، كمسلمين وكعرب وفلسطينيين، في القدس والمسجد الأقصى، وأن الأقصى كل الأقصى لنا؛ ما فوق الأرض وما تحت الأرض، وأن سيادة الاحتلال الإسرائيلي عليه هي سيادة باطلة، وأنها تفرض بقوة السلاح والبطش، وأن هذا المكان اسمه المسجد الأقصى وليس هيكلا ولا معبدا، ولن يكون غير ذلك، وأنه لا يقبل القسمة ولا المشاركة لا زمانا ولا مكانا.
ولأننا قلنا، ومازلنا نقول، إننا مسلمين وإننا عربا وإننا فلسطينيين، نعيش في وطننا فلسطين وفي أرض آبائنا وأجدادنا، وإننا لسنا نحن الذين وفدنا إليها وإنما غيرنا هم الغرباء الوافدون، الذين اغتصبوا أرضنا وشردوا أهلنا وشعبنا وما يزالون.
نعم، إن المبادئ لا يساوَم عليها، وإن الثوابت خارجة عن حسابات بورصة التهديد بالاعتقال، أو القتل، أو الحظر. وإن الأوطان والمقدسات ليست ملكا شخصيا لأحد حتى يتصرفَ فيه ويخضعَه لظروفه ومصالحه، أو وضعه النفسي، هكذا تعاملنا وهكذا فهمنا هويتنا الوطنية والدينية والقومية.
صحيح أن هذا جعلنا في عين المؤسسة الإسرائيلية أعداء، ولكنه- ومع الأسف- جعلنا في أعين السماسرة والنخاسين وتجار الأوطان والمضاربين في بورصة المبادئ والثوابت مغامرين و”حاملين للسلم بالعرض”، وأننا “نسبح عكس التيار”، وأننا غير واقعيين وغير عقلانيين ولا نملك رؤية بعيدة، إلى غير ذلك من هرطقات ومصطلحات ومدرسة”الحيط الواقف”، ومدرسة “الواقعية”، ومدرسة “بوس الكلب من ثِمُّه تتوخذ حاجتك منه”، ومدرسة “الكف ما بتلاطم مخرز”، ومدرسة “جوز إمي هو عمي”، ومدرسة “حط راسك بين هالروس وقول يا قطاع الروس”.. هذه ليست مدارس ،وإنما الذين يقبلون بها صغارٌ دون روضة الأطفال، تسترضيهم أو تخوفهم بأي شيء فيرضون ويخافون.

نلتقي ولا نلتقي:

إننا نلتقي مع كل من يعمل لخدمة شعبنا ونصرة قضاياه الوطنية من الأحزاب والحركات السياسية في الداخل الفلسطيني، حتى لو اختلفنا وتباينت آراؤنا في بعض القضايا. وإننا نحرص على أن نلتقي على المشترك الذي يجمعنا، ولا نفترق عند الذي تختلف فيه مواقفنا وتتباين فيه آراؤنا.
لكننا أبدا لا نلتقي مع من له أجندات وحسابات خارجية، أو الذي نتبيّن أنه يؤدي خدمة لمشروع يعادي شعبنا وأمتنا، ويطغى على مشروعه الوطني وهويته الدينية، مهما حاول هؤلاء أن يغلّفوه أو يُلبسوه عباءة الحرص والمصلحة.
وإننا نلتقي مع كل من يعمل لخدمة الإسلام ونصرته من جماعات ومدارس في ساحة العمل الإسلامي، مهما كانت الأسماء واللافتات التي تعمل تحتها، ما دام الاختلاف هو في الوسائل فقط.
لكننا لا نلتقي أبدا، ولن نلتقي مع أية حركة أو جماعة؛ مهما كان اسمها ولافتتها وبريقها، إن كانت تعتمد تكفير المسلمين وتستبيح دماءهم وأعراضهم وأموالهم. وبالموازاة فإننا لن نلتقي أبدا مع أية حركة أو جماعة أو صاحب لقب أو مكانة دينية، مادام هؤلاء يجعلون أنفسهم مطايا لخدمة الحكام الظالمين وتبرير حربهم على المشروع الإسلامي.

لا تستوحشوا طريق الحق لقلة السالكين:

إنها وصية الإمام علي ابن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه. إنها وصيته لأهل زمانه ولأهل زماننا وكل زمان. إنها وصيته للذين اختاروا السير في موكب الإيمان وتحت راية الإسلام، وإذا بهم يجدون أنفسهم في صحراءَ، تهاجمهم وحوشٌ كاسرة وكلاب جائعة. وإذا بهم يجدون أنفسهم في سفينة في بحر هائج تضربه الأمواج والعواصف من كل ناحية.
إن الذي اختار لنفسه طريق المشروع الإسلامي ونصرة الدين والسير تحت راية محمد صلى الله عليه وسلم، فإن عليه أن يعلم أن كثيرين سيُعادونه ويسعون لعرقلة مسيرته. هكذا كان حال الأنبياء والمصلحين والدعاة، حتى أن أنبياءَ سيأتون يوم القيامة وليس معهم إلا أفراد قلائل، بل إن أنبياء سيأتون يوم القيامة وليس معهم أحد كما؛ ورد في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذا ليس معناه أن طريق ورسالة ودعوة هذا النبي الكريم كانت غير صحيحة.
أمَا وإنها الحرب السافرة اليوم على أبناء المشروع الإسلامي، يشترك بل وينسق فيها أعداؤنا مع بعض أبناء جلدتنا وأمتنا من أصحاب الهوى والمصالح، ومن الطواغيت والحكام، بل ومن بعض أشباه العلماء الذين يتاجرون بالدين من أجل عَرَض زائل من أعراض الدنيا. إنها الحرب الضروس والسهام الحاقدة توجَّه إلى المشروع الإسلامي من كل جانب وناحية.
أيها السائرون في موكب الدعوة وفي قافلة الحق؛ لا تستوحشوا الطريق، ولا ينتابكم شعور بالضعف- لا سمح الله- بل إنكم والله ملح الأرض ودواؤها وبلسمُ جراحها. فدائما كانت إغراءات الظلمة وبريق ولمعان زيفهم تشدّ الجموع، فتحتشد حولهم وتصفق وتهتف لهم، نعم طالما سارت الجموع والجماهير خلف البريق واللمعان وإغراء المال والمناصب.
أما أنتم فلستم مثل غيركم. إذ ليس كل الطيور تُعلف، وليس كل الناس لا يميزون بين الغث والسمين, ولا بين النحاس وبين الذهب. فأنتم من تعلمون أنْ ليس كل ما يلمع ذهبًا، وأن طريق الحق مملوء بالأشواك والآلام، ولكنه حتما سيصل إلى بر الأمان وشاطئ السلامة.
فامضوا يا أبناء المشروع الإسلامي، ولا تستوحشوا الطريق لقلة السالكين، فهذه أنوار مواكب الخير راحت تتلألأ، وقوافل التوحيد راحت تتهادى. وإنها والله ساعات ما قبل الفجر بقليل، ولحظات ما قبل نزول الغيث، وما قبل دوي أصوات التكبير؛ تعلن للدنيا مجيء مولود مع بعض المخاض والآلام. فاصبروا وصابروا ورابطوا، وإن غدا لناظره قريب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى