لماذا “نتغيّر” في رمضان

كم هي عظيمة نعمة امتلاكنا العقل البشري – عقل الإنسان. وسبحان الذي أتقن خلق كل شيء. العقل جهاز معقّد ومركّب ورغم معلوماتنا الرهيبة والرائعة عنه, إلا أننا ما زلنا لا نعلم الكثير عنه. وقد مُيّز العقل عن بقية أعضاء الجسم بميزات عديدة, وأهمها: كونه المدير التنفيذي للجسم – هو الذي يعطي الأوامر لباقي الأجسام وفق معايير وُضعت له, أبدع الخالق بها. وله مهمة مركزية أصبحت كالمفهومة ضمناً عند العديد من البشر, وهي أنه مقر اتخاذ “قرار التغيير” وفق الحاجة والضرورة, لأي شيء في جسم الإنسان, ومتابعة تطبيق التغيير الذي تقرّر. في هذا عظمته.
إذا أردنا الركض مثلاً – يأمر العقل بتغيير وتيرة ضخ الدم. وإذا استلقينا للنوم – يأمر باستراحة الجسد وخلاياه. وإذا أُصبنا لا سمح الله – فيقرر تغيير سلم أولويات عمل الخلايا ومواقعها وحتى تغيير طبيعة مهامها, ليكون حال جسم الانسان أفضل وأصلح في كل نقطة زمنية بفضل الله وبعد إذنه.
إن الإنسان الناجع بطبيعته لا يحب الروتين. وقد تختلف (كثيراً) الطرق الخاصة بكل فرد للتعبير عن عدم حبه للروتين, خاصة اذا كان مملاً. والسلاح المقاوم للروتين الممل هو التغيير. أن تقوم فعلاً بالتغيير, وليس أن ترغب في التغيير وتُبقي الحال عند هذه النية فقط.
إن الحياة اليومية التي نعيشها لها مشاغلها وملهياتها. فكيف لنا أن نقوم بالتغيير بدون أن نحدث ضرراً نندم بسببه على القيام بالتغيير؟ أليس تفكيرنا بالأضرار ينطلق بشكل شبه أوتوماتيكي عند شعورنا بأي تغيير؟ فهذا السؤال, أو بالأحرى ما يبدو كانعدام الجواب, هو السبب الرئيسي لعدم اتخاذ العديد من الناس خطوات وقرارات نحو التغيير الذي يريدونه. أي أنهم يدركون أن التغيير مطلوب وفيه من المنفعة إلا أنهم لا يقومون به. لماذا يحصل هذا ولماذا يفضل الجميع البقاء في “المنطقة الآمنة” الحالية في حياتهم؟ (“الآمنة” وليس بالضرورة “المضمونة”).
إن الجواب يكمن في عملية إدراك مفهوم الغاية من التغيير. أي لماذا نريد أن نتغير؟ أو قد يقول البعض – لماذا نريد أن تتغير الأحوال معنا؟ (بقصدهم أن الأحوال هي التي يجب أن تتغير وحدها).
العامل الرئيسي هو الخوف العميق من التغيير. وهو ليس خوفاً عادياً, يمر بسرعة بمجرد ملامستنا التجربة, إنما عميق لأنه يطلق الأفكار الى أبعاد ذات عمق تريد شكلياً, إظهار عواقب التغيير السلبية بسرعة وبشكل ضخم يهدف للإحباط الفوري. لكن, من قرر ان العواقب ستكون سلبية بالتأكيد؟
يجب أن نعي أن الخوف الذي يشعره البعض ويعبر عنه, هو ليس ذلك الخوف من القيام بقرار التغيير, إنما الخوف من مجرد التفكير بإمكانية دفع الثمن الذي يلحق بالتغيير المقترح. فهو يجلب معه (حسب توقعاتهم التلقائية): تضحية كبيرة – فيقنعون أنفسهم بأن لا حاجة لها, وحاجة ماسة للصبر والتحمل – فيتجنبوها, وسماع الانقادات والآراء المشككة والمتشائمة – فيغمرهم شعور بضعفهم تجاه مواجهتها لأسباب شخصية أو اجتماعية.
أول قرار نحو تغيير حياتنا الى الأفضل والأصلح بإذن الله, هو قرار تغيير هذا الخوف. أن نغير مفهومها للخوف. الخوف عملية طبيعية عند البشر, وهو حيوي جداً عند شعورنا بالقيام بخطوة خطرة مثلاً. الا أنه اذا اتخذنا الخوف عاملاً وجزءاً لا يتجزأ من عمل عقلنا وجعلناه من أكبر المؤثرات عليه, فلا يمكننا القيام بأي تغيير.
وإذا نظرنا الى شهر رمضان المبارك الذي نحمد الله الذي بلّغنا اياه, فهو شهر جاء ليطمئننا أن عملية “التغيير” مطلوبة وصحيحة من مرة الى أخرى, ويذكرنا بذلك كل عام ونحن نشتاق اليه دوماً, أليس كذلك؟ لماذا نشتاق إلى هذا الشهر الفضيل؟ اننا نشتاق إلى شهر رمضان لأنه فرصة عظيمة لإعادة ترتيب الأمور ووضع سلم الأولويات الصحيح لحياتنا وتغييرها للأفضل والأصلح والأنجع. رمضان شهر يدعو للتغيير ويحث عليه – فكل ما في رمضان يتغير بأمر من الله سبحانه وتعالى: تصرفاتنا تتغير, وتيرة عبادتنا تتغير, عمل أعضاء أجسادنا يتغير ليتأقلم مع الفرض الجسدي وكذلك النفسي وحتى طريقة التفكير وتخطيط المهام تتغير, وكلها للخير ان شاء الله. والعقل البشري يعلم ذلك.
يجب أن نتذكر أن تغيير وتغيّر الأحوال معنا وحولنا هما الامتحان الأقوى للإيمان وللتفاؤل وللاتكال على الله حقاً وصدقاً. فإذا كان التغيير مطلوباً وحيوياً لتقدمنا في الحياة أو في مجال معين وأيضاً يمكن لمجتمعنا الاستفادة منه, فليقم كل منا بذلك دون أن يخاف. ويكفي وعد الله بذلك, بقوله تعالى: “إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ”. فالتغيير الفردي مطلوب ليحصل التغيير المجتمعي, ثم التغيير في الأمة عامة لتصبح في حال أفضل وأصلح. وهذه هي النعمة الحقيقية. ويبقى علينا كأفراد، في هذه الأيام المباركة خاصة، أن نعد أنفسنا ونطبق وعدنا – أننا إذا تغيرنا للأفضل في رمضان – فسنحافظ على ذلك أيضًا في غير أيام رمضان. والله الموفق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى