معركة حلب والطريق نحو القدس والأقصى

يوم بعد غد الأحد 21-8 هو يوم ذكرى حريق المسجد الأقصى المبارك، الذي حصل في العام 1969 حينما تعمد اليهودي الأسترالي دينيس روهان إشعال النار في منبر المسجد الأقصى المبارك، حيث امتدت النار لتلتهم مساحات واسعة من المسجد.
هذا المنبر الذي كان الفاتح صلاح الدين الأيوبي قد أعده هدية للمسجد الأقصى في يوم تحريره من الصليبيين، ولذلك فإنه كان قد عهد إلى أمهر الصناع والمحترفين ببنائه ليكون أعظم وأثمن هدية تليق بالمسجد الأقصى الذي عانى التدنيس والاحتلال الصليبي قريبا من تسعين سنة.
صحيح أن تحرير القدس من الصليبيين قد استكمل في العام 1187 وفق 583 هجرية، لكن إستراتيجية صلاح الدين تمثلت في توحيد الإمارات والممالك الإسلامية التي كانت متناحرة مبعثرة متعددة الولاءات بين الفاطميين العُبيْديين الشيعة في مصر، وبين أمراء عملاء للصليبيين في بلاد الشام، بينما القدس تعاني من احتلال صليبي غاشم تنتظر ساعة الخلاص ويوم التحرير، فامتدت هذه الإستراتيجية أكثر من عشرين سنة.
لقد بدأت معركة تحرير القدس والأقصى من مصر، حيث أخضع مصر لسلطانه وخلّصها من الحكم الفاطمي الذي أعمته مذهبيته الشيعية وصل إلى حد التعامل مع الصليبيين الغزاة ضد المسلمين، فكان إخضاع مصر عام 1171، ثم انتقل إلى الشام ليدير معاركه فيها ضد الأمراء الفاسدين المتحالفين مع الصليبيين، فأخضع دمشق عام 1174، لكن أهم معركتين قادهما صلاح الدين قبل تحرير القدس كانتا معركة فتح حلب 1183 ومعركة فتح الموصل 1185 وصولا إلى معركة تحرير القدس 1187.
ولا بد أن يستوقفنا ذلك المشهد في العلاقة بين تحرير القدس وبين تحرير حلب، يوم كلّف صلاح الدين الأيوبي القاضي الخطيب ابن الزكي الدمشقي بإلقاء خطبة الجمعة في المسجد الأقصى لأنه هو الذي كان قبل أربع سنوات، وبعد إنهاء معركة تحرير حلب قد قال قصيدة جميلة في مدح صلاح الدين والإشادة ببطولاته. وكان لافتا فيها أنه توقع بعد فتح حلب أن يكون فتح القدس، وإذا كان تحرير حلب قد وقع في شهر صفر فإنه توقع أن يكون تحرير القدس في شهر رجب فقال:
وفتحكم حلبا بالصيف في صفر مبشر بافتتاح القدس في رجب
وفعلا، فبعد أربع سنوات من معركة تحرير حلب كانت معركة حطين، ثم كان الزحف جنوبا لتحرير القدس، وكان ذلك ليلة الجمعة لليلة الإسراء والمعراج، ليلة 27 رجب 583 هجرية، وفق 1187 ميلادية. في تلك الجمعة إذن أهدي للمسجد الأقصى المنبر الذي أعده صلاح الدين، وعليه خطب ابن الزكيّ؛ هذا المنبر الذي أحرقه دينيس روهان يوم 21-8-1969 والذي تمر ذكراه بعد غد الأحد.
إنه صلاح الدين الأيوبي الكردي الذي كان إذا سئل عند عن عدم ضحكه وتبسمه يقول: إني أستحيي من الله أن أضحك وما تزال القدس وما يزال المسجد الأقصى محتلا بيد الصليبيين. وكان أكثر ما آلمه ودفعه للتعجل في تحرير القدس تلك الرسالة التي أرسلها أحد أهل القدس يتحدث فيها بلسان المسجد الأقصى مخاطبا صلاح الدين ليسرع في خلاص القدس:
يا أيها الملك الذي لمعالم الطغيان نكس
جاءت إليك ظلامة تسعى من البيت المقدّس
كل المساجد طهّرت وأنا على شرفي مدنس
ولكن، ولئلا نغمط العظماء حقهم، ولئلا ينفرد بشرف تحرير القدس الفاتح صلاح الدين، وغن كان هو فاتحها الحقيقي، لكن معركة تحرير القدس من الصليبيين كانت هي الشغل الشاغل لأبطال آخرين من أبطال الأمة تقدمهم أمير الموصل عماد الدين زنكي، وأكمل المسيرة ولده نور الدين زنكي، هذان البطلان اللذان أعدا شبان الموصل يومها للمهمة المقدسة؛ ألا وهي تحرير القدس والأقصى، حيث أكمل المسيرة بعدها صلاح الدين، الذي نشأ وترعرع في الموصل وحولها من بلاد شمال العراق، حيث موطن الأكراد الذين هم قومه.
لقد أدرك الفاتح صلاح الدين أن الطريق إلى تحرير القدس والأقصى يجب أن يمر عبر القاهرة ودمشق، وأنه لا يمكن أن تحرر القدس إلا بتحريرهما. وهذا ما فعله، حيث بدأ- كما ذكرنا- بتحرير مصر من سيطرة الفاطميين وفكرهم المنحرف، ثم انتقل إلى الشام التي كانت إمارات متنازعة، فبدأ بتحرير دمشق ثم حلب ثم كان تحرير القدس الشريف.
فما أشبه الليلة بالبارحة! ها هي القدس تقع من جديد تحت الاحتلال الصهيوني المدعوم صليبيا. وها هي مصر يحكمها زعماء مارقون طغاة عملاء لإسرائيل. وها هي الشام كذلك يحكمها زعماء طائفيون ينكّلون بأهلها ويذبحون شعبها، وهذا الحال وهذا الوضع يعتبر مثاليا ولا أفضل منه لمن يحتلون القدس، حيث لا أحد من الزعماء هؤلاء، ولا من يفكر بتحرير القدس، حيث المؤسسة الإسرائيلية حريصة على بقاء السيسي وبقاء بشار، لأنهما يشكلان سياجا حاميا لها، تماما كما كان الفاطميون في مصر وأمراء الشام العملاء سياجا حاميا للاحتلال الصليبي للقدس. ولذلك فإن الوصول إلى القدس لا يمكن أن يتم إلا عبر تحرير القاهرة ودمشق من طواغيتهما، وممن لا يريدون أن تتجه بوصله الأمة نحو القدس والمسجد الأقصى.
لم تكن معركة تحرير القاهرة يومها معركة جانبية، ولم تكن معركة تحرير دمشق وحلب معارك جانبية، وان كانت ضرورية للتمهيد للوصول إلى القدس والمسجد الأقصى، حتى وإن سماها البعض فتنة واقتتالا داخليا، لكنه كان ضروريا لتنظيف صحف الأمة من الغادرين والفاسدين والعملاء.
إن المراقب والمتتبع لسير الأحداث في حلب خصوصا، وفي سوريا عموما ليدرك أن الأمر يتعدى حدود نزاع داخلي سوري؛ بين حاكم ظالم وبين ثورة شعبية تريد الخلاص منه، فقد أصبحت سوريا ميدانا ومسرحا لقوى إقليمية وعالمية، وأصبحت معركة حلب معركة فاصلة من معارك التاريخ. ولذلك فإننا نسمع عن قوات روسية وقوات فرنسية وأمريكية وبريطانية وألمانية وكندية، وأن هذه كلها -على ما يبدو- تشكل طليعة تدخلات أوسع لهذه الدول وغيرها. وما كل هذا إلا لسببين اثنين: أما الأول فإنه أهمية وانعكاس معركة حلب على حسم نتيجة الصراع في سوريا، لأن من سيحكم حلب فإنه حتما سيحكم دمشق، وسيحدد طبيعة العلاقة مع تل أبيب. وأما السبب الثاني فلقناعتي أن قادة هذه الدول المشاركة بجيوشها، وأن أجهزة مخابراتها ومفكريها وواضعي عقيدتها القتالية والاستراتيجيين فيها يعلمون ويعرفون، بل ويؤمنون بنصوص الكتب الدينية التي تتحدث عن معارك آخر الزمان، وأن واحدة من أهمها، بل والأهم فيها هي معركة حلب، أو تحديدا معركة الأعماق القريبة من حلب وما حولها وفي محيطها، وإن كان البعض منهم، خاصة الإنجيليين الأصوليين الأمريكيين، يسمونها معركة “هرمجدون” وأنها ستجري في فلسطين.
لن أقف على نصوص أهل الكتاب، وإنما سأتناول بعض الأحاديث الصحيحة التي تحدث بها النبي صلى الله عليه وسلم. فقد روي الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بدابق أو بالأعماق “موضعان بالشام”، بقرب حلب كما في شرح النووي، “فيخرج إليهم جيش المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ). وفي حديث آخر: (يجيء الروم في ألف ألف، خمسمائة ألف في البر وخمسمائة ألف في البحر، ينزلون أرضا يقال لها العميق، يأتون إليكم تحت ثمانين راية تحت كل راية اثنا عشر ألفا). وكان لافتا تصريح الرئيس الأمريكي أوباما قبل ثلاثة أشهر لما قال إن لدينا تحالفا دوليا في سوريا يضم 77 دولة، ظاهر أهدافه انه لقتال داعش، وأجزم أن حقيقته هو الاستعداد لمعركة حلب.
وفي صحيح مسلم كذلك عن يسير ابن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بيده هكذا- وأشار بيده نحو الشام- وقال: ( دو يجمعون لأهل الإسلام، ويجمع أهل الإسلام لهم، قلت: الروم تعني؟ فقال: فهُم).
نعم، إننا بين يدي معركة فاصلة من معارك التاريخ، بدأت ملامحها ومحاورها وأهدافها تظهر للعيان. وإنها معركة ستحصد الكثير الكثير، ولكنها في النهاية سينجلي غبارها عن نصر الإسلام والمسلمين بإذن الله تعالى، وستكون نهاية لعصر الانحطاط والذل وتسلط الأعداء وخيانة الزعماء والأمراء.
ومثلما كانت معركة تحرير حلب عام 1183 نقطة الانطلاق لتحرير الأقصى والقدس بعد أربع سنوات، أي في العام 1187 لتكون نهاية المشروع الصليبي الاحتلالي الأول للقدس منذ الفتح الإسلامي، فإنني يملؤني اليقين بأن معركة حلب في جولتها الأخيرة ستكون نقطة انطلاق نحو القدس والأقصى خلال سنوات قليلة قادمة، ولتكون بداية نهاية المشرع الصهيوني الاحتلالي الثاني للقدس والأقصى منذ الفتح الإسلامي العمري للقدس الشريف.
إنها القدس، التي طالما تحدث باسمها سماسرة ونخاسون تاجروا باسمها وتشدقوا بشعارات حبها وتحريرها، وهم الذين طعنوها في الظهر، بل شاركوا في جريمة اغتصابها وسفك دم عفتها وطهرها.
وإذا ظن هؤلاء أن المقعد الشاغر الذي سيجلس عليه ويملأه من يحرر القدس سيكون واحدا منهم، فإنه الوهم وإنه السراب! لأن على هؤلاء أن يعلموا أن القدس طاهرة لا يحررها إلا أطهار، وأنها شريفة لن ينتصر لها إلا شرفاء، وهم ليسوا كذلك. نعم، لن يحظى بشرف تحرير القدس والأقصى لا السيسي؛ بطل مذبحة رابعة التي كانت ذكراها يوم الأحد الأخير (14-8-2013)، ولا بشار بطل محرقة الكيماوي في غوطة دمشق، التي ستمر ذكراها يوم الأحد القريب (21-8-2013)، فهما أخسّ وأجبن من أن ينالا هذا الشرف.
إن ما يجري في مصر من مخاض، وما يجري في الشام من آلام، ومثل ذلك في العراق وفي اليمن وفي تركيا، إن هذا كله للذي يبشر بقرب الميلاد وطلوع الفجر بإذن الله تعالى.
نعم، مرت أربع سنوات على تحرير حلب يومها، لتسعد القدس بعدها بجيوش الفتح القادمة من حلب وبلاد الشام يتقدمها الفاتح صلاح الدين ومعه شباب الإسلام من الشام ومن مصر ومن المغرب العربي ومن الموصل ومن كردستان ومن بلاد ما وراء النهر، ولتدكّ سنابك خيلهم تراب فلسطين يمرغون أنوف الصليبيين في تراب حطين، ثم يتوجهون نحو القدس ليكسروا القيد عن معصميها، وليُقدم صلاح الدين إلى الأقصى منبره الذي سبق وأعده هدية لذلك اليوم، وليقف الخطيب ابن الزكيّ في خطبة التحرير الأولى. وكما أعتقد أن الله سبحانه وتعالى واحد فرد حمد لا شريك له فكذلك أعتقد أن يوم خلاص القدس والأقصى قد اقترب، وأن معركة حلب التي بدأت محاورها وجولاتها الأولى تدق طبولها، ما هي إلا مقدمة قريبة ليوم خلاص القدس والأقصى. وإنني أعلم أن منبرا يبنى ليكون هدية للمسجد الأقصى في يوم تحريره، ولا أدري من سيكون صاحب الحظ السعيد والشرف العظيم بأن يكون هو خطيب المسجد الأقصى في خطبة التحرير القادمة بإذن الله تعالى.
لن يستطيع أحد أن يمنعني من رؤية أنوار الفجر التي بدأت تسطع، ولا رايات الفتح التي راحت تلوح، ولا تكبيرات الزحف المبارك التي راحت تدوّي في جنبات الكون. وما هذا كله إلا ثقة بوعد الله سبحانه، وليقيني أن ما يجري في حلب إنما يرسم معالم الطريق إلى القدس والأقصى، وإن غدا لناظرة قريب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى