مقالة: المسلمون قادمون!
لا يمكن لأحد أيًا كان علمه أو تخصصه أو موقعه السياسي والقيادي لا عربيًا ولا إسلاميًا ولا عالميًا أن يدّعي معرفة أو قراءة ما سيحدث من نتائج وتداعيات جائحة كورونا وانعكاساتها على الشعوب والأمم، مع أن هناك شبه إجماع بين الباحثين والمتابعين في العلوم السياسية وعلم الاجتماع والمؤرخين وغيرهم أن العالم بعد كورونا هو ليس العالم ما قبله بعيدًا أو بغض النظر عن تفاصيل وملامح العالم الجديد والمرحلة ما بعد الكورونا.
لكن هذا ليس معناه انعدام أي ملمح لهذا المستقبل خاصة مع وجود نواميس كونية ومحطات تاريخية ونصوص دينية تشير إلى انعطافات ومحطات كانت فارقة في حياة البشرية. ولعل أعظم ما ورد وفي ذلك يقول الله سبحانه عن نظام وناموس التداول بين الأمم والشعوب {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} آية 140 سورة آل عمران. فلا بقاء لأحد على حال واحد أبدًا، فلا القوي يبقى قويًا ولا الضعيف يبقى ضعيفًا ولا من هو في المقدمة سيظل كذلك إلى الأبد، ولا من هو في ذيل القافلة سيظل في موقعه، وإنما هي الأيام دول يوم لك ويوم عليك، ودوام الحال من المحال كما يقال.
وإن الناظر والمراقب لحال البشرية وموازين القوى فيها في زماننا وما وصلت إليه المجتمعات من طفرات علمية وتكنولوجية واقتصادية وصلت إلى ما يفوق الخيال وبالمقابل فإنها نزعات ومظاهر خلل في سلوك وأخلاق ومعاملات البشر بعضهم ببعض، واختلال الموازين الاجتماعية والأخلاقية والثقافية والردة الدينية عند كثير من الشعوب وأبناء الديانات، كل هذه وغيرها من ملامح تجعل كل عاقل يسأل نفسه هل هذا أمر طبيعي أم لا؟ هل البشرية ستستمر في اندفاعتها المجنونة خلف الغرائز والشهوات والاستكبار والظلم، أم أنه لا بد من انعطافة ومراجعة حقيقية؟! فجاء وباء وجائحة الكورونا لتحدث هذه الوقفة وهذه الانعطافة.
لن أتردد بالقول أن قانون المداولة {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} آية 140 سورة آل عمران، يعمل الآن لصالح أمتنا وليس ضدها، لكن ليس قبل أن يكون قانون التداول قد ترك بصماته علينا منذ عقود، من حيث كنا سادة الدنيا وقادتها إلى أن أصبحنا في ذيل القافلة وقد تداعت علينا الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها كما قال صلى الله عليه وسلم: “يوشك أن تداعى عليكم الأمم، كما تداعى الأكلة على قصعتها. فقال قائل: ومِن قلَّةٍ نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السَّيل، ولينزعنَّ الله مِن صدور عدوِّكم المهابة منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوَهَن. فقال قائل: يا رسول الله، وما الوَهْن؟ قال: حبُّ الدُّنيا، وكراهية الموت”. ومن ملامح الجمع بين ما كنا عليه وما صرنا إليه وما نتمنى بل ونثق أننا سنتحول إليه، هو حديث النبي صلى الله عليه وسلم القائل: “تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا، فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ الله ُأَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيّاً، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، ُثمَّ سَكَتَ”.
نعم لقد تحدث وبشّر صلى الله عليه وسلم عن دورة قادمة للإسلام هي دورة عز وقوة وسيادة ورحمة فقال: “ليَبْلُغن هذا الأمر ما بلغ اللَّيل والنَّهار، ولا يترك الله بيت مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلَّا أدخله اللهُ هذا الدِّين، بِعِزِّ عَزِيزٍ أو بِذُلِّ ذَليلٍ، عِزًّا يُعِزُّ الله به الإسلام، وذُلًّا يُذِلُّ الله به الكفر”.
وقد بشّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتح المدينتين القسطنطينيه وروما لما سئل: “يا رسول الله أي المدينتين تفتح أولًا قسطنطينية أو رومية؟ فقال: مدينة هرقل تفتح أولًا”.
يقول الشيخ القرضاوي: “ومن نظر في أحوال الأمم عبر التاريخ يجد شعلة الحضارة تنتقل من أمة إلى أمة ومن يد إلى أخرى، ومن حسن حظنا أن سنة التداول أو قانون المداولة بين الناس يعمل معنا لا ضدنا. فقد كانت قيادة العالم قديمًا في يد الشرق، على أيدي الحضارات الفرعونية والآشورية والبابلية والكلدانية والفينيقية والفارسية والهندية والصينية، ثم انتقلت إلى الغرب على يد الحضارة اليونانية ذات الفلسفة الشهيرة والرومانية ذات التشريع المعروف، ثم انتقلت الحضارة إلى الشرق مرّة أخرى على يد الحضارة العربية الإسلامية وهي حضارة متميزة جمعت بين العلم والإيمان، بين الرقي المادي والسمو الروحي، ثم غفا الشرق وغفل عن رسالته فعاد الغرب وأخذ الزمام وكانت له القيادة مرة أخرى، ولكنه لم يرع أمانة هذه القيادة بل أفلس في ميدان الروح والأخلاق، وفرّط في العدل وأعلى القوة على الحق والمصالح على القيّم والمادة على الروح، والجماد على الإنسان وكال بمكيالين في التعامل مع القضايا البشرية،فكان من سنة الله أن تنتقل الشعلة إلى غيره والمفروض حسب استقراء التاريخ أن تعود إلى الشرق مرة أخرى.
إنه الشرق الإسلامي والذي عليه أن يتهيأ لذلك ويعد له العدة، كما قال تعالى {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} آية 29 سورة الأعراف. {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} آية 105 سورة الأنبياء. فليس بعجيب أن تنتقل عجلة القيادة العالمية من الغرب إلى الشرق، رغم أن الغرب هو المتفوق والمقتدر بينما الشرق هو الضعيف والعاجز.
ولقد رأينا ورأى العالم كله كيف انهارت القوة العالمية الثانية وهي الاتحاد السوفيتي فجأة وبلا مقدمات تذكر برغم ما يملك من ترسانة نووية ضخمة وأسلحة استراتيجية جبارة، وقوة عسكرية واقتصادية هائلة وما ذلك إلا لأن الخراب كان في الباطن لا في المظاهر، وفي المعنويات قبل الماديات، والغرب المنفرد الآن في القوة والتأثير في الساحة العالمية ليس أحسن حالًا من نظيره السوفيتي”.
إنه لا اروع ولا أبدع مما كتبه الشهيد سيد قطب رحمه الله وتصوره الصادق عن مستقبل النظم المادية الشرقية والغربية، الاشتراكية والرأسمالية على حد سواء في كتابه – المستقبل لهذا الدين- وكتابه الآخر – السلام العالمي والإسلام – واللذين أنصح بقراءتهما. فيقول رحمه الله في صفحة 48 من كتاب المستقبل لهذا الدين:
“لقد انتهى العصر الذي يسود فيه الرجل الأبيض لأن حضارة الرجل الأبيض قد استنفذت أغراضها المحدودة القريبة، ولم يعد لديها ما تعطيه للبشرية من تصورات ومفاهيم ومبادئ وقيم تصلح لقيادة البشرية وتسمح لها بالنمو والترقي الحقيقيين، النمو والترقي للعنصر الإنساني وللقيم الإنسانية وللحياة الإنسانية.
فلقد أصيبت بالعقم أو كادت بعد ما ولدته في “المانجا كارتا” الإنجليزية، ومبادئ الثورة الفرنسية ومبادئ الحرية الفردية التي سادت ما يسمونه “التجربة الأمريكية”، وكلها كانت قيمًا محدودة تروج في فترة خاصة وتواجه حالات محدودة وأوضاعًا خاصة، ولم تكن رصيدًا لنبي الإنسان يصلح للبقاء مدة أطول من الفترة التي عاشتها تلك المبادئ الموقوتة”.
ويقول في صفحة 56:” لقد انتهى دور الرجل الأبيض، انتهى دوره سواء كان روسيًا أم أمريكيًا، إنجليزيًا أم فرنسويًا، سويسريًا أم سويديًا. انتهى لأن ذلك الفصام النكد في التاريخ الأوروبي وفي جميع المذاهب والمناهج والنظم والأوضاع التي تقوم في الغرب قد حدّد بدوره نهاية الرجل الأبيض”.
رغم أننا ما نزال في بداية جائحة الكورونا إلا أن ملامح الانهيار الاقتصادي بعد الركود الواسع هي حتمية، وأن موازين القوى والتحالفات الدولية ستتغير وأن تشكيل الدول بأصدقائها هو سيد الموقف وقد طغت مصالح الدول لشعوبها على أي مصلحة بل على أي موقف إنساني، وهذا ما رأيناه في مصادرة دولة التشيك لحمولة طائرة من المعدات الطبية كانت مرسلة إلى إيطاليا، وكذلك فعلت صربيا، بل إن الرئيس ترامب قد أصدر قرارًا يمنع تصدير آلات وأجهزة طبية إلى دول أخرى رغم أنها كانت ضمن عقود واتفاقيات مع شركات أمريكية قبل بداية جائحة كورونا، معتبرًا أن مصلحة الأمريكي هي فوق أي مصلحة، لا بل إنه هدّده بالانتقام من كل من سيحاول منع أمريكا من الحصول على هذه الأجهزة لصالح الشعب الأمريكي.
نعم لقد فرض كورونا التباعد الاجتماعي ليس بين الأفراد حرصًا على سلامتهم بل بين الدول لتتحول إلى أنانية ونزعة مصلحية. لقد فشلت العولمة فشلًا ذريعًا، وبعد أن كان العالم قرية صغيرة فقد أصبحت كل قرية عالمًا خاصًا بذاته، وأغلقت الحدود والمعابر وانشغلت كل دولة بذاتها.
لقد وجدت كثير من الشعوب نفسها تفتقر إلى قيادة سياسية، والأخطر أنها وجدت نفسها بغير قيادة روحية تبث فيها الأمل والطمأنينة في هذه الظروف الحالكة.
إنه بغض النظر عن التفاصيل عن عنصر الزمن إلا أن كل عاقل يستطيع أن يتبيّن أن أنظمة وزعامات ستهتز كراسيها وعروشها مع إدراك الشعوب حجم الفاجعة التي ألمّت بها دون أن تجد مخططات ولا إمكانات مسخّرة لخدمة هذه الشعوب.
نعم لن يرحل كورونا إلا بعد أن يرحل معه عن عالمنا مئات الآلاف بل ملايين البشر، ويرحل كذلك زعماء ورؤساء وأنظمة كانت أخطر على شعوبها من فيروس الكورونا نفسه، وفي هذا حكمة من الله تعالى.
لقد دارت حرب شعواء بين الأوس والخزرج قبل خمس سنوات من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، إنها حرب “يوم بُعاث” وقد هلك فيها خلق كثير بعد إذ بقيت القبيلتان وحلفاؤهما تستعدان للمعركة شهرين كاملين، حتى أنه ومن نتائج المعركة أن أغلب الزعامات رؤوس الشرّ في القبيلتين قد قتلوا، ولم يبق منهم إلا عبد الله بن سلول وهو من كانوا يستعدون لتنصيبه ملكًا عليهم بعد الصلح الذي أبرموه، وإذا بالهجرة المباركة وقبلها بيعة العقبة الأولى والثانية ودخول أهل المدينة الإسلام، الأمر الذي أفسد على ابن سلول مخططه وآماله فكان سببًا في حقده وعدائه ونفاقه.
ما أردت أن أشير إليه أن الحرب الطاحنة حرب يوم بعاث جعلت أهل المدينة يومها يسعون للبحث عن كل ما يمكن أن يخلّصهم وينقذهم من الحال الذي وصلوا إليه من القتل والظلم والبغي على بعضهم، فوجدوا ضالتهم في الإسلام الذي عرضه عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقبلوه فكانوا أنصار الله ورسوله رضي الله عنهم.
إن البشرية اليوم وقد وصلت إلى ما وصلت إليه من الاختراعات والإمكانات العلمية والتكنولوجية، لكن هذا لم يحقق لها الأمان والطمأنينة وراحة البال، وجاءت جائحة كورونا لتوقفها على حقيقة أن فوق قوتها فإنها قوة أعظم، وفوق إمكاناتها فإنها إمكانات أعظم وإن كانت لفيروس غير ظاهر، لكن العقل والمنطق يقول أن الفيروس ليس سيد نفسه وإنما هو خلق من خلق الله. فالبشرية اليوم وكما احتاج أهل المدينة المنورة والعرب والإنسانية يومها لمنقذ ومخلّص كان هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن البشرية اليوم لا تحتاج إلى مزيد من المكتشفين ولا تحتاج إلى مزيد من الاختراعات العسكرية الفتاكة، وإنما هي تحتاج إلى من يبعث فيها الطمأنينة والراحة والسكينة، وإلى من يرفع عنها الظلم والقهر والاستكبار، وإن هذا لن يكون إلا فيمن يحملون رسالة رحمة وعدل، وليست هذه إلا في الإسلام. لذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما تحدث عن الإمام المهدي فإنه تحدث عن أكثر ما يميز رسالته ومهمته وهي نشر العدالة والرحمة، فقال صلى الله عليه وسلم: “لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لبعث الله رجلًا منا يملؤها عدلًا كما ملئت جورًا”. وقال صلى الله عليه وسلم: “لا تقوم الساعة حتى تملأ الأرض ظلمًا وجورًا وعدوانًا ثم يخرج رجل من أهل بيتي يملؤها قسطًا وعدلًا كما ملئت ظلمًا وجورًا وعدوانًا”.
إن صلف البشرية واستكبارها أراد الله سبحانه أن يوقفه بمخلوق لا يرى بالعين المجردة، وإن إرغام أنف هذه البشرية المتغطرسة والظالمة لا يكون إلا بتدخل رباني يجعل له الرب سبحانه أسبابًا من عنده.
هي ليست قراءة غيبية ولا هي أمنيات وهمية، وإنما ما يجري وما يحدث الآن يشير إلى أن البشرية تتهيأ لمرحلة جديدة وإعادة بناء وترتيب أوراق جديدة، وطبعًا فإنها تتهيأ لقيادة جديدة.
ولقد قال فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي: “إذا كان القرن التاسع عشر هو قرن الرأسمالية والقرن العشرون هو قرن الشيوعية، فإن القرن الحادي والعشرين هو قرن الإسلام. ويمكن القول كذلك أنه إذا كان القرن التاسع عشر هو قرن المسيحية وانتشارها واستعمارها لكثير من شعوب الأرض، وإذا كان القرن العشرون هو قرن اليهودية وقيام إسرائيل بعد قدرة الحركة الصهيونية على مد نفوذها وسيطرتها على كثير من القادة في العالم، فإن القرن الحادي والعشرين هو قرن الإسلام بإذن الله تعالى”.
فأمّلوا وأبشروا.. يا أيها المضيّعون.. والمُحطمون.
وهللوا وكبروا يا مؤمنون
فالفجر لاح
والديك صاح
والعطر عطر الحق فاح
والنهار قادم والمسلمون قادمون
فقل لأنصار الظلام: ما لكم لا تعقلون؟!!!.
من ذا يؤخر النهار؟!
من يصارع الأقدار؟!
من يعاند القهار؟!
من يناطح المريخ؟!
من يوقف التاريخ؟!
إلا بلهاء يجهلون.. أو صغارٌ يعبثون
فليتهم يفكرون ساعة ويصدقون
ليعلموا علم اليقين: إننا قادمون.
أجل.. أجل.. المسلمون قادمون
نحن إلى الفرج أقرب، فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون