لا تقتلوه!

هناك أمور هامة يجب قولها بدون مقدمات وبدون “لف ودوران” زائد. هناك من يُقتل يومياً في بيئاتنا وبيوتنا ومدارسنا ومؤسساتنا وغيرها. بل وصلنا لوضع لا يتم فيه قتله فقط، إنما يتم تأكيد القتل وعدم ترك أي فرصة لتحريك الجثة أصلاً. بدون “لف ودوران” – من يُقتل يومياً هو: الإبداع. إبداع بني البشر في كل الأجيال، صغارًا وكبارًا.

هدف القتل أن تحد حياة شيئ ما. أن تنهيه. لكن، لماذا يتم “قتل” الإبداع بشكل منظم ومقصود ومدروس؟ ما الذي يميز هذا الأمر عن غيره ليتم تكريس طاقات كبيرة لقتله، رغم أن هذه الطاقات نفسها تبدو شكلياً وكأنها “المُنعِش” لهذا الإبداع؟

أبحاث عديدة والأهم من ذلك إثباتات مجربة – تُظهر أن نسبة الإبداع عند الأطفال تكون قرابة الـ 98% تحت جيل ال 7 سنوات وبعد هذا الجيل تنخفض إلى 9% فقط… تدهور صارخ! لماذا؟ بدون “لف ودوران” – السبب هو دخول الأطفال للمدرسة وبدء الحدّ من إبداعهم بأشكال وطرق متنوعة و”إبداعية” سلبية. طبعاً هناك ميزات إيجابية مطلوبة وحيوية في عالم المدارس الحالي، لكن الحديث هنا عن الأضرار.

يتم إحداث الضرر في “الإبداع” في طرق عديدة سأذكر بعض الأمثلة المدونة والمعروفة التي تم مداولتها أيضاً في عدة منتديات عالمية ومع ذلك، الأغلبية لا يحركون ساكناً ولا يؤثرون على تغيير هذا الوضع.

فلنأخذ مثلاً عالم اللعب بالألعاب: كثيرون (وأيضاً من الذين ينتمون للسلك التدريسي) يستهترون بأهمية الألعاب في حياة الأطفال وحتى الكبار. لكن يكفي أن نذكر أن اللعب هو إحدى أنجع وأروع طرق التعليم الهادف والواضح في رسالته ليساهم في إثراء المعرفة وطرق التعامل مع مواقف (وهذا عالم واسع بحد ذاته).

والخيال طبعاً يعتبر وقود الإبداع، الذي يحرك ويُسارع الانطلاق في التفكير الرائع والمميز والذي قد يغير عالماً كاملاً. علينا أن نُثري الخيال بالإيجابيات وليس بالسلبيات. وكم من “خيال” تحوّل إلى حقيقة مبهرة تفتخر بها الإنسانية كلها؟ وقد يواجه من يطمح ويحلم ويخطط للمستقبل العديد من الشخصيات “المُحبطة مهنياً”، والتي تهتم أيضاً بالسخرية أحيانا بهدف تحطيم المعنويات، فقط لأنها هي نفسها لا تستطيع أن تقوم بما يريد غيرها القيام به ويستطيع أن يحققه.

علينا أن ننمي ونحمي الإبداع كي تنطلق أفكارًا سبّاقة جديدة وتنضج وتنمو كي يستفيد منها المجتمع كله. فكم من فكرة تم كسرها وتحطيمها وخسر المجتمع بسبب ذلك ما كنا نمدحه عند غيرنا من المجتمعات؟

عملية الإبداع نفسها تفتح العقل ليكون فعلاً ذلك العضو المُمَيِّز للبشر – من ميّزهم الله ليكونوا الخلفاء في الأرض لإعمارها. أي محاولة لتحديد قدرات العقل تضر بشكل مباشر في الإنتاج والنجاعة في شتى مجالات الحياة التي تؤثر بالتالي بالسلب علينا جميعاً.

العديد من مؤسساتنا التي أقيمت لأهداف راقية، تقوم وللأسف الشديد، بدور المُتجاهِل تجاه المُبدعين لأسباب غير موضوعية، فتقتل هي بنفسها “الإبداع” الذي تغني لأجله وتجند الميزانيات له.

الإبداع يستطيع بل وواجب عليه أن يتغلغل في كل تصرفاتنا وأفكارنا وأعمالنا قدر المستطاع وأكثر. هناك جانب آخر (هو بنفسه موضوع كامل سأتطرق اليه في مقال قادم إن شاء الله) يقتل الإبداع أيضًا لكن بطريقة ملتوية. وهو عندما يتم التصدي بكل قوة وبكل ثمن (رغم أن الثمن يُدفع لاحقاً) لطموح يطمح إليه شخص ما فيأتي أهله مثلاً بفرض طموحهم هم أنفسهم عليه ليكون طموحه طموحهم، فيقتلون ما كان يستطيع أن يبدع به ويستفيد ويُفيد به غيره أضعاف الأضعاف.

ليس الهدف من هذه الأمثلة الإحباط أو الإظهار أن الإبداع محاط بأعداء لا يمكنه التحرر منهم. العكس تماماً – كلما علمنا واعترفنا بهذه الأخطار التي تقتل الإبداع، كلما تزيد فرص الإصرار الواضح على أن نقول ونعمل ونطبق شعار: “لا تقتلوا الإبداع!”. فقتل الإبداع يقتل مجتمعنا شيئاً فشيئاً ولن يستمر هذا الوضع للأبد بإذن الله.

التصدي لعملية القتل هذه ليس بالسهل، وهو عملية مستمرة وطويلة المدى لأجيال قادمة، كي يصل الإبداع لدرجات الحماية الراقية لكل فرد من أفراد مجتمعنا لنصل إلى مجتمع أفضل ومبدع أكثر وبالتالي مُنجز ومُشجع ومحفّز أكثر للخير إن شاء الله وللمنفعة العامة، التي سيرغب الجميع أن يكونوا شركاء بها. فيزيد الإبداع أكثر وأكثر. فلنكن بمجتمعاتنا شركاء مُبدعين ونافعين وحماة للإبداع، كي يعيش الإبداع. ويعيش ونعيش كلنا في مستقبل رائع نستحقه إن شاء الله. والله الموفق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى