هل نحن بحاجة للمدارس؟ 2

في الجزء الأول (السابق) من مقال “هل نحن بحاجة للمدارس؟” افتتحت المقال بأننا وعلى مدار 12 سنة، نقوم بإرسال أطفالنا ثم صغارنا ثم شبيتنا الى المدرسة. وذكرت أن الجملة السائدة عند العديد من الذين أنهوا مرحلة المدرسة في حياتهم هي أن الحياة هي التي علّمتهم “الحياة”، ولم يتبقّ شيء من المدرسة في حياتهم الآنية سوى بعض الأصدقاء والذكريات، وبكل حال لا علاقة لهذه الذكريات بمواد التعليم التي درسوها وأفنوا سنين من عمرهم للدراسة لامتحاناتها ولا يرون بالضرورة فائدتها العملية اليوم. وها قد انتهت السنة الدراسية. كل عام وأنتم بخير. لكن السؤال الذي يبقى للدراسة هو: لماذا؟ لماذا نرسل أبناءنا وبناتنا الى المدارس؟ هل فكرنا بشكل عميق لماذا كنا نحن في المدرسة؟ وما علاقة المدرسة بحياتنا اليومية اليوم؟ وباختصار – ما دور المدارس الحقيقي في حياتنا؟
أبحاث عديدة أثبتت ودلّت على نسبة الإبداع العالية عند الصغار (تحت جيل 7 سنين) – حيث أن نسبة الإبداع عندهم تصل إلى 98%! وفي جيل 7 سنوات تنخفض هذه النسبة إلى 7% فقط! وعند بحث سبب حدوث ذلك في هذا السن بالذات، فكانت النتيجة: بسبب دخول هؤلاء الصغار إلى المدرسة…
في الأسابيع الأولى وبشكل عام في الحياة المدرسية “الكلاسيكية” (التي لم تتغير عشرات السنين) يتم طمس الإبداع وتحديده فرديًا وجماعياً بعدة طرق: من تحديد مساحات التحرك والكتابة والكلام والأسئلة والأجوبة وهامش السطر وغيرها.. هذا عدا عن ضخ أولى كميات بُخار “التنافس غير المُجدي” وزرع بذوره بين الطلاب. في المدارس الكلاسيكية يتم وبشكل أحادي الجانب – تعريف لمفهوم النجاح وربطه بشكل مباشر بالعلامات فقط. القيم التي يُدعى أنها الأهم لا يراها الطلاب عمليًا عند من يزعمون أهميتها. الصغار يرون ويلاحظون كل شيء من تصرف أو قول أو تلميح يقوم به الكبار. فعلينا أن نعي جيدًا أننا لا نستطيع “التمثيل” عليهم بأن نقول لهم إفعلوا كذا، ومن يقولها لا يفعله أصلًا.
هذا الانطباع الأولي يؤشر من البداية الى ثقة غير قوية بين الأطراف، ولو بدا غير ذلك. الصغار يُبدعون ويُطلقون مواهبهم لتظهر – فقط عندما يتأكدون وفق معاييرهم الشخصية والاجتماعية من أن هذه الخطوة تساهم في دورهم في المجتمع وتوضيحه لهم أولًا. هذا أصلًا شرط نمو وتنمية أي إبداع، فالموهبة هي في الأصل إبداع خاص يمكن لغير مالكه الاستفادة منه.
إذاً كيف تستطيع المدارس تنمية الإبداع بدلًا من طمسه؟ باستخدام الحياة نفسها والبيئة الطبيعية والحقيقية. لتبسيط المثال: عندما يتم مثلاً الشرح عن نباتات أو حيوانات أو حشرات فالجدير هو أن يتم رؤيتها ولمسها وليس فقط رؤيتها على شاشات أو أوراق. أن لا يبقى الطلاب ساعات طوال لأيام طوال ولأشهر طوال ولسنين طوال بين أربع حيطان، من حصة الى حصة وأجسادهم مرتبطة بالكراسي. هل فكرنا مرة ماذا سيكون جواب الصغار لو خيّرناهم بين التعليم المعروف اليوم وبين التعليم التفاعلي داخل وخارج الصف طيلة السنة؟ التعليم المعروف في المدرسة اليوم يُربط بشكل تلقائي بمفاهيم المعلم والصف والجدران والوظائف والامتحانات والضغط الاجتماعي والمقارنات بين الطلاب وتشجيع هذا وإحباط هذا. إذًا هناك خلل. هل هذه هي الطريقة الوحيدة أو الأنجع للتعليم؟
لو أن جهاز المدارس يعمل بالطريقة الأنجع فمن المفروض عندها أن يصل معظم الطلاب إلى درجة جاهزية قصوى للحياة العملية التي تنتظره بعد إنهاء التعليم. فلماذا لا يحدث ذلك؟ (والكل يعلم أن هذا لا يحدث والأمثلة تتكرر كل سنة في الآونة الأخيرة) هل فعلًا تم تزويد الطلاب بالآليات الصحيحة اللازمة للحياة، التي تستطيع تبرير قضاء كل هذه السنين في حدود المدارس؟
مجرّد التردد في الإجابة يجب أن يؤشر على الخلل. لأن المعيار هو العلامات فقط – إمتحانات البجروت. وماذا عن القيم والمبادئ والآليات الشخصية والاجتماعية التي يستمر مفعولها طيلة حياتنا، بينما مفعول العلامات ينتهي بعد الحياة الأكاديمية؟
لكي تستطيع المدارس بالعمل وفق معايير العلامات فقط، فهي تتنازل عن العديد من الأمور وتبرر أي وسية لتصل غاية العلامات العالية وبأقل زمن ممكن. وبالتالي تكون المدارس السبب الرئيسي لإحدى أكبر المشاكل التي تؤثر سلبيًا على حياة وطريقة تفكير الصغار والشبيبة: “الإفراط غير الناجع في ضغط المعلومات” – أو كما يصف الطلاب علاقتهم بالمواد (يصفونها هكذا بكل مقابلة أو برنامج) بأنها “دخلت دماغنا مضغوطة وخرجت بكل سهولة وراحة فورًا عند انتهاء الامتحان”.
من الأدوار الرئيسية التي يجب أن تقوم بها المدارس هو ليس أن تضغط المعلومات وتضخها بعد ذلك للطلاب بطريقة روبوتيكية، إنما أن توفر البيئة السليمة والمحفزة لإنشاء جيل يُطالب بالمعلومات ويبلور أهميتها بنفسه، مع المساعدة التوجيهية الحيوية والنافعة من معلميهم في المدارس وآلياتها. وهذا لكي يكون تطابق بين المعلومات المكتسبة في نطاق المدرسة وبين المعلومات اللازمة لمواجهة الحياة الحقيقية بشتى ألوانها. هل الحياة الحقيقية تنتظرهم فقط عند إنهائهم الدراسة؟ طبعًا لا. إنهم يعيشونها في كل لحظة خارج المدرسة. فلماذا أصبحت المدرسة بيئة معاكسة في العديد من الحالات؟ لأن المدارس بمفهومها اليوم جميعها نفس الشيء وجميعها تدرك سلبياتها، لكنها غير مستعدة للمسّ بمعايير وضعت كل شيء تقريباً قبل أهمية القيم أولاً. وفي الوضع الحالي الذي لا يُضخ به مضامين جديدة وسبّاقة في المدارس ترتكز على إثراء القدرات الشخصية والاجتماعية – كيف لنا أن نتوقع تغير النتائج التي لها علاقة بالمدارس؟
في المقال القادم سأتطرق لمقترحات لبعض الطرق المغايرة للنمط الحالي المعروف، وتوضيح إمكانية مساهمتها في جعل دور المدارس ناجعًا أكثر، لأن وجود المدارس مهم وحيوي، لكن منظومتها الحالية تضر بها وبمستخدميها. والتغيير المطلوب هو لمصلحة الطلاب والمعلمين ولمصلحتنا جميعًا أيضًا. والله الموفق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى