هي نكبة العرب في فلسطين وفي حلب

يوم بعد غد الأحد 15/5 هو يوم الذكرى الثامنة والستون لنكبة شعبنا الفلسطيني، التي وقعت عام 1948، حيث انتهت نتائج تلك النكبة بعد المجازر والتهجير لما يقرب من مليون فلسطيني، وتدمير قريبا من 531 مدينة وقرية، وبإعلان إقامة إسرائيل على أرض أهلنا وشعبنا.
وتزامُنا مع ذكرى نكبة شعبنا الفلسطيني، فإنها النكبة المستمرة منذ خمس سنوات، والتي نزلت بالشعب السوري الشقيق، ومعه أبناء الشعب الفلسطيني الذين أقاموا في سوريا بعد نكبة شعبنا. وللحقيقة فإن نكبة الشعب السوري تفوق نكبة الشعب الفلسطيني بعدد اللاجئين، الذين وصلوا قريبا من 12 مليونا، وتدمير قريبا من نصف بيوت السكان.
ومع أن كل مدن سوريا تشهد نكبة، لكن مدينة حلب؛ المدينة الثانية بعد دمشق، والعاصمة الاقتصادية لسوريا، هي من يطالها في هذه الأيام القسط الأوفر من الحقد واللؤم والاستهداف من الاحتلال الروسي، ومن الكيد الطائفي النصيري، ومن الحقد المذهبي الشيعي، متمثلا بإيران وحزب الله وأنصارهما، حيث ومن مدينة حلب وحدها هجر أكثر من مليون سوري.
نعم، في فلسطين نكبة كانت وما تزال فصولها مستمرة ومتواصلة، وفي حلب نكبة كانت وما تزال فصولها مستمرة. ولكن ماذا يمكن أن نقول عن أهل العراق وأهل اليمن؟ أليست هي نكبات؟! وماذا يقال عن 15 مليون عربي يسكنون منطقة الأهواز في إيران، حيث الحرب عليهم بما هو أقسى وأظلم من حرب إسرائيل على الفلسطينيين، ومن حرب النظام النصيري على السوريين.
وإذا عدنا بالتاريخ إلى الوراء مئة سنة بالتمام؛ أي إلى العام 1916، حيث نجح الانجليز بالإيقاع بين العرب وبين الدولة العثمانية، بل إن العرب يومها قد انحازوا بشكل سافر إلى جانب الانجليز فيما سميت بالثورة العربية الكبرى، حيث حمل العرب السلاح ضد الأتراك العثمانيين.
إنها نكبة العرب، بدأت من يومها حين انسلخ العرب عن أخوّة الدين واللغة وارتموا في أحضان المستعمرين الفرنسيين والانجليز، ثم ظهرت بينهم الدعوة القومية المعادية للدين بشكل سافر، ثم تغلغلت بينهم الشيوعية والاشتراكية والرأسمالية كمشاريع سياسية وفكرية واقتصادية واجتماعية، ثم تحولت القومية إلى مشروع تقوم عليه دول، ويدعو إليه زعماء ورؤساء.
لم تطل المدة وإذا بباكورة الحصاد المر يذوقها أبناء الشعب الفلسطيني، حينما وقعت نكبتهم، وحينما تآمرت عليهم الجيوش العربية التي زعم من أرسلوها أنها كانت لنجدة شعب فلسطين، ولكنها كانت في الحقيقة لنجدة العصابات الصهيونية، حيث لم تتوفر إرادة القتال، بل إنهم حالوا بين الفلسطينيين وبين الحصول على السلاح للدفاع عن أراضيهم وأهلهم.
ثم كانت نكسة 1967 حينما فرط العرب وضيعوا سيناء والجولان والقدس الشريف والضفة الغربية وقطاع غزة في ساعات معدودات سمّوها كذبا وزورا حرب الأيام الستة. وشهد العرب كيف حاصر الإسرائيليون العاصمة اللبنانية بيروت، بل ودخلوها عام 1982، ثم تكرر المشهد لكن ليكون هذه المرة بالبث المباشر، حيث شاهد العرب سقوط بغداد عام 2003 تحت الاحتلال الأمريكي الذي سلمها بعد ذلك لإيران، تُجري مع بغداد والعراق جرد حساب طويل يعود تاريخه إلى حرب القادسية، وإلى أيام يزدجرد والمثنّى والقعقاع وسقوط المدائن عاصمة الدولة الفارسية بيد الفاتحين المسلمين العرب. وليس هذا وحسب، بل إن مظاهر النكبة راحت تتوالى إلى حين شاهد العرب وبالبث المباشر الحرب على غزة 3 مرات خلال ست سنوات، حيث الحرق والدمار والحصار. وليس أن الإسرائيليين فعلوا ذلك وحدهم، بل إن الدولة العربية الكبرى، مصر، كانت الطرف الأقوى في الحصار ،بدءا من عهد حسني مبارك وانتهاء بعهد السيسي.
لم تبق غزة وحدها الشاهد على نكبة العرب ونكستهم وتفرقهم وذلهم, وإذا بها سوريا عموما وحلب خصوصا تنضم إلى قائمة عار العرب وخيبتهم، حيث هذه المدينة العريقة تدمّر وتهدم ويشرد أهلها بالطائرات الروسية وطائرات النظام، وحيث الميليشيات الطائفية الشيعية من إيران وأفغانستان والعراق وباكستان وغيرها تحاصرها وتذبح أهلها.
إنهم إذًا العرب هم من ضيعوا فلسطين، وكانوا شهود زور على نكبتها. وإنهم العرب اليوم كذلك شهود زور على نكبة سوريا عموما وحلب خصوصا، وإن كان البعض منهم يتظاهر بالوقوف إلى جانب شعبها وأهلها. إنها نكبة العرب إذًا، كانت وما تزال مستمرة، نكبة سياسية, وعسكرية, وأخلاقية, وفكرية, واجتماعية, وحتى نكبة في المروءة وفي المشاعر والأحاسيس.
إنها النكبة في عرب هذا الزمان، وهو يستجدون أعداء الأمة، ويتذللون عند أبوابهم. وأنا لا أتحدث عن طالبي اللجوء من الشيوخ والنساء والأطفال يموتون عند حدود وعلى سواحل دول أوروبا، وإنما أتحدث عن أصحاب الجلالة والفخامة والسيادة، تتحكم فيهم دول الظلم: روسيا, وأمريكيا, وكل دول الغرب، يتحكمون بقرارهم وبسلاحهم، بل وفي لقمة طعامهم وحبة دوائهم.
يحكى أن الأصعمي قد سأل أعرابيا يوما، فقال له: ماذا تقول العرب: استخذيت أم استخذأت- أي هل تقال بالياء أم بالهمزة، فقال له الاعرابي: لا هذه ولا تلك، فإن العرب لا تستخذي، أي لا تستجدي.
أليست هي نكبة العرب اليوم، ونحن نراهم يستجدون ويتذللون لأعدائهم كالعبيد بين يدي أسيادهم؟
إنها النكبة في عرب هذا الزمان، حيث أصبح العربي يقتل الطفل والشيخ، والمرأة العربية ينتهك حرمتها وعرضها. إنه الذي يعتقلها ويغتصبها ويقتلها، بينما كان عربي الزمان الغابر يعتبر أن من العار أن يصيب سيفه دم امرأة، لا بل إنه سيف العربي الذي كان يجرد لما يسمع المرأة تنادي “واسلاماه! وامعتصماه!” فيقول لها لبيك لبيك! ها هو عربي زماننا ليس أنه لا يجرد سيفإ لأجلها، بل انه الذي يُجرد لها بندقيته لقتلها، والذي يُنزل عليها وعلى أطفالها صواريخه وبراميله المتفجرة يمزق جسدها وأطفالها.
إنها النكبة في العرب اليوم وهم يكملون ما بدأ به الإسرائيليون الذين أوقعوا النكبة بشعبنا عام 1948، ونجا أبناء شعبنا ليكونوا في ضيافة وفي جوار إخوانهم السوريين، وإذا بالأيام تدور ليجد هذا الفلسطيني نفسه وقد نُكب مرة ثانية، وليهدم بيته مرة أخرى، وليقتل ويشرد أبناؤه وأطفاله، لكن هذه المرة بيد العرب لا بيد اليهود. بل وليكون العار والشنار ينزل على كل العرب ونحن نسمع ذلك الشيخ الفلسطيني، الذي ولد في فلسطين وهجر إلى سوريا وعاش فيها وقد بلغ الشيخوخة، ولأنه قد هدم بيته وتشرد أهله ورأى من الأهوال ما رأى فقال وهو يبكي: (ودوني عند اليهود، أرحم)، إنه يقصد أن اليهود أرحم من نظام بشار وعصاباته.
إنها النكبة في عرب هذا الزمان لما أصبح بعض مثقفيهم يعيب على أبناء المشروع الإسلامي تعاطفهم مع أهل أفغانستان ضد الاحتلال الروسي، ثم الامريكي بعد ذلك، حيث أنهم يعتبرون رباط القومية مع العربي غير المسلم أقوى من رباط الدين والعقيدة مع المسلم غير العربي، فما بال هؤلاء وهم يعيشون النكبة الحقيقية، ودخلوها من أوسع أبوابها، ما بالهم إذًا يسمحون، بل ويمجدون ويباركون قتل الروس للعرب السوريين وتدمير بيوتهم وتشريد عوائلهم بالطائرات الروسية؟! وما بالهم يهتفون للاحتلال الفارسي الإيراني للأرض العربية السورية يدمرون مدنها وقراها؟! وما بالهم نسوا وغاب عن بالهم أن أرضا عربية سورية اسمها “الجولان” هي تحت الاحتلال الإسرائيلي منذ 49 سنة؟! فإذا كنتم عربا أقحاحا فكيف تباركون قتل العربي واحتلال بلاده على يد الفرس والروس والإسرائيليين؟ أم أن عروبتكم هذه كعروبة أبي رغال؟!
إنها النكبة في عرب هذا الزمان، وهم الذين لو كانوا منصفين وصادقين مع أنفسهم لأقرّوا واعترفوا بفضل الإسلام على العرب، وأنهم, أي العرب، لم يدخلوا التاريخ بيوم البسوس ويوم داحس والغبراء، وإنما دخلوه بيوم بدر والقادسية واليرموك وحطين، وإنهم لم يدخلوا التاريخ بالمعلقات السبع، وإنما دخلوه بالقرآن الكريم, وإنهم لم يدخلوا التاريخ باللات والعزّى, وإنما دخلوه بـ”لا إله إلا الله محمد رسول الله”. هؤلاء العرب لما شربوا من معين الإسلام، وتنسموا هواءه فإنهم عزّوا وسادوا, ولما أداروا له الظهر ذلوا وخابوا، بل عادوا لما كانوا عليه وأشد سوءا وجهلا وذلا. إنه الإسلام، البلسم لجراح العرب:
الله للدين كم ظلمًا أهين وكم
ظنوه نقصًا، وفي التفكير نقصانُ
سل صفحة الأمس عمن أيدوه أما
كانت لهم في نواحي الأرض تيجانُ
دين الحضارة والأخلاق أسعدهم
فمُذ أهانوه قد ذلوا وقد هانوا
عدلٌ من الله تأييدًا لسنته
حظُّ المقصر إقصاء وحرمانُ
يا قوم لوذوا بحبل الله واعتصموا
إن الدواء لداءَ العرب قرآنُ

إنها نكبة العرب هذا الزمان، ليس أنهم لم يفعلوا شيئا لرفع الحصار عن عرب ومسلمين يموتون جوعا في غزة, وإنما هم الذين فعلوا ذلك بأنفسهم وهم يحاصرون غزة ويجوّعون أهلها، وقد هدموا الأنفاق بعد إذ أغلقوا المعابر التي منها كانت تصل إليهم أسباب الحياة. وإنه التاريخ يذكر كيف وقف ذلك العربي يمزق وثيقة السوء التي وقعها زعماء قريش، وقد فرضوا حصارا على المسلمين في شِعب مكة فلا يبيعون ولا يشترون ولا يتزوجون منهم، وهلك الناس جوعا، حتى أنهم كانوا يبللون جلود الماشية الميتة بالبول لعلها تلين قليلا ثم يمضغونها، عاداك عن أكل ورق الشجر.
ها هم عرب اليوم يرون كيف يجوع أطفال غزة ويموتون حرقا بسبب انقطاع الكهرباء واستعمال وسائل إضاءة خطيرة، كما حصل مع الأطفال الأشقاء الثلاثة في مخيم الشاطئ مطلع الأسبوع، وقد ماتوا حرقا بسبب استعمال الشموع. ألم يسمع عرب اليوم بعمر بن الخطاب يبكي لبكاء الأطفال في الليل جوعا، وهم حول النار تُوهمُهم أمهم أنها تعد طعاما، بينما في الإناء حجارة وماء، فذهب عمر وأعد لهم طعاما بيديه، وبكى وهو يقول: والله لا أبرح المكان حتى أراهم يضحكون كما رأيتهم يبكون.
ألا يرى عرب اليوم أطفال حلب وأشلاءهم تتناثر على حيطان منازلهم، بفعل قصف طائرات بشار وبوتين؟ ألم يروا؟ ألم يشاهدوا ذلك الطفل الباكي أخاه وهو يقف عند رأسه، وهو الذي قتل لساعته يقول باكيا: (لك خيّي شو صار فيك)، حيث بكاؤه يبكي الصخر؟!
نعم، إن النكبة الحقيقية ليست في ما يحصل في حلب ولا في فلسطين، وإنما النكبة الحقيقية في الحال الذي وصل إليه العرب بعد إذ ابتعدوا عن الإسلام؛ مصدر عزهم وفخرهم: (كنا معشر العرب أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة بغير الإسلام أذلنا الله)؛ هكذا قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه.
وإنني على يقين لو أن العرب اليوم عادوا إلى الإسلام وتمسكوا به، كما فعل أجدادهم لكانوا سادة الدنيا, ولكانت طويت صفحة عذابات أهل فلسطين منذ زمن, ولكانت عودتهم بعد نكبتهم قد تحققت منذ سنين, ولكانت محنة ونكبة سوريا عموما وحلب خصوصا ما وصلت إلى الذي وصلت إليه. لذلك نجد أعداء الإسلام وأبواقهم من دعاة القومية العروبية المعادية للإسلام يرون فيه عدوهم، ولا عدو لهم سواه! ونراهم يتحالفون ويتواطأون مع الروس والفرس ضد المسلمين، لمنع عودة الإسلام بدعوى محاربة الإرهاب.
أرى الملايين في الأقطار ليس لهم
في عالم اليوم إجلال وإكبار
هانوا على الله لما أصبحوا دولا
وبات يملكهم في الناس سمسار
يا سيد الرسْل قد باتت عروبتهم
سيفا به هتكت للدين أستار
إن العروبة بالإسلام عزتها
فإن هوت غيره فلتبكها الدّار

ففي ذكرى نكبة فلسطين، ومع أهوال نكبة حلب فإننا نقول إن النكبة الحقيقية هي في العرب أنفسهم، وفي هويتهم وسلوكهم. إنها نكبة العرب، كل العرب, إنها نكبتهم يوم استبدلوا الأصيل بالدخيل، وآثروا منهج الأرض على منهج السماء، وقبعوا في آخر القافلة وعند الذيل، وهم الذين كانوا دائما في المقدمة. إنها نكبتهم يوم لهثوا خلف البريق واللمعان والزيف، وما علموا أن بين أيديهم اللآلئ والماس. إنها نكبتهم يوم فتحوا قلوبهم وأحضانهم لكل مستورد مزيف، وأداروا ظهورهم للإسلام دين الحق. إنها نكبة العرب، كل العرب وليس فقط في فلسطين وحلب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى