يا ويلتا ليتني لم أصبح رئيسا للسلطة المحلية!!!

إن ظاهرة السلطات المحلية هي قديمة عتيقة، بزغ فجرها فور اندلاع الثورة الزراعية، حين تطورت البشرية من حياة التنقل والبداوة إلى حياة الاستقرار والحضارة، فاستوطنت في أماكن ثابتة. وربطت أواصر قرابة الدم نسيجها المجتمعي. لكن الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر أنجبت ظاهرة التمدن، إذ أقيمت المدن حول المصانع حين نزح سكان القرى للمدن سعيا للعمل، فتلاشت رابطة الدم السابقة، وعمت الفردانية أرجاء المدن.

لكن هذا السرد التاريخي الوجيز تخطى المدينة العربية في إسرائيل وتعداها، لأنها نشأت أول ما نشأت كقرية في بنيتها التحتية، لكننا تناكحنا وتناسلنا وتكاثرنا مع الزمن، ف”تفجرت” القرية بكثافة سكانها، فحازت وفازت بلقب “المدينة” المنشود، لكنها ما زالت قرية بدائية ببنيتها التحتية التي يندى لها الجبين.

وبعد أن خمدت “نيران حرب انتخابات تشرين المنصرم” على مناصب رئاسة سلطاتنا المحلية، وانتهت عملية “ضرب الرقاب وشد الوثاق حتى وضعت الحرب أوزارها“، وبعد أن همدت أصوات مفرقعات حفلات الفوز على “العدو اللدود في الانتخابات“، واستلم الرؤساء الجدد مفاتيح “القدس“، بعد كل هذا سيكتشفون عما قريب أن أحلامهم ستتبخر وتتبعثر، وأن الواقع المرير سيفيقهم من نشوة الفوز، وسرعان ما ستنجلي لأعينهم الحقائق القاسية المرة الآتية، أذكرها للقصر لا للحصر: دولة لا تعاضد ولا تساند، قرى ومدن تشمل مسطحات شاسعة دون خرائط هيكلية، نقص مدقع في الأراضي المعدة لبناء الوحدات السكنية، بيوت سكنية مبنية دون ترخيص وخلافا لقوانين التنظيم والبناء (ما البديل؟ أين نعيش؟؟؟)، بنية تحتية تليق بقرى إفريقية عاشت في القرون الوسطى، نسبة جباية ضريبة الأرنونا في أسفل سافلين، عائلات تعيش تحت خط الفقر (54%)، عجز مالي في ميزانيات السلطات المحلية، تدريج اقتصادي – اجتماعي (דירוג סוציו – אקונומי) أقل من 4 (بلدتان عربيتان فقط حصلتا على تدريج 5-6)، نصف سلطاتنا المحلية العربية تعيش ضمن برامج إشفاء (תכניות הבראה) وتحت رقابة محاسب مرافق (חשב מלווה)، عينه وزير الداخلية، وفوق كل هذه المتاعب والمصائب ينتظر سعادة الرئيس موظفون غير مهنيين (إلا من رحم ربي)، كفاءتهم الوحيدة هي أواصر علاقة القرابة الحمائلية أو العشائرية أو الطائفية أو السياسية الحميمة، ربطتهم برئيس سابق، اعتبرها معيارا لتعيينهم.

وبالرغم من أن أحد عوامل فشل بلداتنا وعدم تطورها يعود إلى هؤلاء الموظفين، فكل محاولة للرئيس الجديد لإقالتهم تبوء بالفشل الذريع، فقوانين العمل (דיני עבודה) والعقود الجماعية (הסכמים קיבוציים) ونقابة العمال (ההסתדרות) وأواصر علاقة الدم تتكاتف وتتكاثف لتحول دون إشفاء وإنعاش المبنى التنظيمي المريض للسلطة المحلية. ولن أزيدكم من الشعر بيتا إن ذكرت أن محاولة نقل مساعدة لحاضنة من حضانة لأخرى، لا إقالتها، قد تؤدي إلى اندلاع أزمة سياسية – إجتماعية – حمائلية، لا أول لها ولا آخر، فتبدأ وسائل الضغط على الرئيس “قاطع الأرزاق“، وتنهال زرافات وفود الحجيج، من معارف وجيران وأصدقاء وأقارب، على مكتبه نهارا وعلى بيته ليلا، ساعية جاهدة لإقناعه العدول عن قراره “المصيري” لنقل تلك المساعدة من الحضانة الشرقية إلى الحضانة الغربية!!!

وهذه الظاهرة من التعيينات السياسية لموظفين غير أكفاء لها عواقب هدامة وأبعاد فتاكة، فهي تمنع من السلطات العربية من تجنيد الموارد والميزانيات الحكومية من ناحية، وتحول بينها وبين تطوير المبادرات والشراكات مع القطاعين الخاص والثالث من ناحية أخرى. وهكذا ينضب حجم واردات السلطة المحلية، ويقتصر على جباية ضريبة الأرنونا التي لا تكاد تسد تكلفة رواتب الموظفين، ناهيك عن تكاليف قسم المعارف، والرفاه الاجتماعي، والهندسة، والمشتريات، وديوان سيادة الرئيس، وما أدراك ما تكاليف ديوان سيادة الرئيس!

من هنا، نصل إلى النتيجة الحسابية البسيطة الحتمية المؤلمة: عجز مالي جار (גרעון שוטף) وعجز مالي متراكم (גרעון מצטבר) يشلان مستوى الخدمات العامة ويبددانه ويمزقانه!

ولعل سائل يسأل: ما سبيل النجاة والخلاص من هذه المحنة المزمنة؟ تشير الأبحاث إلى عدة سبل يجب اتباعها سوية وفي آن واحد. وردت إحدى هذه السبل في قصة ذكرت في كتاب “اختراع السلطة من جديد“، للباحثDavid Osborne ، والتي ندرسها في المؤسسات الأكاديمية ضمن مساق الإدارة العامة (Public Administration). تروي أحداث القصة أنه حين تسلم جورج لاتامير، وهو من أصل لبناني، مقاليد رئاسة بلدية سينت بول في ولاية مينيسوتا الأمريكية، كانت البلدية قاب قوسين أو أدنى من الإفلاس والإملاق، وفي أدنى سلم التدريج الاجتماعي–الاقتصادي. فسرعان ما أيقن أن إنقاذ مدينته منوط ببناء الشراكات مع القطاعين الخاص والثالث. من شركات ربحية ومؤسسات المجتمع المدنية. وعلى رأسها المؤسسات الأكاديمية، وهكذا أنقذ مدينته من الهلاك المبين.

السبيل الثانية كامنة في التفكير المشاكس والمغاير لرؤساء السلطات المحلية، فعليهم الا ينجروا وراء اساليب العمل التقليدية التي اتبعها سابقوهم ففشلوا. عليهم ألا ينتظروا المبادرات من الوزارات الحكومية لتطوير مدنهم وقراهم، فهذا آخر ما تريده لنا تلك الوزارات. عليهم أن يستعينوا بأهل الإختصاص من غير موظفي البلدية، لبناء برامج تطوير مستقلة لبلداتهم، وبناء الشراكات مع القطاع الخاص تطوير المشاريع والمبادرات الاقتصادية الربحية، ناهيك عن العمل الدؤوب والضغط المستميت العنيد والمنهجي، على الوزارات الحكومية للمصادقة على تلك البرامج وتلك المبادرات.

وهذا يذكرني بالكتاب الشيق “”Innovate or Die، للباحث الشهير Tom Peters، الذي يحث على التفكير المشاكس غير المألوف “خارج الصندوق” كاستراتيجية بقاء وحيدة. فما إحوج سلطاتنا المحلية أن تتبنى هذا الفكر المستنير فتذوته وتطبقه، لعلها تتحرر من “كمين العسل” التي ينتظر الرؤساء الجدد. عليهم أن يتذكروا أنهم إذا خذلوا الناخب الكيس الفطن، لن ينالوا ثقته من جديد، فيصبح زمن “تربعهم” على “عرش” الرئاسة مؤقتا. فحبذا لو سعوا جاهدين لإتقان عملهم الحماهيري، ألم يعلموا أن الله يحب إذا عمل أحدهم عملا أن يتقنه؟ ألم يدركوا أنه لا يحسد من قلده الله أمر الناس وائتمنه عليهم? أليست الرياسة والريادة والسيادة مسؤولية جمة ومهمة ضخمة؟ ألم تعرض الأمانة على السماوات والأرض فأبين أن يحملنها؟

لنختم مقالنا بنصائح كتبها أبو يوسف الأنصاري، للخليفة هارون الرشيد، حين طلب منه الأخير أن يكتب له كتابا حول أموال الدولة العباسية ووارداتها، فألف رحم الله كتابا سماه “الخراج“، وفي مقدمته كتب للخليفة ناصحا: “يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللَّهَ قَلَّدَكَ أَمْرًا عَظِيمًا: ثَوَابُهُ أَعْظَمُ الثَّوَابِ، وَعِقَابُهُ أَشَدُّ الْعِقَابِ. جعلك خليفته في أرضه، وَجَعَلَ لَك نورا يضيء لِلرَّعِيَّةِ مَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ. لَا تُؤَخِّرْ عَمَلَ الْيَوْمِ إِلَى غَدٍ فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ أَضَعْتَ. إِنَّ الأَجَلَ دُونَ الأَمَلِ، فَبَادِرِ الأَجَلَ بِالْعَمَلِ، فَإِنَّهُ لَا عَمَلَ بَعْدَ الأَجَلِ. إِيَّاكَ والْأَمر بِالْهَوَى وَالأَخْذَ بِالْغَضَبِ. وَاجْعَلِ النَّاسَ عِنْدَكَ سَوَاءً: الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ، وَلا تَخَفْ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ. وَاحْذَرْ فَإِنَّ الْحَذَرَ بِالْقَلْبِ وَلَيْسَ بِاللِّسَانِ، وَاتَّقِ اللَّهَ فَإِنَّمَا التَّقْوَى بِالتَّوَقِّي، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَقِهْ“.

ألا يليق بهذه النصائح أن تسطر بماء من ذهب؟

 

نشر هذا المقال (بصيغته المختصرة) على موقع Ynet بتاريخ 07.11.2018

رابط المقال في Ynet: https://www.ynet.co.il/articles/0,7340,L-5390655,00.html

 

الكاتب هو مراقب حسابات، خبير قانوني ومحاضر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى