دين الرحمة
إن الرحمة هي العمود الفقري للقرآن الكريم الذي يعد دستورًا للمسلمين. ففي البسملة تجد صفتَيْ الرحمن الرحيم، وفي أول سور القرآن (الفاتحة) تجد فيها صفتيْ الرحمن الرحيم قد تكررتا في السورة ذاتها. وهذه السورة هي التي يجب أن يقرأها المسلم في كل ركعة من ركعات صلاته في كل يوم. معنى ذلك أنه يردد لفظ الرحمن مرتين، على الأقل، ولفظ الرحيم مرتين، على الأقل. أي أن المسلم يتذكر 4 مرات في كل ركعة رحمة الله، وهذا يعني ترديد صفة الرحمة في كل يوم 68 مرة من خلال 17 ركعة مفروضة على المسلم. وروى أبو هريرة عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: “إن الله كتب كتابًا قبل أن يخلق الخلق أن رحمتي سبقت غضبي، فهو مكتوب عنده فوق العرش”. وتقول الآية 54 من سورة الأنعام: ” كتب ربكم على نفسه الرحمة”. وذكر أبو هريرة عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: “إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة في الأرض منها يتراحم الخلق، حتى أن الفرس لترفع حافرها، والناقة لترفع خفّها مخافة أن تصيب ولدها، وأمسك تسعة وتسعين رحمة عنده ليوم القيامة”، رواه البخاري.
وأما الرسول فبعثه الله رحمة للعالمين فقال تعالى: “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”. وقد أقسم الرسول صلى الله عليه وسلم: “والذي نفسي بيده لا يضع الله رحمته إلا على رحيم”. وقال أيضًا: “ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء”. وكلمة “من” تشمل كل من في الأرض دون اعتبار لجنس أو دين، مؤمن أو كافر. كما وتشمل الرحمة البهائم المملوكة وغير المملوكة، والحيوانات على أنواعها والطيور والحشرات وغيرها. إن أولى الناس وأحقهم بالرحمة هما الوالدين، فيجب على أولادهم الإحسان لهم إذ قال تعالى: “واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربّ ارحمهما كما ربياني صغيرا”، الإسراء 24. وفي الحديث: “الرحم من الرحمة ومن وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله”. إن الرحمة من الفطرة التي خلقها الله ولكن قد تُطمس الفطرة بالمعاصي فتكون الرحمة قسوة جبارة ضارة. وذكر الحديث الشريف: “من لا يرحم الناس لا يرحمه الله”، رواه البخاري ورواه أحمد بن سعيد وزاد: “ومن لا يغفر لا يُغفر له”. وفي الحديث الشريف: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”. إن رحمة الرسول، صلى الله عليه وسلم، معجزة تجلت في مواقف كثيرة ومنها “قصة الأخشبين” (الأخشبان هما جبلان في مكة)- خرج الرسول إلى الطائف حيث تسكن قبيلة ثقيف يتلمّس النصرة والمنعة بهم من قومه ورجاء أن يُسلموا، فمكث فيهم عشرة أيام وهو يدعو أشرافهم إلى الإسلام ولم يجيبوه وردوا عليه ردا شديدًا وأغرّوا سفهاءهم فجعلوا يرمونه بالحجارة حتى أدموا وجهه وقدميه، وكان زيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى جرح في رأسه. عندها استجار النبي بالله تعالى فأرسل له جبريل ومعه ملك الجبال حيث أرسله الله لكي يأمره الرسول بما يفعل له ردًا على أذى المشركين له فعرض عليه ملك الجبال بأن يطبق الأخشبين على المشركين فرفض الرسول طريقة الانتقام هذه وأظهر الصفح والتسامح والرحمة حين قال: “بل أرجوا أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئًا، اللهم اهد ثقيفًا واتِ بهم”. وهذا الموقف موافق لقوله تعالى: “فبما رحمة من الله لنت لهم” وقوله تعالى: “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”. وقال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، في هذا المقام: “بأبي وأمي يا رسول الله لقد دعا نوح على قومه فقال :”رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديّارا”. ولو دعوتَ لهَلِكنا من عند آخرنا ولقد وُطّئ ظهرك وأدمِيَ وجهُك… فأبيت أن تقول إلا خيرًا فقلت:” اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون”. وأما الموقف العظيم الثاني للرسول فتجلى يوم فتح مكة. فماذا قال الرسول، صلى الله عليه وسلم، لكفار قريش حينها؟ .لقد كان فتح مكة درسًا مثاليًا في التواضع والعفو والرحمة. لقد دخل النبي دخول من أرسله الله رحمة للعالمين، ولم يدخل دخول المنتصرين الجبارين الذين يبطشون وينتقمون من أعدائهم الذين أخرجوهم من ديارهم وأموالهم وآذوهم وقاتلوهم بل قابل ذلك بالعفو والكرم والصفح الجميل فقال قولته الشهيرة: “ما ترون إني فاعل بكم؟ قالوا خيرًا، أخٌ كريم وابن أخٍ كريم، فقال: أقول كما قال يوسف { قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين}، يوسف92. “اذهبوا فأنتم الطلقاء”.
وهناك أمثلة عدة لرحمة الرسول في جميع المجالات ومنها: 1) رحمة الصغير والكبير- لقد حثّ الإسلام على رحمة الصغار والكبار في السن، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ليس منّا من لا يوقّر الكبير ويرحم الصغير ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر”، رواه أحمد والترمذي. وقال الرسول كذلك: “لا تنزع الرحمة إلا من شقي”. 2) الرفق بالحيوان- لقد لعن عليه السلام من اتخذ الحيوان وسيلة للتسلية والإيذاء والعبث. وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الرحمة بابًا من أبواب الأجر ودخول الجنة، كما جعل القسوة معها سببًا لدخول النار. وقد جاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة، رضي الله عنه قال: “بينما رجل يمشي فاشتد عليه العطش فنزل بئرًا فشرب منها، ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من شدة العطش قال: لقد بلغ هذا الكلب مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ثم رقي فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له”. وفي نفس السياق دخلت باغية من بني إسرائيل الجنة بسبب كلب كاد يقتله العطش فأسقته. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض”. كما وروى أحمد وبن ماجه قال: أمر رسول الله بحد الشفار وأن توارى البهائم وقال: “إذا ذبح أحدكم ذبحًا فليجهز” وقضى الإسلام برحمة الحيوان الأعجم من أن يجوع أو يحمل فوق طاقته وقد قال صلى الله عليه وسلم في رحمة بالغة حين مرّ على بعير قد لحقه الهزال: “اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة فاركبوها صالحة وكلوها صالحة”. 3) الرحمة بالطيور- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من قتل عصفورًا عبثًا عج إلى الله عز وجل يوم القيامة يقول: يا رب إن فلانًا قتلني عبثًا ولم يقتلني لمنفعة”. وكان الرسول رحيمًا بالطيور فقد رأى فرخيين أخذهما أحد الصحابة من عشهما فطارت أمهما فوقهما حزينة عليهما، فأمر الرسول بردهما إليها. 4) الرحمة بكل شيء ليس فيه روح- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعاطف مع جبل أحد، الصخر الأصم، ولا يريد للناس أن تتشاءم منه لحدوث مصيبة للمسلمين عنده ولا يريدهم أن يكرهوه دون جريرة ولا جريمة فقال وهو يشير إلى جبل أحد: “هذا جبل يحُبنا ونحبه”.
قبل أن نختم هذا المقال لا بد أن نعرج على عمرو بن العاص- تروي كتب التاريخ أن عمرو بن العاص عندما فتح مصر نزلت حمامة بفسطاطه (خيمته) فاتخذت من أعلاه عشًا، وحين أراد عمرو الرحيل رآها فلم يشأ أن يهيجها بتقويضه فتركه وتكاثر العمران من حوله فكانت مدينة الفسطاط (القاهرة اليوم). أما الخليفة عمر بن عبد العزيز فقد نهى عن رقض الفرس إلا لحاجة ومنع والي مصر من تحميل الإبل النقالات أكثر من 600 رطلًا حيث كانوا يحمّلونها ألف رطل. وأخيرًا، وحسبي الله، أقول: الرحمة الرحمة يا قتلة الأطفال والنساء في سوريا، فقد ارتكبتم أبشع المجازر في التاريخ البشري، واعلموا أن الله يمهل ولا يهمل.