مقالة | لا تبيعوا الإسلام بقروش
الشيخ كمال خطيب |
ما أجملها وما أصدقها وصية عمر بن عبد العزيز رحمه الله ورضي عنه لمّا قال: “كونوا دعاة لله وأنتم صامتون. فقيل له: كيف يكون ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: بأخلاقك”. إنها الوصية المستوحاة من وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا قال: “إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم”.
إنها الأخلاق الحميدة والسلوكيات الفاضلة تلك هي التي تزيّن الإنسان المسلم ولا تزيّنه الشعارات ولا فذلكة الكلام وتقعّر المصطلحات وادعاء التديّن الأجوف الذي يفضحه السلوك والممارسة كما قال الله سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} آية 3-2 سورة الصف. فكم من الناس من إذا سمعته ظننت أنه عنوان التقوى والورع، فإذا خالطته وخضت معه تجربة جوار أو عمل أو رحلة سفر تبين لك عكس ذلك، ليصدق قول الشاعر:
لا تمدحنّ أحدًا حتى تجربه ولا تذمنّه من غير تجريب
إنها قصة شاب مسلم من الباكستان كان قد هاجر إلى بريطانيا وتنقل في سكناه لأكثر من مرة حتى انتهى به المطاف للسكن في العاصمة لندن بعد أن تيسّرت له فرصة عمل فيها، فانتقل إليها ليكون قريبًا من مكان عمله، وكان يستقل نفس الباص ويقوده نفس السائق من المحطة القريبة من منزله وينزل قريبًا من مكان عمله.
وذات مرة دفع أجرة الباص وجلس في مقعده ليجد أن السائق قد أرجع له “عشرين بنسًا” زيادة عمّا كان يجب أن يرجعه له من الورقة النقدية التي أعطاها للسائق، ولأول وهلة فإنه همّ أن يتقدم نحو السائق لإرجاع المبلغ الزائد لأنه ليس من حقه، ثم فكّر مرة ثانية ليجد نفسه الأمّارة بالسوء تقول له “إنس الأمر، فالمبلغ زهيد وشركة الباصات تربح الكثير من المال كل يوم ولن ينقص من ربحهم عشرين بنسًا، فاحتفظ بالمال لك واعتبره هدية لك من الله”.
وخلال هذا التفكير بين رد المال للسائق والاحتفاظ به، فقد وصل الباص للمحطة التي سينزل بها، وعند الباب وقريبًا من السائق كانت لحظة الحسم، فانتصر الخير الذي فيه فمد يده إلى جيبه وقال للسائق هذه العشرين بنسًا أعطيتني إياها زيادة على ما استحق وأعطاها للسائق.
أخذها السائق وابتسم وقال له: “ألست أنت المسلم الساكن الجديد في هذا الحيّ؟ قال الشاب: نعم أنا هو. قال السائق الانجليزي: فأنا منذ مدة وأنا أفكر وأخطط لآتي إلى مسجدكم للتعرف على الإسلام، ولقد أعطيتك هذا المبلغ الزائد عمدًا لأرى كيف يكون تصرفك، أما وإن هذا هو خلق المسلم قد رأيته فيك وفي أمانتك فإنني قريبًا جدًا سآتي لمسجدكم لأتعرف على الإسلام أكثر.
نزل الشاب المسلم الباكستاني وتكاد رجلاه لا تحملانه من التأثر وهو يبكي من رهبة الموقف، وأسند ظهره إلى محطة الباص يرفع يديه إلى السماء يقول: “حمدًا لك يا إلهي أن نجيّتني وأنقذتني في هذا الإمتحان، فقد كدت أن أبيع الإسلام بعشرين بنسًا”.
إنه الفارق الكبير بين هذا الشاب المسلم من أصول باكستانية رفض أن يبيع الإسلام بعشرين بنسًا وبين الشاب كذلك من أصول باكستانية واسمه عثمان خان والذي في الجمعة الأخيرة حمل خنجره وسط لندن إياها وراح يطعن المارة من الناس يذبحهم ذبح الخراف، فقتل اثنين وجرح آخرين. كيف يفعل ذلك وهو الذي فرّ هو أو والده من بلاده الأصلية إما بحثًا عن الأمن وخوفًا من الظلم أو بحثًا عن العمل وهروبًا من الفقر في بلاده فاستقبلوه في بلادهم وأعطوه الإقامة ولعله حصل على جواز سفرهم ووفروا له فرصة العمل، وإذا به يذبح أبناءهم وفق نظرية وتربية وفهم داعش المشوه والعقيم للإسلام.
إنه الفارق بين الفهمين للإسلام عند الشاب الأول ورفض أن يبيع الإسلام بعشرين بنسًا وبين الشاب الثاني الذي باع الإسلام مجانًا بل بخسارة عبر تشويه صورة الإسلام بل والتضييق أكثر على المسلمين هناك.
كثيرون هم الذين يسقطون في الامتحان لمّا يسيل لعابهم على حطام الدنيا من أجل مال أو منصب أو مصلحة دنيوية ليكون الثمن الذي يدفعونه ليس إلا هويتهم ودينهم يبيعونه بثمن بخس دراهم وقروش معدودة، فيكونون بذلك قد خسروا الدنيا والآخرة. إن الذين يتظاهرون بالإسلام لتحقيق مصلحة، مثلهم كمثل الذين ينسلخون من الاسلام من أجل مصلحة فلا فارق بينهم في الخسارة. فهذا شاب عربي مسلم يعيش في أمريكا وهو من أسرة متدينة محافظة، لكن الشاب وبسبب صداقاته من شباب بعيدين عن الالتزام والتديّن فإنه أراد الزواج من فتاة أمريكية. رفض أبوه ذلك، وبعد إلحاح وعناد وافق الأب شريطة أن تدخل الفتاة في الإسلام وتعتنقه. أخذ الشاب من بيت أبيه ومن مكتبته كتبًا تتحدث عن الإسلام وتشرح معانيه ورسالته، وأعطاها للفتاة كي تقرأها، وبعد أن قرأت الكتب وبعض شروحات تفسير آيات القرآن الكريم أسلمت الفتاة ونطقت الشهادتين، لكن الغريب كان برفضها الزواج من الشاب فلمّا سُئلت قالت لأنني لم أجد فيك معنى الإسلام، فلن أتزوجك حتى أرى فيك تلك المعاني وهذا الانتماء لرسالة الإسلام الحقيقية.
# لا تبيعوا الدين بالتين
مرّ مالك بن دينار يومًا في السوق فسمع بائعًا ينادي بأعلى صوته يبيع التين. رأى مالك عربة التين وقد عرض بشكل جذاب جميل فاشتهاه ولكنه لم يكن يملك ثمنه، فطلب من البائع أن يبيعه التين على أن يأتيه بالثمن في الغد، لكن البائع رفض ذلك، فعرض عليه مالك أن يرهن عنده شيئًا مما كان معه من متاع إلا أن البائع كذلك رفض ثانية.
انصرف مالك من عند البائع وسرعان ما تجمع حول البائع جمع من الناس يلومونه ويعرّفونه بهوية من يكون الشخص الذي كان يريد شراء التين وأنه العالم الجليل والفقيه الكبير مالك بن دينار فندم البائع وأسف على ما كان ونادى غلامًا له كان يساعده في البيع وأرسل معه كل عربة التين لمالك بن دينار وقال له إن قبلها منك فأنت حر لوجه الله تعالى.
ذهب الغلام إلى بيت مالك وهو عازم على أن يبذل قصارى جهدهم لاقناع مالك لقبول عربة التين كلها، ليس فقط إكرامًا لمالك وتعويضًا عن الإساءة التي لحقت به وفق فهم الغلام، وإنما طمعًا من أجل أن ينال حريته كما وعده واشترط عليه بائع التين صاحب العربة. لكن الذي تمناه الغلام لم يتحقق حين سمع مالك يقول له: اذهب إلى سيدك وقل له إن مالك لا يأكل التين بالدّين، بل قل له إن مالك قد حرّم على نفسه أكل التين إلى يوم الدين. قال الغلام ولكن خذها لأجلي يا سيدي فإن فيها عتقي. فقال له مالك: إن كان فيها عتقك أنت، فإن فيها رقّي أنا “عبوديتي”.
إنه الموقف المطلوب من العالم الذي يقتدي به الناس، إنه وفي مثل هذا الموقف فلا محل ولا مجال للمساومة ولا للأخذ بالرخص، ولا للهث خلف الشهوات، وإنما هي العزيمة وصلابة الموقف والشموخ لأن الناس سينهجون نهجه ويقتفون أثره، وقد قيل: إذا زلّ العالِم زلّ بزلته العالم.
إنهم العلماء صمام الأمان وخشبة النجاة وسفينة الإنقاذ للمجتمع إن هم قاموا بواجبهم ومهمتهم الأساسية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وخاصة بين يدي الأمراء، وقد قال صلى الله عليه وسلم: “طائفتان من الناس إن صلحتا صلحت الأمة وإن فسدتا فسدت الأمة، الأمراء والعلماء”، لتكون الكارثة والطامة الكبرى حين يقع العلماء في شباك الأمراء فيصبحوا تبعًا لهم يفتونهم بما يلائم أهواءهم ومصالحهم.
إنهم جموع العلماء الذين باعوا الدين بالتين بل بأرخص من ذلك سعيًا لإرضاء الأمراء والزعماء. إنهم العلماء الذين كانوا بالأمس القريب يحرمون ويحللون وفق ما تقتضيه سياسة آل سعود ونهجهم الذين ساروا عليه، لنجد أن نفس العلماء والخطباء قد تغيّرت فتواهم في نفس القضايا لا لشيء إلا لأن محمد بن سلمان أراد أن يطوي صفحة الماضي من الاحتكام إلى الشريعة وراح يفتح صفحة جديدة في حياة شعب الجزيرة العربية عنوانها المجنون والترفيه والغناء والرقص، فإذا بها جموع من المفتين والعلماء تخلع عباءة الأمس وتلبس عباءة جديدة تتلائم مع ما يرضي محمد بن سلمان حتى وإن كانت تخالف هدي وسنة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
ليس هو مالك بن دينار رحمه الله تعالى ممن سجّل التاريخ مواقفه المشرفة في رفضه أن يبيع الدين بالتين، ورفض أن تكون يده هي السفلى عند الأمراء والزعماء بل إنهم جموع العلماء الأخيار على مدار التاريخ الإسلامي ممن قالوا كلمة الحق ولم يجاملوا أحدًا ورفضوا أن يبيعوا دينهم بدنيا الأمراء والزعماء. إنها مدرسة مالك بن دينار وأحمد بن حنبل وابن تيمية والعز بن عبد السلام، وعلى نفس النهج سار ويسير اليوم الشيخ القرضاوي والشيخ سلمان العودة وعوض القرني وناصر العمر وسفر الحوالي وغيرهم كثيرون والحمد لله.
# على خطى إبراهيم
إنه إبراهيم عليه السلام يدعو الله تعالى في قوله {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} آية 5 سورة الممتحنة. إنه إبراهيم عليه السلام صاحب الحزم والعزم، ومن رفض المجاملة في دين الله وهو يقول لقومه: {إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} آية 26 سورة الزخرف.
إنه إبراهيم خليل الله كان يدعو الله وفق تفسير الآية الكريمة أن يجنبه الزلل في القول والعمل حتى لا يراه عليه الناس من الكفار فيرخصوا لأنفسهم ذلك الفعل ولسان حالهم يقول إذا كان إبراهيم يفعل هذا فلماذا لا نفعله نحن فيكون إبراهيم بذلك سبب فتنتهم، فلذلك كان دعاؤه لله تعالى {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا}.
كثيرون اليوم هم الذين يسيؤون للدين وهم يظنون إنهم يحسنون صنعًا وذلك بسلوكهم وأخلاقهم وتصرفاتهم التي تتعارض مع رسالة الإسلام وآدابه ومع ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كثيرون من المصلين هم الذين يخلعون دينهم عند عتبة المسجد إذا خرجوا مثلما خلعوا احذيتهم عند عتبة المسجد إذا دخلوا، فيخرج أحدهم إلى الدنيا جشعًا سيئًا ظالمًا قاسيًا وقد أكل مال هذا وانتهك عرض هذا ولم يكن من صلاته إلا حركات ميتة لا روح فيها “من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له”.
إن التدين الذي لا ينعكس أثره في السلوك والأخلاق والمعاملة في البيت وفي الشارع مع الإنسان ومع الحيوان، مع المسلم ومع غير المسلم إنما هو تديّن أجوف لا حياة فيه، لا بل إنه يكون سببًا في فتنة الآخرين وصدهم عن سبيل الله، وبدل أن يكون هذا الإنسان سبب هداية فإنه يكون سبب فتنة وضلالة.
فلا تبيعوا الإسلام بقروش، ولا تبيعوا الدين بالتين ولكن امضوا على خطى إبراهيم وسيروا على نهج محمد صلى الله عليه وسلم.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون