هل أصبح تدريس علم الحاسوب والبرمجة في المدارس الابتدائية أمرا واقعا؟
د. خالد عبد العزيز أسعد وتد د. مؤنس هاني الطيبي
مع انتشار استخدام أجهزة الحاسوب والأجهزه الذكية المتنوعة في مختلف مجالات الحياة كالدراسة والعمل، أصبح تدريس مفاهيم عِلم الحاسوب والبرمجة لطلاب المدارس في سن مبكر أمرا ضروريا لأسباب علمية واقتصادية. يوما بعد يوم، تزداد الحاجة إلى قوى عاملة لديها الخبرة والمهارات الضرورية للعمل في ظلّ التطبيقات المحوسبة المتقدمة وإلى خبراء لديهم المعرفة والقدرة على إنتاج مثل هذه التطبيقات. فعند الحديث عن تدريس عِلم الحاسوب والبرمجة لطلاب المدارس في جيل مبكر لا نعني بذلك تدريسهم مواضيع تابعة للتنوُّر الحاسوبي والتي تتعلق بالأساس باستخدام الأدوات التكنولوجية المختلفة وطرق توظيفها، بل تعليمهم مبادئ عِلم الحاسوب والبرمجة ومن خلال ذلك اكسابهم العديد من المهارات المهمة في هذا القرن، كمهارات التفكير الخوارزمي والمنطقي ومهارات حل المشكلات، والتفكير الإبداعي والعمل ضمن مجموعات.
وضع مناهج تدريس الحاسوب في المدارس
مع أن مناهج تعليم الحاسوب للمدارس الابتدائية والإعدادية في معظم دول العالم لا تزال تركِّز على تدريس موضوع التنوُّر الحاسوبي، إلا أنه في السنوات الأخيرة هناك ازدياد ملحوظ بعدد الدول التي بدأت في اقتراح وكتابة مناهج جديدة وشاملة لتدريس مفاهيم عِلم الحاسوب والبرمجة ضمن المنهاج التعليمي للمدرسة الابتدائية. تعد بريطانيا من أول دول العالم التي باشرت منذ أيلول من سنة 2014 بتطبيق منهاج تعليمي جديد في المدارس، يشمل هذا المنهاج تعليم مهارات البرمجة للأطفال ابتداءً من عمر خمس سنوات. يأتي هذا التغيير بعد أن طالب كثير من المربين والمختصين في هذه المجالات وأصحاب شركات تكنولوجية كبيرة كجوجل بضرورة تعديل المناهج من كونها تعنى بتدريس استخدام البرمجيات لأن تقدم فهماً واضحاً ومؤصلا لكيفية تطوير وصناعة مثل هذه البرمجيات.
الثورة التكنولوجية الحديثة على مستوى العالم
إنّ التطوّر العاصف في مجال التكنولوجيا والعلوم قد نقل العالَم وبالأخصّ الدول الغربية ودول أخرى مثل اليابان وكوريا والصين من اقتصاد المعلومات إلى اقتصاد المعرفة، حيث بات تطور تكنولوجيا المعلومات والاتصالات (Information and Communication Technology) وتعزيز استخدامها حجر الزاوية للبنية الاقتصادية في هذه الدول. هذا التطوُّر المستمرّ يعتبَر السبب الرئيسي الذي جعل أصحاب الشركات في هذه الدول ينادون بضرورة تدريس البرمجة في المدارس ومن سن مبكرة من أجل تحضير جيل يستطيع أن يلبّي طلبات سوق العمل في المستقبل القريب. وفي هذه الأيام، أصبحت وظائف البرمجة من أكثر الوظائف المطلوبة في العالَم، وأصبحت من أعلى الوظائف من ناحية ارتفاع الرواتب.
تشير العديد من الإحصائيات التوقعية إلى أنّ الطلب على الوظائف المتعلّقة بعِلم الحاسوب والبرمجة وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات سيزداد بشكل ملحوظ في السنوات القادمة وسيستمرّ في العالَم بشكل عامّ، وفي الولايات المتحدة بشكل خاصّ. وفق بيانات مؤسّسة العلوم الوطنية الأمريكية (National Science Foundation)، من المتوقّع أن يكون في سنة 2020 حاجة لقرابة المليون وظيفة في مجال الحوسبة والبرمجة بعد استيعاب جميع خرّيجي عِلم الحاسوب في الجامعات والمعاهد في تلك الفترة، حيث يكون الطلب الأكبر على مطوِّري البرمجيات. يتفق الكثيرون على أهمية مهارات البرمجة في سوق العمل؛ فيوما بعد يوم، تحتاج قطاعات جديدة إلى هذه المهارات، كمجالات الطب، والصيدلة، والاقتصاد والهندسة.
ما هي مواصفات وظيفة البرمجة وما الهدف منها؟
إن آلاف البرمجيات التي يستخدمها الناس في حواسيب البيوت والمحال التجارية والمصانع والشركات، وكذلك آلاف التطبيقات التي تتوفر في الأجهزة الخلوية هي أمثلة محدودة لنتاج عمل المبرمجين.
إن البرمجة تهدف في الأساس إلى حل مسألة أو مشكلة معطاة عن طريق كتابة خوارزمية محدّدة (Algorithm) والتعبير عنها بلغة برمجة خاصّة “يفهمها” الحاسوب، كلغة Java أو C أو غيرها. يهدف البرنامج إلى معالجة بيانات المسألة المعطاة وفق الخوارزمية المقترحة (Program = Algorithm + Data).
قبل كتابة البرنامج بلغة البرمجة، يقوم المبرمِج بتحليل القضية المعطاة، يحدِّد لنفسه فكرة واضحة لحلّها، ومن ثم يقوم بكتابة خطوات الحلّ بشكل دقيق ومدروس (الخوارزم).
أهمية تدريس البرمجة في المدارس لجميع الطلاب ولكافة المستويات
يتّفق العديد من الباحثين على أنّ الطالب خلال هذه السيرورة التي يتعلّم فيها كتابة الحلول الخوارزمية ويمارس البرمجة بأساليب وأنماط مختلفة، يستطيع أن يُنمّي ويطوّر لنفسه العديد من مهارات التفكير العليا (Higher-order thinking skills) من أهمّها مهارات التفكير الخوارزمي (Algorithmic thinking skills) ومهارات حلّ المشكلات (Problem solving skills) التي تُعَدّ مهمّة لتخصُّصات أخرى وليس لتخصُّص عِلم الحاسوب فحسب، بل وتمتدّ إلى الحياة اليومية. فتعلّم البرمجة يساعد على تطوير مهارات متنوعة لها وزنها في الحياة اليومية، كمهارات التعاون، والتفكير المنطقي والقدرة على تفكيك مسألة مركَّبة إلى مسائل صغيرة وبسيطة. بالإضافة إلى ذلك، يساهم تعلُّم البرمجة في تطوير القدرة على تحمُّل مواجهة الصعاب وعدم التراجُع أو التخاذُل عند مواجهة مسألة صعبة ومركّبة، بل يتمرن على تجديد المحاولة وبذل الجهد من زوايا أخرى والمثابرة حتى الوصول إلى النتيجة المرجوّة. بالإضافة إلى ذلك، تتيح البرمجة للطالب إمكانية التعبير عن اهتماماته الخاصة، ومشاعره، وأفكاره التي من الممكن لمسها من خلال المشاريع التي يُقدِم الطالب على تطويرها وتفسح له المجال للإبداع. فوفق هادي بارتوفي، المؤسس المشارك في مؤسسة Code.org المهتمة بتدريس البرمجة بدون أهداف ربحية، فإن “الجانب المثير للاهتمام في علم الحاسوب يكمن في حاجته لمهارات التحليل وحل المشكلات والإبداع، كما يمثل أيضاً أمراً تأسيسياً ومهنياً”. كما وأضاف: “لست واثقا من وجود مجال آخر يجمع ذلك كله”. و مع زيادة الاهتمام بتدريس مفاهيم علم الحاسوب والبرمجة في العالم، تشهد مؤسسات أخرى مثل “كود أكاديمي” المشهورة بموقعها codecademy.com الذي يظهر كبيئة برمجة إنترنتية تفاعلية تُوفر دروساً مجانية في تعليم البرمجة، ازدهاراً كبيراً حيث يلتحق بدورات البرمجة التي تقدمها هذه المؤسسة أكثر من 25 مليون شخص.
وضع المؤسسات التعليمية من تدريس علوم الحاسوب والبرمجة
على الرغم من الحماسة في تدريس أسس علم الحاسوب والبرمجة، تبدو المدارس الحكومية في العديد من الدول ومنها الولايات المتحدة بطيئة بعض الشيء في اللحاق بالركب، وأغلبيتها لا توفر دروساً للبرمجة ضمن المنهاج التعليمي، وهو ما اعتبره بارتوفي العقبة الأكبر أمام التقدم في هذا المجال. من هنا يلاحظ اقبال واسع على المؤسسات غير الربحية لتعلم البرمجة خارج جدران المدرسة (مثل بيئة Code.org) والتي زادت في السنوات الأخيرة بشكل ملحوظ من كونها تركّز في الغالب على تدريس الأولاد الصغار مهارات البرمجة من خلال تشجيعهم على تطوير الألعاب، أو تقديم تدريبات التعلم من خلال اللعب بالمراحل ولتشجعهم على التنافس فيما بينهم.
ما مدى الحاجة في تعليم البرمجة للأطفال في المدارس؟
إن الإقرار بتأثير الحواسيب والآلات في مختلف الوظائف في المستقبل، يعني الاعتراف بالبرمجة على أنها مهارة محورية ينبغي لكل طفل الحصول عليها وتعلمها. كما هو الحال في مناهج التعليم التي تشمل تعليم الأطفال الكتابة دون أن يعني ذلك بالضرورة أن جميعهم سيصبحون كتّاباً وتشمل تعليمهم الجبر دون أن يلزمهم ذلك بالعمل في مجال الرياضيات. ومن هنا يبدو ان تعليم الأطفال الصغار لم يعد يقتصر على مهارات القراءة والكتابة وبعض مبادئ الحساب والرسم والتلوين، إذ ينظر كثيرون إلى البرمجة بالطريقة ذاتها باعتبارها مهارة أساسية ينبغي للأطفال التدرب عليها في سن مبكر بسبب ارتباطها بمهارات أكثر أهمية كالإبداع وحل المشكلات والتحليل المنطقي والتفكير الخوارزمي.
بيئات حديثة لتدريس البرمجة والتفكير الخوارزمي
خلال العشر سنوات الماضية ظهرت بيئات حديثة لتعليم مفاهيم عِلم الحاسوب ومهارات البرمجة. تمتاز أكثر هذه البيئات بأنّها بيئات تمكّن التلميذ من متابعة مراحل البرمجة ونتائجها بصورة تفاعلية ومرئية في نفس الوقت ممّا يحفِّزه على متابعة البرمجة وعلى تكرار التجربة في حال الخطأ من دون ملل أو الشعور بالإحباط. إنّ هذه الميزات تجعل هذه البيئات ملائمة للمبتدئين وللأجيال الصغيرة. في القائمة أدناه، بعض من الأمثلة لهذه البيئات التي من الممكن تبنّيها في تدريس البرمجة للمرحلة الابتدائية والإعدادية. هذه القائمة ليست كاملة وليست الوحيدة، وتقديمها هنا إنّما جاء ليُظهر مدى التنوّع والوفرة في مثل هذه البيئات من ناحية ومن ناحية ثانية لتكون ربّما نقطة بداية لمن يريد أن يبدأ بها.
• سكراتش (Scratch) http://scratch.mit.edu
• أكاديمية خان (Khan Academy) www.khanacademy.org
• أكاديمية السلاحف (Turtle Academy) http://turtleacademy.com/playground/en
• لوجو (Logo) http://www.calormen.com/jslogo/ أو http://education.mit.edu/starlogo
• كودو (Kodu) http://www.kodugamelab.com
إنّ عِلم الحاسوب يعنى أكثر بتطبيق الأفكار وليس بالأدوات التكنولوجية أو لغات البرمجة. وعليه، فاللغة التي نختار ليست هي المهمّة، بل الأهم أن يشعر الطلاب بأنّهم قادرون على البرمجة ويثقون بأنفسهم، ويدركون أيضا أن هناك لغات برمجة متعدِّدة وكلٌّ لها ميزاتها وأن يشعروا بالراحة لتعلُّم لغة أخرى جديدة. بناء على ذلك، يوصى أن يتعلّم التلاميذ البرمجة في بيئتين أو أكثر على أن تكون إحداها لغة برمجة نصية (Textual Language)، حتى قبل أن يصلوا إلى المرحلة الإعدادية (Simon, 2014).
أين نحن في مدارسنا المحلية العربية من هذا المطلب؟
في هذا المقال استعرضنا فوائد تدريس البرمجة وأساسيات عِلم الحاسوب لدى الطلاب في جيل مبكر، وعرضنا أن هناك حاجة ماسّة إلى تطوير المناهج عندنا في البلاد لتتلاءم والتطوُّرَ العلمي والتكنولوجي الكبير في الحياة والمجتمع. كما واستعرضنا في هذا المقال أمثلة من بيئات برمجية حديثة لتدريس وتطوير مفاهيم عِلم الحاسوب والبرمجة والتي نعتقد بإمكانية دمجها بسهولة وبشكل ملائم لتدريس عِلم الحاسوب في المرحلَتين الابتدائية والإعدادية في البلاد ومنها في المدارس العربية.
وعليه ومن أجل أن نقوم بدورنا في هذا المجال ونساهم في إجراء التغييرات اللازمة على المناهج الحالية علّها تتماشى والتطورات العلمية والتكنولوجية، قمنا، بالمشاركة مع مجموعة من المحاضرين في أكاديمية القاسمي وبيت بيرل، بتبني هذا الموضوع ودعمه من ناحيتين اثنتين. الناحية الأولى، قمنا بتأليف كتاب وكراس عمل جديد بعنوان “هيا نمارس البرمجة ونتعلم التفكير الخوارزمي من البداية – الجزء الأول”. يشتمل هذا الكتاب على منهاج ومادة متكاملة للمعلم وللطالب من أجل تطوير مهارات التفكير الخوارزمي والبرمجة في بيئات تعلم تفاعلية مرئية يصلح للتطبيق في المدارس الابتدائية ابتداء من الصف الرابع. من الناحية الثانية، قمنا بتطبيق هذا المنهاج من خلال الكتاب السابق في دورة متكاملة في المدراس الابتدائية لطلاب في الصف الرابع والخامس. كانت هذه التجربة تجربة ناجحة وعلى إثرها قمنا بمراجعة الكتاب وإعداده للطباعة والنشر. مع أن الكتاب حاو ومعد للمعلم وللطالب على حد سواء، نقترح لتوسيع والتعمق في الأهداف من وراء هذه الخطوة، إجراء دورة استكمال لتأهيل وتهيئة المعلمين بما يتناسب مع مضامين والتصوُّر الفكري الجديد لهذا المنهاج ودعمهم بطرائق تدريس حديثة تتناسب والأجيالَ الصغيرة.