محطات فكرية
ذكرى هبّة الاقصى: نسائم من فجر المجد والخلود.. بقلم: الأستاذ عوني وتد
تزينّت قريتنا بمسك البطولة الأبيض،واكتحلت عيناها بِمِروَّدِ الفداء الأسود.
فهنا فوق رابيةِ تشرين الخضراء
سالَ دمُ الشهيد رامي الجتيّ الأحمر.
ورامي غرة المبتسم دائماً ، أحَبَّ فلسطين، وعشق زهرة المدائن، وهام في أقصاها
على حكايات أجدادنا الثوّار،وزغاريد جداتنا لشهداء الوطن الأبرار.
ورامي يحفظ جميع أسماء الشهداء ،فلطالما رددها جده على مسامعه مع طقطقات حبات سبحته الخشبية،
وغنتها له جدته مع بحّةِ مواويلها الشجيّة.
شهداءٌ خطّوا أبتثيات الصمود بأريج شبابهم ،وسطّروا خيوط المجدِ بارتقاء أرواحهم ،
فأحب رامي الشهداء، وأحبت الشهادة رامي، فكان بينهما طيب اللقاء.
نَذْكُر ..نُذَكّر .. لن ننسى!
عجباً ! ما أشبه النكبةِ بالهبةِ!
فنكبتنا كانت باغتصاب وطننا،
ونزوح وتشريد أهلنا.
وهبتنا جاءت لاغتصاب أقصانا،
ونزوح وتشريد كرامة حُكامنا،
وحينما يئسنا من حكامنا أشباه الرجال
وسئمنا نخوات رهط أبي رغال،
هببنا هبوب الريح في تشرين الحزين،
فتصارعت الصدور مع البنادق،
وتعاركت الجباه مع الفيالق.
سمعنا أزيز الرصاصات حين طمست
حبات السبحة الخشبية،
وأصغينا لدويّ القنابل وكأنها بحات المواويل الشجية،فاخترنا أن تكون أسماؤنا بين أسماء أبطال وشهداء النكبة.
لكن الله أختار ثلاثة عشر كوكباً،
غبار جباههم اطهر من كل تيجان وعروش المتخاذلين .
ونخوتهم أسمى من كل تشدق المتآمرين.
تحدوا أزيز رصاصات الغدر،
ودويّ نظرات الحقد والقهر.
نَذْكُر .. نُذَكّر .. لن ننسى!
انتفضت جبال ناصرة العرب واستشاط جبل القفزة غضباً،حينما تلبدت الغيوم فوق مآذن أولى القبلتين،فهرع حماتها الناصريون يسجلون أروع معلقات العطاء والوفاء ،قوافيها إياد لوابنة الباسق،وسواقيها
عمر عكاوّي الباشق،
وسحرها وسام يزبك الصادق،فكانت الشهادة قصيدة عزة وفداء.
نَذْكُر .. نُذَكّر .. لن ننسى!
وحلقت نسور كفر مندا ترمي من دَنّس تراب الأقصى بحجارة من لظى الجليل،
فلبى رامز بشناق النداء بشوق كبير،
ما أسرع استشهادك!
وكأنك مع الشهادة على موعد .
نَذْكُر .. نُذَكّر .. لن ننسى!
ويومها كذلك بدت سهول مرج بن عامر وكأنها عروس فلسطينية تبتغي حرية الأقصى مهراً،
فتسابق ابن معاوية الصامدة احمد صيام،
وابن أم الفحم الأبية محمد العيق ،
ولحق بهم ابن غزة هاشم مصلح جراد،
فدفع الثلاثة أرواحهم مهرا للأقصى ،
وكان عرسهم عرساً فلسطينيا واحداً
ينثر الوحدة والكرامة والأمجاد.
نَذْكُر .. نُذَكّر .. لن ننسى!
قطوف العزة تدلت من زيتون سخنين،
تغازل تراب الوطن بشوق وحنين،
ولم يطل الانتظار لدموع المسجد الأقصى الحزين،
فقام من ربوع حقولها فارسان أبيان
الفارس وليد أبو صالح ،
وأخوه الفارس عماد غنايم
يعيدان أمجاد حطين .
نَذْكُر .. نُذَكّر .. لن ننسى!
زغرودة أم ثكلى،تنثر الرز الفلسطيني للمودعين،
وناهدات فلسطينيات يفرشن درب الشهيد بالياسمين،
أم أبت إلا أن تزّف نجلها وتخضّب يديه بالحناء،
فقامت فوق جثمانه الطاهر تجدل خصلة شعره،وتهمس بصوت حشرجة الفراق:
‘ الله يرضى عليك يا ابني محمد ‘ .
نعم انه محمد خمايسه ابن كفر كنا الشهيد.
نَذْكُر .. نُذَكّر .. لن ننسى!
كان لعرسهما العرابيّ نسمات مميزه،
ربما من عبق رياحين البطوف،
أو شذىً من زعتر الكرمل،ربما عرارا من نفح الجليل !
لكنك حينما تدرك ان صقرين شامخين من روابي عرابة سيحتضنهما ثراها،فحتما ستدرك ان هذه النسمات ما هي إلاّ نفحات من تاريخ هذه البلدة الوطني العريق.
ومن أضافا قصيدة سامية أخرى
في معلقة عرابة النضال والإيثار؟
إنهما الشهيدان أسيل عاصلة وأخوه علاء نصار.
نَذْكُر .. نُذَكّر .. لن ننسى!
عائلات ثكلى تؤم عُرْنَ أبنائها الأسود،
تغازلهم بكلمات المودة والمداعبة ،
هذه أم تقسم لفلذة كبدها بأنها لم تنسه ولو هنيهة،وتتوسل إليه العودة ولو لحظة لتمسح وجنتيه بكفيها ،وتحتضنه في حضنها الآمن برفق ولين .
أب يلج في سكون الرحيل كسفينة صبر ثقيلة،
تبحر وتبحر مثقلة الهموم فقد قصمت يد الغدر ظهره ،وسلبت نفوس الحقد منه الأمل والحلم الكبير.
أختٌ تمنتك قنديلا يضيء ليلة زفافها.
أخٌ يفتقدك لتكون له عزوة وصديقا .أصدقاء مكسورو الجناح وأهل محبون.
أما أنا فقد انعم الله عليّ أن يكون عرين رامي غره قريبا من منزلي،
فسأمر عليه كعادتي وابتسم كما كان يبتسم لي،
أتعهد رياحينه وأزهاره،وأدعو له بصالح الدعاء ،
لكنني لن أحدثه عما ينتاب أقصانا اليوم من حفريات وأنفاق ودمار،لن اخبره بتخاذل امة الأكثر من مليار،ومآرب ومكائد الاحتلال،
وكيف أصبح قسط من شبابنا مطايا لأحزاب العنصرية وباعوا رجولة مواقفهم بنصف دولار،
لن أحدثك بان الأخ باع أخاه من اجل حفنة تراب،
والابن يستهزئ من أبيه ليل نهار،
لن أحدثك عن لجان غدها كأمسها وقرارتها كمفارقاتها،
لن أحدثك أننا نتعلم حضارة اليونان وتاريخ الرومان، ونجهل تاريخ القدس والأسوار،
لن أحدثك عن فتح باب الحارة
وباب المغاربة على وشك الانهيار،
لن أحدثك.. ولن أحدثك !
لكنني سأهمس لك، وللشهداء جميعاً:
شعبُ، فلسطينُ العزيزةُ أَنبتتْ
فيه الإباءَ فلم يُصبْه هَوان
ُ
شَعْبٌ إذا ذُكر الفداءُ بَدا له
عَزْمٌ ورأيٌ ثاقبٌ وسنان
ُ
شعبٌ إذا اشتدَّتْ عليه مُصيبةٌ
فالخاسرانِ اليأسُ والُخذلاُن
طبتم أيها الشهداء الأبرار،
في ذكرى هبة الأقصى المباركة،
وطاب مرقدكم في جنات النعيم ،
فما عند الله خيرٌ وأبقى!
وسنبقى على العهد والوفاء .
نَذْكُر .. نُذَكّر .. لن ننسى!