مقال الشيخ كمال خطيب: بلسان كلّ مهموم – فوّضنا الأمر إليك، لا شكوى إلا إليك
الشيخ كمال خطيب
عن أمنا عائشة رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله ﷺ: “هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أُحُدٍ ؟ قال: لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فرفعت رأسي، وإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني، فقال: إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك، وما ردّوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. فناداني ملك الجبال، فسلّم عليّ، ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت، إن شئت أطبقت عليهم الْأَخْشَبَيْنِ، فقال رسول الله ﷺ: بل أرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا”.
هكذا كان جواب رسول الله ﷺ لزوجته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لما سألته عن أشد يوم وأصعب ظرف وأقسى موقف مرّ به في حياته، وهي التي كانت تظنّ أن أشدّ يوم وأصعب ظرف وأقسى موقف ذاك الذي كان يوم أحد، اليوم الذي انقلب من نصر إلى هزيمة، اليوم الذي قُتل فيه سبعون من خيرة أصحابه رضي الله عنهم وفيه شجّ رأسه الشريف، وسال الدم على وجهه الطاهر، وكسرت رباعية أسنانه، ومُثّل بعمه حمزة، ليتبين من جواب رسول الله ﷺ أن ما حدث له يوم أحد لم يكن ليترك الأثر والبصمة التي تركها ما حدث ووقع له قبل ذلك يوم ذهب إلى الطائف ليدعو أهلها إلى الإسلام بعد تكذيب قريش له وبعد موت زوجته خديجة وعمه أبي طالب، فما كان من أهلها ليس الصدود والإعراض فقط، وإنما هم الذين سبّوه وشتموه وحرّضوا عليه صبيانهم وغلمانهم، فلاحقوه وضربوه بالحجارة وكل قذارة حتى سال الدم من وجهه ومن قدميه وظلّوا يلاحقونه حتى وصل إلى حائط “بستان” لعتبه وشيبة ابني ربيعة على بعد ثلاثة أميال من الطائف باتجاه مكة، فلجأ إلى الحائط ورجعوا عنه، وهنالك كانت زفرات الألم والدعاء منه ﷺ: “اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس -استخفافهم واستهانتهم بي- يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، إلى من تكلني -تتركني-، إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدوّ ملكته أمري، إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي غضبك، أو يحلّ عليّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك”.
كان ألم ما نزل به ﷺ بعد الذي حصل معه في الطائف أعظم وأكثر وقعًا على نفسه مما نزل به في معركة أحد حيث وصل به الأمر إلى القول: “فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب”. إنه ومن شدة الهمّ والحزن والكرب وقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت، كأنه لم يعد يبصر طريقه فأصبح يمشي هائمًا على وجهه دون أن يشعر ولا يدري إلى أين يذهب وما هي وجهته، وظلّ كذلك حتى استفاق على نفسه ورجع إلى ذاته وكأنه كان في غيبوبة واستفاق منها. فما أن رفع رأسه إلى السماء إلا وسحابة فيها جبريل ومعه ملك الجبال فكان منهما ما كان من النصرة والتطمين له ﷺ، ثم كان بعد ذلك تكريم الله لرسوله ﷺ باستضافته عنده في السماوات العلى في رحلة الإسراء والمعراج.
وأنا أقرأ قوله ﷺ: “فانطلقت وأنا مهموم على وجهي”، فلم يخطر ببالي ولم يحضر في مخيلتي ولم يقفز إلى ذهني إلا مشهد أهلنا في غزة، النساء والأطفال والشيوخ وهم يخرجون من بيوتهم هاربين خوفًا من قصف الطائرات والصواريخ والمدافع الإسرائيلية يجرّون معهم بعض متاعهم ويحملون أطفالهم والعاجزين من آبائهم وأمهاتهم، وأنت تسمع البكاء والصراخ وترى الخوف في عيونهم والغبار الذي يملأ ثيابهم، ولعلّه التهجير الثالث أو الرابع أو السابع لأحدهم، وخلال هذا تسمع منهم عبارة “مش عارفين وين بدنا نروح”، إنها العبارة التي لا يشبهها إلا قوله ﷺ “فانطلقت وأنا مهموم على وجهي”.
وإذا كان رسول الله ﷺ قد انطلق مهمومًا لا يدري وجهته، هل يرجع إلى الطائف التي فعلت به ما فعلت أم يذهب إلى مكة حيث أقاربه وأرحامه الذين أغلقوا في وجهه الأبواب وقد كذّبوه وعذّبوه.
فمثل رسول الله ﷺ الذي انطلق مهمومًا لا يدري ماذا يفعل ولا إلى أين يذهب، فإنهم أهلنا في غزة الذين نراهم كل يوم ومنذ تسعة أشهر ينطلقون مهمومين خائفين مذعورين يقولون “مش عارفين وين نروح” هل يذهبون شرقًا وشمالًا حيث جيش إسرائيل الذي يقتلهم؟ أم يتوجهون جنوبًا إلى حيث حدود مصر التي أغلقها السيسي بكل وسائل الإغلاق؟ وهو الذي حاصرهم وجوعهم وتآمر عليهم، أم يتوجهون غربًا إلى البحر؟ وماذا في البحر غير الغرق وأن يكونوا طعامًا للسمك.
فكما أن أبواب مكة والطائف وكل الأبواب قد أغلقت أمام رسول الله ﷺ، فإن الله قد فتح له أبواب السماء. وكما أن حدود ومعابر وأبواب أهل الأرض قد أغلقت أمام أهل غزة نسائهم وشيوخهم وأطفالهم، فإنهم على يقين أن باب الله لم يغلق أبدًا. وإذا كان أهل الأرض قد خذلوهم، فإن رب الأرض والسماء سيجبر خاطرهم، ولكن وإذا كان رسول الله ﷺ وقد قال له ملك الجبال بعد إذ سلّم عليه: “أنا ملك الجبال وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بأمرك، فإن شئت أطبقت عليهم الأخشبين”، فقال له رسول الله ﷺ: بل أرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا”، فإن أهل غزة الذين ما يزالون يهيمون على وجوههم شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا، من غزة إلى خان يونس ومن خان يونس إلى رفح ومن رفح إلى خان يونس وهكذا، يتنقلون من بيت مدمّر إلى مدرسة ثم إلى خيمة سرعان ما تقصف فإنهم يقولون وإنني أقول معهم: ” اجعل من ععطّش أطفال غزة ونساءها ومن جوّعهم ومن خذلهم ومن تآمر عليهم، اللهم فاجعلهم ممن عنيتهم بقولك: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} آية 40 سورة الأعراف، اللهم وكما قالت ودعت المرأة الغزاوية التي خرجت هائمة على وجهها تحت القصف: “اللهم من خذلونا فاحرمهم شفاعة رسول الله ﷺ يوم القيامة”.
فوّضنا الأمر إليك
ولو كانت لك مظلمة عند شرير ظالم وحاولت كل المحاولات أن تسترد حقك لكنك فشلت ولم يستجب ذاك الشرير اللئيم، وأنت تعيش حالة الألم والقهر وقلة الحيلة ليس فقط من ضياع حقك، وإنما من تسلط هذا الشرير، وإذا بمبعوث ملك أو صاحب جاه وعزوة يصل إليك يقول لك: أنا مبعوث فلان إليك وكّلني في انتزاع حقك من فلان الظالم الشرّير ما عليك إلا توكيلي فقط. فمن شدة الكرب والهمّ فإنك تقوم بتوكيل صاحب الجاه هذا ليعيد إليك حقك المسلوب، حيث لا يتطلب الأمر أكثر من أن يرسل صاحب الجاه والعزوة أحد المقربين إليه إلى ذلك الشرير يقول له إن سيدي قد أرسلني إليك لترد حق فلان الذي اغتصبته فيرده على الفور بدون تلعثم، حيث الأمر لم يحتج لتدخل مباشر من صاحب الجاه، وإنما أرسل أحد المقربين منه وقضي الأمر.
إن أطفال غزة ونساءها ومن أجل رفع الظلم عنهم ولإيقاف المجازر التي ارتكبت ولا تزال ترتكب بحقهم وقد قُتل منهم قريبًا من أربعون ألفًا، فإنهم قد ناشدوا أصحاب الجلالة والفخامة العرب والمسلمين، ولكن:
رُبّ وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتم
لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم
وإنهم نادوا مجلس الأمن والأمم المتحدة والدول الكبرى والقوى العظمى أمريكا وروسيا والصين لكنهم:
لقد أسمعت لو ناديت حيًا ولكن لا حياة لمن تنادي
فليس أنهم من صمّوا آذانهم عن نداءات أهل غزة لوقف شلال دمائهم، وإنما هم الذين انشغلوا بأذن ترامب وقد سالت منها بعض قطرات دم.
لقد اشتكى أطفال غزه ونساؤها وشيوخها أمرهم ورفعوا قضيتهم أمام محكمة الجنايات ومحكمة العدل الدولية، لكن إسرائيل ما تزال تستخف وتستهزئ وتضرب بعرض الحائط بهذه المحاكم وقضاتها وقراراتها. أما وأن أهل غزة قد يئسوا من كل هؤلاء، فإنهم قد رفعوا مظلمتهم وشكواهم إلى الذي شكى أمره إليه رسول الله ﷺ “اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس”. إنهم أطفال غزة ونساؤها وشيوخها الذين وكّلوا أمرهم إلى الله فلم نعد نسمع منهم إلا قول “حسبنا الله ونعم الوكيل”، وإنهم ما عادوا يقولون إلا ما كان يقوله إخوتهم في سوريا الجريحة: “يا الله ما إلنا غيرك يا الله”. إنهم أهل غزة وأهل سوريا وكل المظلومين المقهورين بعد إذ يئسوا من عدالة الأرض فإنهم توجهوا إلى عدالة السماء، وبعد إذ أغلقت أبواب الأرض وقفوا على باب السماء، وبعد إذ لم يسمع لشكواهم أهل الأرض فإنهم رفعوا شكواهم إلى رب السماء والأرض ولسان حالهم يقولون:
يا مطلع علينا فوّضنا الأمر إليك
ومن بغى علينا لا شكوى إلى إليك
اللهم حبلًا كحبل يوسف
فإذا كان أشد يوم على رسول الله ﷺ هو اليوم الذي لاقاه في الطائف وكان عنوانه “فانطلقت وأنا مهموم على وجهي ولم استفق إلا وأنا في قرن الثعالب”، فإنه لم يطل الأمر إلا وكان الفرج الذي عجب له أهل السماوات وأهل الأرض. {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} آية 1 سورة الإسراء. {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى*فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوأَدْنَى*فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى*مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى*أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى*وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى*عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى*عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى*إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى*مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى*لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} آية 8-18 سورة النجم.
فكما أن الله سبحانه أنزل جبريل وملك الجبال لنجدة حبيبه محمد ﷺ بعد أن شكى أمره إليه، وكما الله سبحانه أرسل السيارة وجعلهم يحتاجون الماء فأدلوا دلوهم وحبالهم في البئر فكانت النجدة ليوسف وهو في الجبّ:
فلعلّ من مرّوا بجُبّك مرة يا يوسف الصديق أن يتكرروا
ولعلّ من أدلى إليك بدلوه يدليه أخرى والبشير يبشّر
فمثلهم أهل غزة وأهل الشام وأهل مصر وأهل العراق وعموم أمة محمد ﷺ، فإنهم في بلاء وفي جبّ وظلم وقهر، وقد شكوا أمرهم إلى الله سبحانه. فاللهم إليك نشكو ضعف قوتنا وقلة حيلتنا وهواننا على الناس. يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وربنا إلى من تكلنا إلى بعيد يتجهمنا أم إلى عدو وكلته أمرنا. اللهم إن المسلمين في جبّ وفي كرب، اللهم ابعث لنا وبيننا ومنا من يدلي لنا دلو النجاة وحبل الخلاص.
اللهم أسمعنا من ينادي ويقول يا بشرى قد جاءكم من يملأ الأرض قسطًا وعدلًا بعد إذ ملئت ظلمًا وجورًا.
لا عزاء للمحبطين والمتشائمين واليائسين
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.