مقالة: خريفهم وربيعنا
الشيخ كمال خطيب
عشرة أيام تفصل بين تاريخين وخريفين بين يوم 13/9 ويوم 23/9، بين خريف سيأتي وهو فصل من فصول العام التي يقلّبها ربنا سبحانه بإتقان وتدبير {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} آية 88 سورة النمل، وبين خريف أوشك أن تُطوى صفحته وهو فصل من فصول تاريخ هذا الشعب وسيرته ومسيرته لكنه واحد من أشد الفصول حزنًا وألمًا نظرًا لآثاره السياسية الكارثية على شعبنا، وإن كان لنا عزاء في أن مظاهر هذا الخريف وإرهاصاته بدأت تظهر وتهب عاصفة أكثر على المجتمع الإسرائيلي الذي تقوده حكومة ظالمة هي امتداد لمن كانوا سبب هذا الخريف.
الخريف السماوي
بعد أيام وتحديدًا يوم 23/9 سيكون اليوم الأول من فصل الخريف حيث سبقه فصل الصيف وسيلحقه فصل الشتاء وفصل الصيف بلهيبه وحرارته غير المسبوقة، وفصل الشتاء بزمهريره وبرودته الذي أسأله سبحانه أن يجعله برد سلام على أمة سيدنا محمد ﷺ وعلى الإنسانية جمعاء. وإنها علامات ومظاهر كثيرة سنبدأ نلاحظها في الأيام القريبة كلها تشير إلى أن فصل الخريف قد بدأ ومنها:
اختلاف وتغيير الطقس بين يوم حار وآخر بارد، بين يوم مشمس وآخر تسقط فيه زخات المطر. ومثل تقلب أيام الخريف من حال إلى حال، فإنه تقلّب خريف عمر الإنسان منا حيث حال الإنسان بين الصحة والمرض، بين القوة والضعف. وإنه الإنسان لا يعرف قيمة الربيع إلا عند حلول الخريف، ولا يعرف قيمة الشباب إلا عندما يأتي المشيب.
ألا ليت الشباب يعود يومًا لأخبره بما فعل المشيب
ومن مظاهر الخريف كذلك تساقط أوراق الشجر بعد تغيّر لونها من الأخضر إلى الأصفر فتتجرد الشجرة من أوراقها وقد ضربت بها رياح الخريف فتهجرها الطيور والنحلات والفراشات. ومثل تغيّر مظهر الشجرة وتجردها في الخريف، فإنه تغيّر مظهر الإنسان منا في خريف عمره، فبعد حدّة البصر يكون ضعفه، وبعد انتصاب القامة يكون انحناء الظهر، وبعد سواد الشعر يكون بياضه بل تساقطه، وبعد الأسنان خلقها الله تكون الأسنان صنعها الإنسان بيديه، وكما تهجر العصافير أعشاشها على الشجر وتطير كل لوجهتها فإن الأطفال في البيت يكبرون وكلّ يبني بيته وأسرته ويرحل عن عش والديه، ولا يبقى في البيت غالبًا إلا الوالد والوالدة حيث كل ما حولهما يشير إلى أنهما فعلًا وحقًا في خريف عمريهما.
إن مدة الشباب من العمر قصيرة قصر زهر الربيع وبهجته ونضارته، وإن سنابل القمح إذا اصفرّت بعد خضرتها فقد حان حصادها مثلما أن ابيضاض الشعر بعد سواده إشارة إلى قرب حصاد العمر، وما أصدق ما قاله الشاعر:
أيا ابن آدم لا تغررك عافية عليك ضافية فالعمر معدود
ما أنت إلا كزرع عند خضرته بكل شيء من الآفات مقصود
فإن سلمت من الآفات أجمعها فأنت عند تمام العمر محصود
وفي هذا قال رسول الله ﷺ: “إن لكل شيء حصادًا، وحصاد أمتي بين الستين والسبعين”. فإذا كانت سنوات الستين هي موسم الحصاد، فإن خريف العمر يبدأ من سنوات الخمسين، لا بل لعلّه يبدأ عند الأربعين كما فهم ذلك كثير من الصالحين، حيث كانوا إذا بلغوا الأربعين طووا فراشهم، المقصود انتهاء عهد الشهوات والإقبال على الطاعات، وقيام الليل، إكثارًا من زاد الآخرة ولسان حالهم يقولون: انتهى عهد النوم.
وإن من مظاهر الخريف كذلك أن أيامه هي أيام الاستعداد والتجهيز لقدوم الشتاء، فيتزود له بادّخار الطعام واللباس الدافئ والوقود والحطب به يدفع الإنسان عن نفسه لذع البرد وزمهرير الشتاء، وحتى النمل فإنه يفعل ما يفعله الإنسان استعدادًا للشتاء. وإن خريف عمر الإنسان هو الفترة المناسبة والمواتية للتزود لرحلة الدار الآخرة، لكنه الاستعداد ليس بالطعام ولا بالشراب واللباس، وإنما هو الاستعداد بصالح الأعمال.
وما حالتنا إلا ثلاث شباب ثم شيب ثم موت
وآخر ما يسمى المرء شيخًا ويتلوه من الأسماء ميت
ومن مظاهر الخريف كثرة الزوابع تحمل معها أوراق الشجر الجافة والعيدان اليابسة، تحملها وتطير بها من مكان لآخر وهي التي كانت خضراء تعبق بالجمال وتنبض بماء الحياة يجري في أعضائها.
ومثلما أن الخريف ينقل أوراق الشجر من مكان لآخر فإن خريف العمر ينقلنا من مرحلة إلى مرحلة، وإذا بالواحد منا كأنه ريشة أو قشة في مهب الريح، ريح قدر الله. وهكذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يفهم ما يراه أمام ناظريه وقد رأى قشّة في مهب الريح فقال: “ليتني قشّة مثلك لا لي ولا عليّ”. بل هكذا شبّه الله تعالى ليس أعمارنا وأشخاصنا بل كل الحياة الدنيا لما قال سبحانه: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} آية 45 سورة الكهف.
وإن من مظاهر الخريف أن نرى هجرة الطيور من أوطانها والانتقال إلى مواطن أخرى خوفًا من البرد والثلج وندرة الطعام، فتقطع مسافات بعيدة تبحث عن سبل الحياة والسلامة، فما أحوجنا في خريف أعمارنا إلى أن نهاجر إلى الله عز وجل وأن نفرّ إليه سبحانه، نقف على بابه آسفين نادمين على ما فرّطنا في جنب الله سبحانه، وإلا فإن بقينا على ما نحن عليه فإنها الهلكة وإنه الضياع. وما أجمل وقفة ذاك الرجل الذي أسرف على نفسه في الذنوب والمعاصي، فلما أن كان خريف عمره وأنها الفرصة للصلح مع الله قبل أن تضيع فتاب وذهب إلى الحج، ولما كان الناس على عرفات يدعون الله كلّ بما يحب أن يدعو به، إلا هو فقد جلس على التراب ممسكًا بلحيته يبكي ويقول: “يا رب شيخ كبير، يا رب شيخ كبير يرجو رحمتك”.
هكذا هي الدنيا يعرفها كل عاقل على حقيقتها كما قال الشاعر:
تفنى اللذاذة ممن نال لذتها من الحرام ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء من مغبتها لا خير في لذة بعدها النار
إن مثل حرام الدنيا كمثل شجرة الدفلى تعجب من رآها وتقتل من أكلها {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۖ وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} آية 5 سورة فاطر.
الخريف السياسي
وإذا كان يوم 23/9 يذكّرنا ببداية فصل الخريف السماوي الذي خلقه الله سبحانه، فإن يوم 13/9 الذي مضى يذكّرنا بالخريف السياسي، الخريف الذي كان أبرز محطاته ومظاهره توقيع اتفاقية أوسلو يوم 13/9/1993 بين القيادة الفلسطينية ممثلة بياسر عرفات ومحمود عباس، وبين القيادة الإسرائيلية ممثلة بإسحاق رابين وشمعون بيرس ومباركة واستضافة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، وبحضور أصحاب جلالة وفخامة عرب.
جاءت اتفاقية أوسلو والتي صدق من وصفها بالنكبة الثانية للشعب الفلسطيني بعد نكبة 1948. جاءت أوسلو ثمرة من ثمار مؤتمر مدريد والحالة العربية المتردية التي ظهرت بعد غزو العراق للكويت وإقامة التحالف الدولي لتحرير الكويت بقيادة الولايات المتحدة والذي شاركت فيه عسكريًا أنظمة عربية مثل مصر وسوريا والأردن وطبعًا دول الخليج كلها. كان مؤتمر مدريد الذي عقد بعد نهاية الحرب وتدمير العراق محاولة من أمريكا لإرضاء حلفائها العرب بأنها ستكون جادة في حلّ القضية الفلسطينية كما كانت جادة في حلّ قضية احتلال الكويت من قبل العراق.
خلال هذا كان محمود عباس “أبو مازن” وبعلم ياسر عرفات يجري مباحثات مباشرة مع الإسرائيليين في أوسلو عاصمة النرويج. هذه المباحثات التي أفضت إلى توقيع اتفاقية أوسلو يوم 13/9/1993 والتي نصّت على إقامة حكم ذاتي للفلسطينيين على 22% من فلسطين التاريخية، وأن تكون البداية من غزة أريحا على مسافة 1.5٪ ثم بعد خمس سنوات الانتقال إلى ما تسمى مفاوضات الحلّ النهائي، بينما لم يتم الحسم ولا التفاوض في القضايا الشائكة مثل حق العودة واللاجئين والحدود والمياه والقدس الشريف بسبب إصرار المفاوض الإسرائيلي على ذلك.
قال المفكر الفلسطيني ادوارد سعيد عن اتفاقية أوسلو: “لقد حوّلت منظمة التحرير الفلسطينية نفسها من حركة تحرر وطني إلى ما يشبه حكومة بلدية صغيرة مع بقاء ذات الحفنة من الأشخاص في القيادة”.
ها قد مرّت 29 سنة على خريف أوسلو السياسي ولم تقم لا دولة ولا حتى حكم ذاتي حقيقي، وإنما قامت سلطة تعمل ذراعًا أمنيًا تنفذ ما يعجز الاحتلال عن القيام به. ليس أن المستوطنات لم يتم إزالتها من الضفة الغربية كما نصّت أوسلو، وإنما زاد عددها وزاد عدد المستوطنين من 150,000 يومها إلى أكثر من 700,000 مستوطن. وأما عن القدس وكيف تم إحاطتها بمعصم من المستوطنات حولها وكيف تم تنفيذ انقلاب ديموغرافي داخلها، وكيف تم إحداث نقلة نوعية في واقع المسجد الأقصى ومحيطه لصالح الاحتلال الإسرائيلي فحدّث ولا حرج مما يصيبك بالذهول.
ورغم 29 سنة فشل فيها رموز أوسلو فشلًا ذريعًا، زيادة على ترسيخ الانقسام وتعطيل الحياة النيابية وتعطيل المجلس التشريعي وإفشال مساعي الانتخابات، وبقاء أبو مازن على كرسي الرئاسة ينفذ بنود أوسلو كما هي، لا بل إنه يتطوع في كثير من الحالات لأكثر من ذلك.
لكن الذي لم يخطر على بال أبو مازن وشلّة المنتفعين حوله أن بريق أوسلو وأن خداع الوعود قد تبدد، وأن رغد العيش والرخاء الاقتصادي الذي ظنوا أن به سيغرقون أبناء الشعب الفلسطيني في مستنقع الرفاهية فإنه كذلك لم يتحقق. وأن التنسيق والعمالة الأمنية والمهمات القذرة في خدمة الاحتلال ومطاردة الشرفاء وفتح مسالخ سجن أريحا وسجن جنيد وغيرها لم تكسر إرادة الشعب الفلسطيني.
خريفهم وربيعنا
ليس فقط أوسلو تعيش خريفها وأن أبو مازن نفسه فإنه يعيش خريف عمره، الأمر الذي جعل قادة المؤسسة الإسرائيلية يتخوفون جدًا من سيناريوهات ما بعد أبو مازن ومعركة الوراثة التي تدور بين أقطاب وأذرع أبو مازن السياسية والأمنية خاصة أن كل واحد من هؤلاء يظن نفسه الأولى بوراثة أبو مازن، لا بل إن البعض منهم يستقوي بالاحتلال لضمان وصوله إلى كرسي الرئاسة.
وليس فقط أوسلو تعيش خريفها وليس فقط أبو مازن يعيش خريفه، وإنما هي المؤسسة الإسرائيلية التي تعيش كذلك خريفها وقد بلغت 74 سنة منذ إقامتها.
هذا الخريف الذي ظهرت ملامحه على أكثر من صعيد، وإن أدلة أنه في أقصى الحضيض أكثر من أن تحصى، هذا الخريف الذي تخوف منه قادة إسرائيليون كبار وصل بهم الأمر إلى حد التشاؤم وإمكانية عدم بلوغهم الثمانين من سنوات عمر مشروعهم وفق منطق التاريخ ومنطق الواقع والظروف التي يحيونها.
وعليه فإننا ننظر إلى كل ما يحصل نظرة الأمل والتفاؤل أن هذا الخريف السياسي قد أوشك أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، ومثلما أن الخريف لعمر الإنسان هو إذا بلغ السبعين وزيادة فإنه الدليل القطعي على أن المسألة هي مسألة وقت لإعلان تشييع صاحبه إلى مثواه الأخير.
ومثل الإنسان فإنها الأنظمة والدول ومنها سلطة العار في رام الله فإنها في خريفها وحتمًا سترحل. ومثلها الاحتلال الإسرائيلي ومشروعه الصهيوني فإنه حتمًا سيرحل، ومثلها أنظمة العمالة والخيانة لعرب ومسلمين هي كذلك في خريفها، ويوشك أن يكون ربيعًا عربيًا ثانيًا، بل هو شتاء إسلامي برقه يلمع ورعده يقصف وإنه لقادم، وما أكثر إرهاصاته التي لا تخفى إلا على أعمى البصر والقلب {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} آية 46 سورة الحج.
ولقد سبق وحذّر من هذا الشتاء بنيامين بين العيزر وزير حرب إسرائيل السابق لمّا قال بعد بداية ثورات الربيع العربي: “إن أخشى ما أخشاه أن هذا الربيع العربي سيتحول إلى شتاء إسلامي قارس”.
وبعد هذا الشتاء سيكون الربيع الأخضر عليه راية التوحيد، هو ما يعزّ به الله تعالى العرب والمسلمين ويسعد كل البشرية بعد شقائها، وكما قال شيخنا القرضاوي: “إذا كان القرن التاسع عشر هو قرن الرأسمالية والقرن العشرون هو قرن الشيوعية، فإن القرن الحادي والعشرين هو قرن الإسلام. وإذا كان القرن التاسع عشر هو قرن المسيحية والقرن العشرون هو قرن اليهودية “قيام إسرائيل” فإن القرن الحادي والعشرين هو قرن الإسلام “قيام دولة الخلافة الإسلامية الراشدة”. وكيف لا وقد قال قادة الغرب: نجحنا بإيقاف الخطر الأحمر “الشيوعية”، وأوقفنا الخطر الأصفر “الصين” بالتقارب معه ولم يبق أمامنا سوى الخطر الأخضر.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا..
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.